استمع إلى الملخص
- يعاني القطاع الصحي في غزة من تدمير ممنهج ونقص حاد في الكوادر والمعدات، مما يجبر الأطباء على اتخاذ قرارات صعبة بشأن العلاج. تستمر الطواقم النرويجية في تقديم الدعم وتوثيق الانتهاكات.
- تلعب منظمة نورواك دوراً في توثيق مشاهدات الأطباء، حيث ينقلون الحقائق عبر الإعلام والمحاضرات، مؤكدين على أهمية الدعم الدولي لوقف استهداف المدنيين والطواقم الطبية.
يوثق "العربي الجديد" شهادات طواقم طبية نرويجية عادت من غزة، ابتداءً من تعقيدات الدخول التي مارسها الاحتلال الإسرائيلي بحقهم، ومروراً بالأهوال التي شهدوها بأعينهم مع زملائهم الفلسطينيين الذين فقدوهم في الحرب الدائرة.
- ضبط جرّاح العظام النرويجي، ثور أرلينغ انغيمير، أعصابه بصعوبة بالغة، ولجم مشاعره حتى يتمكن من أداء عمله في بتر قدم فتاة غزيّة تبلغ من العمر 13 عاماً في مستشفى كمال عدوان شماليّ القطاع.
"كانت في عمر أطفاله، وفقدت ساقها، وقبلها أشقاؤها الستة، ووالدها" يقول انغيمير، الذي كافح كثيراً حتى لا ينهار أمامها، رغم أن خبرته تستدعي ضبط انفعالاته، خصوصاً أنه يشغل منصب رئيس الأطباء في مركز تابع لبلدية مدينة ليلي ساندس بمقاطعة أغدر Agder (جنوب)، لكن مدة عمله في غزة التي استغرقت خمسة أسابيع ضمن بعثة لجنة المعونة النرويجية - نورواك Norwac Aid Committee (غير حكومية تقدم الخدمات الطبية إلى ضحايا الصراعات)، لا تضاهي مآسيها كل ما رآه قبلها.
خلال عمله في مستشفى العودة بمخيم النصيرات وسط القطاع ومستشفى كمال عدوان، كان يخرج من صدمة ليدخل في أخرى، حتى إنه بات مذهولاً أمام أطفال من غزة كانوا لا يصرخون، ولا يبكون، رغم ما لحق بأجسادهم من إصابات قد تؤدي إلى خسارة أجزاء منها، بينما في المستشفيات النرويجية، لا يتوقف صراخ الأطفال عند تعرّضهم لأقل إصابة، ومن غير المنطقي مقارنة آلامهم بما يعانيه أطفال غزة الذين خسروا العائلة والأصدقاء والمنزل والمدرسة، وكل ما يعرفونه مُزِّق في غضون دقائق، "فالأمر قاسٍ جداً باعتباري أباً لطفلتين في سنّ المراهقة، ما رأيته ترك جرحاً غائراً في النفس"، يوضح الطبيب.
هذه الآلام التي حملها انغيمير معه إلى النرويج بعد العودة من غزة، يشترك فيها مع أطباء آخرين خدموا في مشافي القطاع منذ بدء العدوان الإسرائيلي في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023، والتقاهم "العربي الجديد" لتوثيق شهادتهم على ما رأوه من جرائم جيش الاحتلال بحق الفلسطينيين.
دروب الخوف والآلام
الوصول إلى غزة ليس سهلاً، حتى للأطباء الذاهبين في مهمة إنسانية، كما يقول اختصاصي أمراض القلب والصدر في مستشفى جامعة أوسلو ورئيس بعثة نورواك، إيريك فوسي، الذي بدأ رحلته بمعية فريق مؤلف من جراح وممرضتين ذهبوا إلى مصر عقب نشوب الحرب بثلاثة أيام، من أجل التنسيق ودخول غزة عبر معبر رفح، وكان بصحبتهم الطبيب النرويجي مادس غيلبرت الذي لطالما تنقل بين مناطق الصراع لتقديم الخدمات الطبية. حينئذ بدأ التعاون مع منظمة الصحة العالمية، باعتبارها المسؤولة عن إدخال أطباء دوليين، لكن استغرق الأمر حتى شهر يناير/ كانون الثاني من عام 2024، وحينها حصل الفريق الطبي على إذن من إسرائيل بالدخول.
