أفرز الانهيار الاقتصادي في لبنان ظواهر عديدة، منها تجارة وسرقة المحول الحفاز أو ما يعرف بـ"ديبو البيئة" والذي يحتوي على معادن ثمينة تقلل من انبعاثات المواد الضارة في بلد ينافس مصر عربيا، على معدلات تلوث الهواء
- لم تعلم الشابة اللبنانية ساميا يونس أن المحول الحفاز Catalyzer، أو ما يعرف بـ"ديبو البيئة"، سُرق من سيارتها، إلا بعدما سمعت أصواتاً قوية، ليتبين عقب الفحص المكانيكي عدم وجوده، غير أنها لا تعرف متى وأين حصلت عملية السرقة واستغربت حصول أمر كهذا، كما تقول.
ويوجد ديبو البيئة، أسفل السيارة عادة تحت مقعد الركاب الخلفي، وتساهم هذه القطعة في تقليل انبعاثات المواد الضارة نتيجة احتراق وقود المركبة، كما يقول جوني نخول، صاحب مؤسسة لتصليح السيارات، في جونيه شمالي بيروت، ويحتوي المحول على طبقة رقيقة من ثلاثة معادن ثمينة هي، البلاتين والبلاديوم (محفزان للأكسدة)، والروديوم (محفز مختزل)، وتعمل تلك المحفزات على تحويل ما يقارب 90% من المركبات الهيدروكربونيّة الضارة، وأوّل أكسيد الكربون، وأكاسيد النّيتروجين إلى ثاني أكسيد الكربون، وغاز النّيتروجين، وبخار الماء لحماية البيئة والإنسان، وفق شرح موقع AVTOTACHKI المتخصص في السيارات.
ظاهرة منتشرة
حالة ساميا، كوضع رانيا درباس، والتي تخبر "العربي الجديد" أنها تُسأَل في كلّ مرة تزور الميكانيكي عن رغبتها ببيع "ديبو البيئة" مقابل 200 أو 300 دولار أميركي لكنها كانت ترفض ذلك وتفضّل الإبقاء عليه في سيارتها، بعكس روني ضو الذي أخبره مكانيكي في بيروت أن الديبو تعطل فأخذه من دون أن يدفع له ثمنه ولم يكن يعرف أنّ هذه القطعة عادة ما يدفع ثمنها الميكانيكي للزبون عند فكّها لما فيها من مواد يمكن التجارة بها والاستفادة منها.
ويكشف استطلاع رأي غير قياسي أجراه "العربي الجديد" بمشاركة عشرين شخصاً، أن 9 منهم لا يوجد في سياراتهم "ديبو البيئة"، بينهم 3 سرق من سياراتهم بينما كانت مركونة أمام منازلهم، ولم يكتشفوا ذلك إلا بعد وقتٍ طويل عندما قصدوا محال تصليح السيارات، فيما أكد 6 منهم أنهم لا يعرفون ما إذا كانت الديبوات سرقت بعدما اشتروا السيارات، أم لم تكن موجودة من الأساس قبل عملية الشراء، أي جرى فكها قبل بيعها من المعرض الى زبائنه، أما البقية (11 شخصاً) فما يزال ديبو البيئة موجوداً في سياراتهم ولا يرغبون بالاستغناء عنه، وقالوا، أنه عُرِضَ عليهم أكثر من مرة وعند أكثر من ميكانيكي إلغاء ديبو البيئة وكانت النصائح ترتكز على أنه لا استفادة منه وأنه هدر للمال. في المقابل، قالت 3 فتيات إنهنّ اقتنعنَ بوجهة النظر هذه لعدم إلمامهنّ بالموضوع، وقبلن إلغاءه من دون أن يُعرض عليهم مال من الميكانيكي لشرائه، فاعتقدن أنهن وفّرن المال لقطعة غير مفيدة.
ويقوم بعض العاملين في تصليح السيارات بفك ديبو البيئة من دون معرفة الزبون بذلك، ومنهم من يفبركون قصة أن القطعة لم تعد صالحة ويفضّل فكها ويقنعون الزبون أن لا فائدة منها وأن تركيب واحد مستعمل يكلف بين 400 و500 دولار عندها يختار الزبون إلغاءه، بحسب نخول، والذي تابع: "هناك من يكون صريحاً مع الزبون وإن كانت القطعة لم تعد صالحة للسيارة يعرض عليه شراءها ابتداء من 100 دولار وحتى 300 أو 400 دولار حسب كل سيارة ونوعها".
