يخسر أميركيون أعواماً طويلة من حيواتهم في السجون، نتيجة إدانتهم بشكل خاطئ استناداً إلى أدلة ملفقة أو بسبب كذب الشرطة وتضليلها للمتهمين حتى لو كانوا قصّر، وهو ما يعد "فعلاً مؤسسياً" تدفع الأقليات ثمنه الأكبر.
- نال الأميركي شاتيك لانير في 9 ديسمبر/كانون الأول 2021، براءته عقب 9 سنوات من السجن بسبب إدانة خاطئة بمحاولة قتل من الدرجة الثانية، والاعتداء من الدرجة الأولى، والاستخدام الإجرامي لسلاح ناري، بعد اعتقاله في 1 يونيو/ حزيران 2012، بتهمة إطلاق النار على جيريل ريد البالغ من العمر 17 عاما أثناء وقوفه أمام منزله في نيويورك، وإحالته في يناير/ كانون الثاني 2013 إلى المحاكمة.
وبحسب تفاصيل قضيته المنشورة على موقع السجل الوطني لقرارات البراءة (يوفر بيانات شاملة عن حالات تبرئة لمتهمين جنائيين)، فإن قضية الادعاء اعتمدت بشكل شبه كامل على شاهدين زعما أنهما تعرفا إلى لانير، رغم أن ريد قال في إفادته إنه لم يتمكن من التعرف إلى مطلق النار لانقطاع التيار الكهربائي وقت الحادثة، لكن هيئة المحلفين أدانت لانير، وحكمت عليه بالسجن 20 عاما.
كيف تقع الإدانات الخاطئة؟
في أغسطس/ آب 2017، منحت قاضية مقاطعة رينسيلار ديبرا يونغ جلسة استماع إلى لانير بشأن التماسه لإجراء محاكمة جديدة، وبحلول ذلك الوقت، تراجعت شاهدة عن إفادتها أمام المحكمة واعترفت بأن المحقق أرغمها عام 2012 على شهادة الزور وهي تحت تأثير المخدرات ولم تتمكن من اتخاذ قرارات منطقية.
رغم ذلك رفض القاضي في 15 أغسطس 2018 إجراء محاكمة جديدة، مشيرا إلى تناقضات في معلومات قدمها الشهود. واستأنف ريتشارد ليفيت، محامي لانير، الحكم، حتى ألغت دائرة الاستئناف في 19 فبراير/ شباط 2021 إدانات لانير.
وتعد السنوات التسع التي ضاعت من عمر لانير بسبب إدانة خاطئة جزءا من 27.080 عاما، تمثل مجموع سنوات الإدنات الخاطئة لـ 3105 أميركيين تمت تبرئتهم منذ عام 1989 وحتى مايو/ أيار الجاري، إذ يتم إعلان 200 حالة براءة سنويا لأشخاص تم حبسهم استنادا لإدانات خاطئة قائمة على كذب الشرطة أو تقديم أدلة خاطئة او ملفقة، بحسب موقع السجل الوطني لقرارات البراءة.
30% من حالات كذب الشرطة على القاصرين تنتهي باعترافات خاطئة
وتستخدم الشرطة الكذب على المتهمين للحصول على معلومات تفيد التحقيق من وجهة نظر النيابة، مثل أن يتم إدخال مخبر إلى الزنزانة يتظاهر بأنه مسجون في قضية كبرى، بينما يحاول التقرب من المساجين الآخرين للحصول منهم على اعترافات أو معلومات تفيد النيابة، وإذا حصل على كلمة واحدة يمكن استخدامها ضد الموقوف، فيصبح المخبر شاهدا في القضية ومن هنا يمكن إدانه المتهم، وهو ما يحدث في معظم الأحيان في القضايا التي لا يوجد فيها دليل مادي ضد الموقوفين، وهذه العملية تسمى perkin operation، أي استجواب من ضابط شرطة متخفٍ، وفق ما توثقه جمعية Prison reform (إصلاح السجون)، عبر حالات المسجونين بسبب إدانات خاطئة، ومنهم مؤسس الجمعية كلايد بيسلي، وهو أميركي من أصول أفريقية أُفرج عنه في مارس/ آذار عام 2021، بعدما قضى 6 سنوات في سجن ولاية كاليفورنيا شديد الحراسة بعد إدانته مع 4 أشخاص آخرين في جريمة قتل رجل في لوس أنجليس عام 2015، وقُبض عليه لوجوده في مسرح الجريمة والعثور على عضة تشبه أسنانه، وبعد 6 سنوات استطاع بيسلي إقناع المحكمة بفتح التحقيق مرة أخرى، وإجراء تحليل الحمض النووي الذي أثبت عدم وجود آثار له في مكان الجريمة، ما أكد براءته، ليتم الإفراج عنه وتعويضه بـ 6 ملايين دولار، كما يقول لـ"العربي الجديد".