يعرقل الاحتلال وصول الأطباء المتطوعين إلى غزة ويحدد عددهم
تكررت التجربة مرتين مع جراح العظام في مستشفى أوليفال بأوسلو، غاير أندرسن، الذي رافق بعثة نورواك الطبية أول مرة في يناير، وعاد للخدمة في القطاع خلال إبريل/ نيسان الماضي، ولا تقارن تلك التعقيدات بما عاشه من قبل في حروب سابقة، إذ عمل في غزة من قبل سبع عشرة مرة، كانت أسهل في الدخول والخروج والتعليمات واضحة، لكن خلال مراحل الحرب الجارية تغيرت التعليمات، ولم يعد متاحاً أمام الأطباء الولوج إلى القطاع عبر معبر رفح، وبات يتعين عليهم السفر عبر معبر كرم أبو سالم، والمرور بأراضي الداخل الفلسطيني المحتل وصولاً إلى غزة. ولا يقتصر التشديد على إجراءات الدخول، بل على عدد أفراد الطواقم الطبية التي يسمح لها بالمرور، ما دعا منظمة الصحة العالمية إلى اختيار الأطباء وفق الاختصاصات ذات الأولوية التي تحتاجها مستشفيات القطاع في هذه الظروف القاسية.
ولا ينحصر التعنت الإسرائيلي في منح إذن الدخول فحسب، "بل إن الانتقال من جنوب القطاع إلى شماله مليء بالرعب حتى وإن تعلق الأمر بسفر طاقم طبي"، كما تقول الممرضة النرويجية، سولفاي راتشي غارد، التي عملت في مستشفيات غزة مع فريق منظمة نورواك لمدة ثلاثة أسابيع، وعادت إلى بلادها في بداية شهر مايو/ أيار الماضي. "فصوت الرصاص والقصف لم يتوقف طوال مسيرنا في الطريق إلى الشمال". تستذكر غارد مشاعر الخوف التي لازمتها وقشعريرة بدنها، وتكمل بقولها إن الوضع كان يستدعي من منظمة الصحة العالمية متابعة التنسيق مع كل من حركة حماس والجيش الإسرائيلي طوال الوقت لضمان وصول الطاقم الطبي بأمان، لكن كان من الصعب جداً، كما تقول غارد، إدخال أدوات طبية إلى الشمال، إذ كان معهم شاحنة تحمل مئة كيلو من الأدوية والمعدات الطبية والوقود، وعلى الحدود الفاصلة بين الجنوب والشمال أعادها جيش الاحتلال لتظل في الجنوب، لكن ما عانته لم يثنها عن عملها الإنساني و"رغم خطورة الطريق بين شمال غزة وجنوبها، في المرة القادمة سأرافق فريقاً طبياً وسنتوجه على الأرجح إلى الشمال"، تقول غارد.
الأطباء مضطرون إلى المفاضلة بين الحالات
يضطر الأطباء في مستشفيات القطاع إلى إجراء مفاضلة واختيار من يُعالَج على أساس تقييم الإصابة وحالة المريض وإمكانية شفائه أو لا، وهو إجراء مؤلم اضطروا إليه بسبب النقص الشديد في الإمكانات وأفراد الطاقم الطبي الذين ينقسمون بين شهيد ومعتقل ونازح. في المقابل، يستمر تدفق الإصابات الضخم، بحسب ما عاينه الجراح أندرسن في مستشفى غزة الأوروبي بخانيونس جنوبي القطاع، وكذلك في مستشفى العودة الذي خدم به في إبريل الماضي، وكان الفريق الطبي النرويجي يتدخل للمساعدة في تقديم المطلوب للحالات التي يقع عليها الاختيار.
"المشافي تفتقر إلى كل شيء"، كما شاهد فوسي بعينيه، وعلى مدار شهر من عمله في غزة، كان اثنان من المستشفيات يعملان، هما مجمع ناصر الطبي في خانيونس، ومستشفى الأقصى في شمال القطاع، ولديهما عدد أسرّة محدود، وما يبذلانه قياساً بالكثافة السكانية لمدينة غزة محدود. أما المستشفى الأوروبي، على سبيل المثال، يعاني وضعاً صعباً جداً، وتسوده الكثير من الفوضى، وحتى اليوم يهدد نقص الوقود المرافق الصحية في القطاع، وفق ما أعلنته وزارة الصحة الفلسطينية في نداء استغاثة نشرته في 8 أكتوبر الجاري.
ونقل فريق نورواك معه معدات مثل المعاطف والضمادات والقفازات المعقمة، بحسب ما ترويه ممرضة غرفة العمليات هيلدا فولان، التي تنقل خلال حديثها لـ"العربي الجديد" تفاصيل حالة المرضى في غرفة العمليات في المستشفى الأوروبي حيث عملت ضمن بعثة نورواك الطبية، إذ يستلقي المصابون مباشرة على الأسِرّة المليئة بالقيح والدم من المرضى السابقين، "وفي يوم ما، وصلت مقطورة تحمل معاطف معقمة، فكر الفريق الطبي أنه يمكن استخدامها كغطاء معقم للمرضى الذين يخضعون للعمليات"، لكن النقص الأكبر في المستشفى يتمثل في عدد العاملين الصحيين، الذين يخشون أن يصبحوا أهدافًا للقناصين، أو أن يتم القبض عليهم.