لكن إلغاء هذه القطعة يلحق أضراراً بالسيارة ويؤدي الى زيادة نفقات استهلاك الوقود وظهور مشكلات مرتبطة بالمحرك بالإضافة إلى أن الغازات شديدة الضرر ستمر عبر نظام العادم وتدخل في الهواء الذي نتنفسه مباشرة، بحسب إفادة روي ونّوس مالك محل لتصليح السيارات في زحلة - البقاع، ويتفق مع نخول في أن "أشخاصاً كثرا يتم إقناعهم بإلغاء ديبو البيئة لأن لا فوائد له، وسعر شراء قطعة جديدة منه مرتفع وأنه من الموفر التخلص منه".
وسجل لبنان ومصر وسورية أعلى معدل من الوفيات المبكرة المقدرة سنويا لأسباب تعزى مباشرة إلى تلوث الهواء الناجم عن استهلاك الوقود الأحفوري، وبلغ متوسط العدد التقديري في لبنان 2.700 حالة في عام 2018، أي بمعدّل 4 وفيات لكل 10.000 شخص وتعتبر بذلك من أعلى المعدلات في المنطقة إلى جانب مصر، وفق ما جاء في تقرير "الهواء السام: الثمن الحقيقي للوقود الأحفوري"، الصادر عن منظمة السلام الأخضر (غرينبيس) الدولية، والذي قدر الكلفة السنوية لتلوث الهواء في لبنان بـ 1.4 مليار دولار أميركي، أي 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي (gdp) وهو ما يعد من بين الأعلى في المنطقة كذلك إلى جانب مصر.
ولا يدخل ديبو بيئة السيارة ضمن مجالات عمل نقاط الكشف الفني على السيارة وبالتالي فإنه غير مشمول بالفحص الميكانيكي أو عند تسجيل السيارة ما يجعل معرفة أعداد السيارات التي نُزع منها الديبو مستحيلاً بحسب إفادة رئيس مصلحة تسجيل السيارات والآليات في هيئة إدارة السير أيمن عبد الغفور.
وتطرأ مؤشرات كثيرة على السيارة، لا نعرف السبب وراءها، ولكنها قد تكون بسبب إلغاء الديبو، بحسب روي ونّوس، ومنها أن عبارة Check Engine (لمبة الصيانة)، تبقى مضاءة على شاشتها الإلكترونية، وبمجرد تشغيل السيارة صباحاً يمكن أن تفوح رائحة الوقود منها، كذلك في حال كانت النوافذ مفتوحة يقد تدمع عينا السائق نتيجة الانبعاثات التي تخرج من السيارة وتلوث البيئة، والتي ما كانت لتظهر في حال وجود الديبو لأنه يتخلص من هذه الانبعاثات السامة، إضافة إلى أن إزالته من السيارة يزيد استهلاك الوقود. كما يؤثر ذلك على صوت المحرك الذي يصبح عالياً ومزعجاً، علماً أن هناك من يزيلون هذه القطعة حتى يحصلوا على هذا الصوت القوي، وهم عادة أصحاب السيارات الرياضية.
البحث عن المعادن النفيسة
يبلغ سعر أونصة البلاديوم (31.10 غراما) 2828 دولارا، بينما سعر أونصة الروديوم فـ 28.400 دولارا، وأما البلاتين فيصل سعر الأونصة منه إلى 1.209 دولارات، وفق السعر المسجل على مواقع الاتجار بالعملات والمعادن الثمينة، مساء 22 إبريل/نيسان الجاري، وكثرت إعلانات شراء ديبو البيئة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتواصل "العربي الجديد" مع إحدى الشركات الموجودة في بيروت والتي عرضت عبر منشور على صفحتها، "شراء ديبو البيئة وبأعلى سعر، وكاش بالدولار الأميركي"، وتشتري الشركة ديبو سيارة من نوع "بي إم" موديل 2009 بسعر يبدأ من 550 دولارا والدفع نقدا عند التسليم، وفق ممثل الشركة والذي قال، عند فحص السيارة والديبو يمكن تحديد السعر، وفي حال تم الاتفاق تعطى لصاحب السيارة كفالة لسنتين، في حال حصل أي ضرر بها مرتبط بفك الديبو، وأضاف، "نحن لا نعمل على فك الديبو بشكل كامل، بل إفراغ الجزء الذي فيه المعادن منها، ونضع "فلتر" بدلا منها يفيد السيارة، ولكنه ليس حامياً للبيئة وكل هذه العملية تستغرق حوالي ساعة من الوقت، واحتمال تغير صوت المحرك يتراوح بين 3 الى 7 بالمائة كحد أقصى".