ويشرح بيسلي أن الهدف من كل هذه الأساليب هو إدانة المتهم، "فالنيابة لا تبحث عن الحقيقة ولكن عن إدانة"، على حد قوله، وهو ما حصل معه فعليا، إذ فوجئ بأحد رفقاء الزنزانة يقوم بتعريف نفسه للمحكمة ويقوم بدور شاهد الإثبات للنيابة، ويشهد ضده في جريمة قتل لم يكن موجودا في مسرح وقوعها.
ما سبق يؤكده عارف الخطار، أستاذ العدالة الجنائية في جامعة كاليفورنيا، قائلا إن من يقف وراء الإدانات الخاطئة هي الشرطة ثم تؤكدها النيابة ويوثقها القضاء، وهو ما يعد سوء استخدام للسلطة وتوظيفا لعمليات الترهيب والإيذاء في التحقيق، مستدركا بأن إجراء فحص الحمض النووي DNA أحد أهم الأدلة الجنائية المادية لإثبات الحقيقة، ما حدا بولايات كثيرة إلى أن تشكل لجانا خاصة لإعادة فحص قضايا قديمة، وتم اكتشاف الأخطاء بمبادرة من الحكومة ومنظمات مجتمع مدني.
تضليل القصّر
في يناير/ كانون الثاني عام 1991، أُدين فرانسيسكو كاريلو بارتكاب جريمة قتل، إذ كان في ذلك اليوم و6 مراهقين يقفون على رصيف يتحدثون أمام منزل في ضاحية لينوود في لوس أنجليس، حينها مرت سيارة أطلقت من داخلها رصاصتان أسفرتا عن مقتل أحد السكان، فأحضرت الشرطة 6 شهود أقروا بأن كاريلو كان مطلق النار، وأدين بناءً على ذلك، وهي من أشهر القضايا التي كذبت فيها الشرطة على القصّر، بحسب المحامي روبرت فينتي، الذي يعمل في مكتبه الخاص في لوس أنجليس.
ورغم تراجع الشاهد الذي حدد في البداية أن كاريلو هو مطلق النار قبل المحاكمة الثانية، لكن النيابة شرعت بالمحاكمة واعتمدت على شهادة المتبقين وتمت إدانته، لكن جميع شهود العيان تراجعوا عن شهاداتهم بعد 20 عاما في جلسة استماع بشأن اقتراح لمحاكمة جديدة، واعترفوا بأن شرطة سان دييغو كانت قد أحضرت لهم صورة فرانكي فقط، وزودتهم بمعلومات دفعتهم للشهادة ضده، وبناء على ذلك تمت تبرئة فرانكي عام 2011، وفق المحامي فينتي، وبعدها حصل على تعويض بقيمة 683.300 دولار، كما رفع دعوى قضائية فدرالية تتعلق بالحقوق المدنية مطالبا بتعويضات من مدينة لوس أنجليس وحصل على 10.1 ملايين دولار، بحسب تفاصيل قضيته التي نشرها موقع مشروع شمال كاليفورنيا للبراءة التابع لكلية الحقوق في جامعة سانتا كلارا.