وهذه نتيجة حتمية للتدمير الممنهج للقطاع الصحي في غزة، إذ وصل إجمالي المستشفيات التي أخرجها الاحتلال عن الخدمة إلى 34 مشفى، بالإضافة إلى 80 مركزاً طبياً، و162 مؤسسة صحية، و131 سيارة إسعاف، ما أدى إلى استشهاد 885 فرداً من كوادر الطواقم الطبية، إلى جانب اعتقال 310 منهم، لينقص عددهم، وبخاصة أطباء الجراحة الذين هم أصلاً قليلون في غزة، كما تؤكد بيانات المكتب الإعلامي الحكومي الصادرة بتاريخ 15 سبتمبر/ أيلول 2024.
وهذا الاعتداء الذي طاول العاملين في القطاع الصحي والمستشفيات يصفه فوسي بأنه مقصود ومُوجه، بينما رآه أندرسن "أمراً مؤثراً"، خصوصاً أنه على معرفة بممرضين وممرضات وأطباء قتلوا، مثل الجراح عدنان البرش، رئيس قسم العظام في مستشفى الشفاء، الذي استشهد تحت التعذيب في سجن عوفر الإسرائيلي، إذ زامله عشر سنوات، عدا ذلك، فإن الدمار الهائل الذي رآه أندرسن في هذه الحرب لم يسبق أن شاهده أو تصور وقوعه، وخصوصاً أنه لم يقتصر على المنازل، بل طاول المشافي والجامعات وكل شيء.
منظمة الصحة تكلف نورواك توثيق مشاهداتهم
تحصل Norwac Aid Committee على دعم كبير من وزارة الخارجية النرويجية، ولديها علاقات وطيدة وحوار متبادل مع السلطات حول ما شاهده الأطباء المتطوعون في غزة، كما ترفد الفرقُ الطبية التي وصل عددها إلى أربعة منذ بداية الحرب، الإعلام النرويجي بتقارير عما يحدث في غزة في أثناء فترة عملهم هناك، بحسب فوسي، مؤكداً: "لا نأخذ موقفاً سياسياً مما يحدث، بل فقط نرسل ونوثق ما يجري".
منظمة الصحة العالمية كلفت فريق نورواك توثيق مشاهداتهم
وعن الشعور بالمسؤولية، وتحديداً في عملية توثيق مشاهدات الفريق الطبي، يقول أندرسن إن منظمة الصحة العالمية أوكلت لنا مهمة توثيق ما يجري بقولها: "إننا أعين للعالم على الأرض بخاصة في ظل غياب أي إعلام دولي غربي في غزة".
وتحرص الممرضة سولفاي غارد على نشر حقائق عن المعاناة التي كانت شاهدة عليها وعن التجارب التي عاشتها، عبر إلقاء محاضرات في المستشفى الذي تعمل به في تروندهايم (شمال النرويج)، بالتعاون مع منظمة إنقاذ الأطفال (بريطانية غير حكومية). "مع ذلك، فإن مشاهدة الأخبار في الإعلام بالطبع هي شيء مختلف عن معايشة ما يجري على الأرض"، تقول غارد التي تنشر بين الفترة والأخرى صوراً لغزة المدمرة التقطتها بينما كانت هناك.
مراكز إيواء أم مشافٍ؟
عاش الطبيب فوسي في المشفى الأوروبي لمدة شهر خلال يناير الماضي، ويصف حياته بأنها كانت ضمن مخيم لجوء يضم 25 ألف شخص جاؤوا من كل فجّ عميق في القطاع، ويتوزع النازحون في حديقة خلفية كبيرة للمستشفى، وداخلها وخارجها، وهو أمر غير معقول، لأن عددهم يقارب سكان مدينة صغيرة في النرويج، على حد وصفه، خصوصاً أنهم بحاجة إلى الغذاء واستعمال المرافق الصحية والعديد من المتطلبات الحياتية، ما أضاف عبئاً على إدارة وطاقم المستشفى المرهق أساساً.
"هناك نازحون في كل مكان" يصف أندرسن حالة المستشفى الأوروبي، في إشارة إلى أعداد كبيرة منهم حتى في مدخل المستشفى، وعلى الأدراج، وفي كل ممر داخل المبنى، إلى جانب آلاف الخيام في الباحة، معظمهم فرّوا من مدينة غزة والشمال، وكان الوضع سيئاً جداً بالنسبة للنازحين داخل المشفى من حيث الناحية الصحية والنظافة، الطعام والشراب بالإضافة إلى عدم وجود مرافق صحية.