وتعمل الشركة على فك ما بين 20 الى 25 ديبو يوميا، كما يقول ممثلها موضحا أنهم ينتظرون حتى تصبح الكمية مناسبة لشحنها بحراً، وتختلف كمية المعادن في الديبو بين سيارة وأخرى حسب نوعها، طرازها، حجم المحرك، فمثلاً، سيارة "بي إم" موديل "نيو بوي"، يمكن تفريغ ما يقارب 26 غراما من المعادن الثلاث مجتمعةً، وفي الجاغوار تصل كمية المعادن الى 56 غراما، أما الرانج روفر فتحتوي على حوالي 32 غراما من المعادن الثلاثة، وتختلف أسعار بيع هذه المعادن، بحسب الشركة التي قالت إنّ أسعار المعادن تختلف يوماً بيوم مثل البورصة.
استعمالات مدنية وعسكرية
توجد استخدامات عدة لمعادن "ديبو البيئة" وخاصة البلاتين، والذي يستعمل في صنع المجوهرات، وأدوات مخبرية وطبية ولا سيما في طب الأسنان والحشوات المرتبطة بها، كما يمكن الاستفادة من البلاديوم للاستخدامات العسكرية وبعض جزئيات الصواريخ ومحركات الطائرات، بحسب ما أوضحه لـ"العربي الجديد" الخبير في الشؤون العسكرية، العميد خالد حمادة، وأضاف أن عملية استخراج معادن "ديبو البيئة" ليست صعبة، بل بسيطة يستعان فيها بفرن حراري، وإضافة إلى ما سبق يوضح نخول، أن الأمر يتم في درجات محددة، وبإضافة مواد مثل حمض النيتريك وحمض الهيدروكلوريك وغاز الكلور وما الى ذلك في مراحل يجب السير بها لفصل المعادن عن طبقة السيراميك المتواجدة داخل الديبو.
استعمالات مدنية وعسكرية متنوعة لمحول البيئة
ويقول صاحب محل قطع غيار للمركبات في بيروت فضل عدم الكشف عن اسمه حتى لا تتعرض تجارته للخطر، أنّه غالباً ما تتم التجارة بمكونات ديبو السيارة في الخارج ولا سيما مع سورية وإيران والصين، (المعادن هذه تستخدم لغايات مدنية وعسكرية)، إذ ترسل المعادن مباشرةً، بعد تفكيكها واستخراجها، ويوجد في بيروت 5 من كبار التجار يعملون فقط في مجال تجارة ديبو البيئة.
ووثقت "العربي الجديد" خلال عملية بحث عن الصفحات التي تعرض شراء ديبو البيئة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أو موقع "OLX" الإعلاني التجاري، أن العديد من إعلانات الشراء تأتي من من كاراجات في مناطق في الشياح، والغبيري بالضاحية الجنوبية لبيروت.
وتعددت الأسعار المعروضة من هذه الكاراجات نقداً وبالدولار الأميركي، ابتداء من 300 دولار وحتى 1000 دولار. ويؤكد مصدر رسمي في قوى الامن الداخلي، أنّ الأمر يدخل ضمن نطاق تجارة عالمية ليست فقط في لبنان، موضحا لـ"العربي الجديد"، أنه يتم تسجيل سرقات من هذا النوع في كل دول العالم، نظراً لما يحتوي عليه ديبو البيئة من معادن ثمينة يمكن استخراجها والاستفادة منها في تصنيع المجوهرات، والأسلحة، والمعدات الطبية، قائلا: "من الصعب جداً مكافحة هذه الظاهرة ولا سيما في الظروف التي يعاني منها لبنان، والضائقة الاقتصادية الحادة، التي تدفع بالمواطن اللبناني للبحث عن أي سبيل للاستفادة من المال أو الحصول عليه سواء التاجر أو حتى صاحب السيارة الذي بات يجد تصليح السيارة مكلفا جداً بالنظر إلى ارتفاع سعر صرف الدولار وتسعير قطع السيارة وفق سعر الصرف الرسمي الذي تخطى في السوق السوداء أو الموازي عتبة الخمسة عشرة ألف ليرة لبنانية".
توقيف 12 شخصاً لسرقتهم ديبو البيئة خلال عام 2020
وجرى توقيف 12 شخصاً لسرقتهم ديبو البيئة من السيارات إذ رصدت كاميرات المراقبة التي كانت موجودة بقرب السيارات هويات المتهمين، وتم تركهم لقاء مقابل كفالات مالية تصل الى غرامة بقيمة 400 ألف ليرة تقريباً أي حوالي 265 دولارا أميركيا وفق سعر الصرف الرسمي 1515 ليرة، بحسب المصدر، والذي قال إنه من الصعب توقيف المرتكبين نظراً لسهولة عملية السرقة وعدم التمكن من إثبات وجود جرمٍ، وهو ما يؤكده نخول قائلا إن "سرقة ديبو البيئة سهلة جداً ويمكن بمجرد الجلوس تحت السيارة واستخدام أدوات بسيطة فكّه وأخذه ببضع دقائق فقط ويمكن لأي شخص، حتى لو لم يكن ميكانيكيا القيام بذلك".