المدانون بالخطأ من أصول أفريقية أكثر بـ7 مرات من البيض
ويعدّ الكذب على المتهمين "فعلاً مؤسسياً"، كما وصفته دراسة أجرتها منظمة إنفاذ القانون الوطنية National law Enforcement (ائتلاف من اتحادات وجمعيات الشرطة في أميركا لتعزيز المناصرة التشريعية والسياسية)، حول الاعترافات الكاذبة بين الأطفال الذين تراوح أعمارهم ما بين 15 و16 عاما، نشرت في مجلة الطب النفسي الشرعي وعلم النفس في عام 2009، وتؤكد أن 30% من الحالات التي تكذب فيها الشرطة على القاصرين في التحقيقات تنتهي باعترافات خاطئة، ما دفع ولايات إلى تجريم الكذب على المتهمين القصّر، ومنها ولاية إلينوي، التي أقرت القانون رقم 2122، الذي يجرّم الأمر، ودخل حيز التنفيذ عام 2022.
هل الأقليات أكثر عرضة لتلفيق التهم؟
يشير الدكتور نهاد عوض، الرئيس التنفيذي لمجلس العلاقات الإسلامية الأميركية "Cair"، إلى أن الحكومة الأميركية عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، أنشأت ما يسمى FBI Watchlist أو قائمة المراقبة، وضمت أكثر من مليون أميركي مسلم، وبسببها دُمرت حيوات البعض نتيجة القبض عليهم وإخضاعهم لمحاكمات غير عادلة، ويواجهون مشاكل جمة في المطارات، معتبرا أن "الحكومة ضللت العدالة لتركز على مجتمع المسلمين في أميركا"، ويشير إلى استطلاع نفذه المجلس بعد 20 عاما من أحداث سبتمبر أظهر أن 69% من المسلمين المشاركين في الاستطلاع واجهوا نوعا ما من العنصرية والاضطهاد.
ويتفق إيرك مييك، مدير منظمة الصندوق المالي للدفاع عن المسلمين بمدينة دالاس في ولاية تكساس، مع عوض في أن تأثير هيستريا الحادي عشر من سبتمبر على المحلفين واضح جدا في العديد من القضايا، بخاصة أن النظام القضائي يعطي مزايا غير محدودة للنيابة على عكس المتهم، فعندما تدعي الحكومة بأن هناك اختراقا أو خطرا على الأمن القومي من قبل متهم فلا بد لهذا الأخير من أن يثبت براءته قبل أن تثبت الحكومة أنه مدان.
وعلى صعيد ذوي الأصول الأفريقية، فإن دراسة الاعترافات الكاذبة بين الأطفال تظهر أن عدد المدانين بالخطأ من أصول أفريقية أكثر بسبع مرات من عدد المدانين خطأ من أصول بيضاء، ويعزو المحامي كمال نعواش، الذي يعمل في مكتبه الخاص في واشنطن، ذلك إلى أن المواطنين السود يعيشون في مناطق ذات معدل جريمة مرتفع، وتعمل الشرطة في ظل ظروف صعبة في هذه المناطق، وعند التحقيق في جرائم القتل يكون من الصعب جدا تحديد الفاعل لانتشار السلاح والمخدرات والقتل.
حصانة أفراد الشرطة
يتمتع أفراد الشرطة بحصانة قانونية، وفق فينتي، استنادا إلى مبدأ قانوني أقرته المحكمة العليا الأميركية عام 1967 يقضي بعدم محاسبة ضباط الشرطة قانونيا أثناء تأدية وظيفتهم كونهم يتمتعون بـ"الحصانة المؤهلة" والتي تحمي الشرطة من الدعاوى القضائية ما لم يتمكن المدعون من إثبات أن الشرطة انتهكت حقوقهم، ونتيجة لذلك، لا يتم عرض العديد من القضايا على المحاكم، وغالبا ما يتم رفض القضايا التي يتم تقديمها ضد الشرطة، أما الإجراء المتبع في حال ثبوت إدانة شخص بشكل خاطئ فهو تعويض الشخص ماليا بعد تبرئته برفع قضية مدنية على جهاز الشرطة في الولاية، وينتهي الأمر بأن يتحمل دافعوا الضرائب التعويضات.