أما مستشفى العودة، فقد خلا من النازحين خلال الفترة التي كانت فيها غارد أواخر إبريل الماضي، إذ قررت الإدارة عدم استقبال المزيد، نظراً لتبعات ذلك على المرضى وعلاجهم، بالإضافة إلى مخاطر استهداف المستشفى بالقصف.
ورغم أن إسرائيل تتذرع بأن عناصر من حماس يختبئون داخل المستشفيات، فإن فوسي ورفاقه لم يشاهدوا أي جندي داخلها، كما يقول الطبيب الذي عمل في غزة خلال حروب مختلفة (2009 و2014 و2021) وأثناء خدمته لم ير أي عسكري داخل المؤسسات الطبية، ما يؤكد أن هدف الهجمات الإسرائيلية هو البنية التحتية. وما يدعم ذلك أن الأطباء المعتقلين لا يؤدون أي دور عسكري في غزة، على الرغم من أن حماس تسيطر على القطاع منذ 2006"، يضيف الطبيب، مؤكدا عدم وجود مبرر يجعل الأطباء هدفا للاعتقال أو القتل من قبل إسرائيل.
تؤيده غارد التي تصف قتل الطواقم الطبية بـ "الفظاعة"، عدا عن أنه أمر محظور في القانون الدولي، "ولا تفهم حتى الآن كيف يسمح العالم باستمرار هذه الأفعال واستهداف المدنيين والأطباء والممرضين".
مشاعر متناقضة
رغم الإرهاق الجسدي والنفسي الذي ألمّ بالطبيب فوسي نتيجة العمل في ظل ظروف صعبة مع وجود إصابات خطيرة وقت الحرب والحالة الإنسانية المزرية التي يعيشها الناس في غزة، إلا أن بؤس الناس ومصائبهم كانت أكبر، إذ هُدمت 80% من المنازل بشكل كامل، ومستقبل الأطفال والشباب التعليمي والمعيشي غير واضح المعالم بعد نسف المدارس والجامعات، إلى جانب الافتقار إلى الغذاء والمياه النظيفة والدواء ما يهدد الصحة العامة، خاصة أن الأهالي ينزحون باستمرار إلى أماكن تقول إسرائيل أنها آمنة، ليتم قصفها فيما بعد بحجة وجود قيادي لحماس وينتهي الأمر بوقوعهم قتلى وجرحى.
ساهم أندرسن في علاج المصابين ما يشعره برضى لكن الأمر الأهم حسب قوله، شعور الأطباء الفلسطينيين بوجود دعم ومساندة لهم من قبل زملائهم.
المشاعر ذاتها تعبر عنها غارد، التي أقنعت نفسها بأن مساعدة بعض الأشخاص أفضل من عدم فعل شيء، لتتخطى شعور الرعب الذي لازمها خلال عملها في غزة، وتندفع إلى المساعدة في إنقاذ الأرواح وبخاصة الأطفال.
وحتى اليوم، يتذكر فوسي بحزن الفتاة التي حاول إنقاذها بعدما استهدفت إسرائيل منزلها، إذ أصيبت بجروح عميقة وكسر في رجلها، وأجرى لها خمس عمليات جراحية خلال وجوده هناك، وقد حاول إخراجها من غزة لمعرفته أن من الصعب بقاءها على قيد الحياة في ظل الوضع في مشافي غزة وخاصة أن لديها جروحاً كبيرة والتهابات، لكن للأسف لم يتمكن من ذلك، وتلقى رسالة في شهر آذار/مارس الماضي بأنها ماتت.
لم يكن المصابون الذين عالجهم أطباء نورواك مجرد قصص عابرة في حياتهم، إذ يتابعون أحوالهم حتى بعد عودتهم إلى بلادهم ويحاولون إخراجهم من غزة لتلقي العلاج اللازم، كما فعلت الممرضة فولان مع أحد المرضى الذين عالجتهم في يناير الماضي أثناء عملها في المستشفى الأوروبي، وشاركت في عملية بتر ساقه المصابة، حتى أن صورتها في داخل غرفة العمليات نشرت على غلاف مجلة التمريض (Sykepleien) في النرويج، وحمل العدد عنوان: الممرضة في الحرب.
وبعد عودة فولان إلى النرويج، سمعت أن الرجل بخير، لكنه أصيب بمزيد من العدوى وربما يخضع لعملية بتر أجزاء أخرى من ساقه، ما جعلها لا تصدق عينيها وشعرت بسعادة غامرة عندما رأته حيّا لدى وصولها إلى القطاع ثانية ضمن بعثة نورواك في إبريل الماضي.