ويعتبر مييك أن هناك حاجة ملحة لإصلاح نظام العدالة على جميع المستويات من ضباط شرطة، ووكلاء نيابة وقضاة، محيلا المسؤولية إلى وزارة العدل الأميركية في ذلك، وكثيرا ما يثار النقاش على مستوى الكونغرس الأميركي وفي الحملات الانتخابية لإصلاح نظام العدالة، لكنه ينتهي فقط بالحديث عن التعديل دون تطبيق شيء، إلا أن الكونغرس الأميركي قدم تقارير لسلطات التحقيق تحضها على التوسع في استخدام الطب الشرعي وفحص الحمض الوراثي في قضايا القتل والاغتصاب، كما مرر القانون رقم 3086 عام 2015 والذي يمنع محاسبة ضحايا الإدانات الخاطئة ضريبياً على مبالغ التعويضات التي يتسلموها تعويضاً عن إدانتهم بالخطأ، بحسب قوله.
وتأتي أميركا في صدارة دول العالم في عدد المساجين بإجمالي 2.1 مليون مسجون، وفقا لبيانات المكتب الفيدرالي للسجون التابع لوزارة العدل التي حصرت العدد حتى بداية عام 2020، ونتيجة لتزايد الإدنات المستندة لأدلة وشهادات خاطئة أصبحت أحكام الإعدام تأخذ سنوات قبل تنفيذها أملا في صدور أدلة جديدة قد تفيد المحكوم بالإعدام، بحسب مديرة مشروع الساحة الخلفية في معهد فيرا للعدالة (منظمة بحثية غير ربحية) في نيويورك، جاسمين هس، مضيفة أنه منذ عام 1989 حتى الآن تم إلغاء أحكام إعدام 2000 شخص على الأقل، قررت 22 ولاية بالإضافة إلى العاصمة واشنطن إلغاء تنفيذ أحكام الإعدام تماماً، كما قرر حاكما ولايتي كاليفورنيا وأوريغون تعليق أحكام الإعدام لحين التصويت على إلغائها نهائياً من قبل المجالس التشريعية في الولايتين، ما يوضح حجم مشكلة الإدانات الخاطئة.
كيف يحصل المُدانون بالخطأ على براءتهم؟
عندما يخسر الشخص حقه الدستوري في المحاكمة وتتم إدانته، يتولى الأمر المحامي الجنائي ويرفع التماساً إلى المحكمة يسمى postconviction relief، وهو إجراء يسمح للمدان بفتح القضية مرة أخرى حال ظهور أدلة جديدة، وأحياناً ينتظر المدان عشر سنوات قبل النظر في أدلته الجديدة، وبمجرد فتح القضية وإثبات وجود أدلة جديدة يقوم المحامي برفع دعوى أخرى تسمى Motion to vacate أي دعوى لإنهاء الجرم، لكن المحامي أحيانا لا يستطيع إخلاء سبيل المتهم لأن ذلك يتطلب اقتناع النيابة بأدلة البراءة أولاً حتى تتنازل عن لائحة الاتهام وإنهاء العقوبة، بحسب محامي الهجرة فرانك رونزيو، من مدينة لوس أنجليس بولاية كاليفورنيا، والذي دافع عن مهاجرين من أميركا اللاتينية أدينوا بالخطأ في قضايا عديدة.
وهناك أسلوب آخر يتبعه المدانون بالخطأ لإخلاء سبيلهم وهو طلب العفو من حاكم الولاية الذي يمتلك السلطة لإصدار العفو عن المسجونين في القضايا ذات الطبيعة غير الفيدرالية.
ويؤكد رونزيو على أن إصلاح القضاء يستلزم تشريعا مسؤول عن إصداره النواب من الحزبين، إذ تؤثر سياسات أي إدارة على أسلوب قيام أفراد إنفاذ القانون بعملهم، فأساليبهم في ظل إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ومن قبله باراك أوباما مختلفة تماما عن ما حدث تحت إدارة دونالد ترامب.