خرجوا ولم يعودوا... غزيون يختفون أثناء محاولات العودة إلى بيوتهم
استمع إلى الملخص
- تلقى الدفاع المدني مئات البلاغات عن اختفاء مواطنين في رفح، حيث يستخدم الاحتلال تكتيكات خادعة لاستهداف العائدين، مع تقارير عن استخدامهم كدروع بشرية واعتقالهم بطرق غير إنسانية.
- يعاني السكان من سرقة ممتلكاتهم، مما يدفعهم للمخاطرة بحياتهم للعودة. يدعو الحقوقيون لتوثيق هذه الجرائم وملاحقة المسؤولين عنها دوليًا.
يغامر غزيّون بأرواحهم ويعودون إلى بيوتهم من أجل جمع احتياجات ضرورية لحياة النزوح التي أجبرهم عليها جيش الاحتلال، لكن قواته تترصدهم وتقتلهم وتبقى جثامينهم متحللة في الشوارع، بينما اختفى آخرون ولم يعودوا حتى اللحظة.
- اضطر الأربعيني الغزيّ سليمان العرجا، واثنان من أشقائه، إلى المغامرة بحياتهم، من أجل انتشال جثامين زوجة سليمان وشقيقته وابنتيه، بعد استشهادهن في حي التنور شرقي مدينة رفح، في الثاني من سبتمبر/ أيلول الماضي، خلال محاولتهن الوصول إلى منزلهن، وجلب ملابس وأحذية وأغطية لأفراد العائلة النازحين في مواصي خانيونس.
لم يكن أمام الأسرة خيار، كانوا في أمسّ الحاجة إلى تلك الأغراض، وقرّرت الزوجة العودة إلى البيت بعد أكثر من أربعة أشهر على النزوح القسري والعيش في خيمة، وافتقارهم إلى الكثير من الاحتياجات، ظنّاً منها أنّ الاحتلال لا يستهدف السيدات والأطفال، حتى إنهن سرن في شوارع مفتوحة ورفعن الراية البيضاء، وكان سليمان يتحدّث إليهن عبر الهاتف طوال الوقت، إلى أن سمع صوت صفير قوي، لينقطع بعدها الاتصال، وعلم لاحقاً أنهن استُهدفن بصاروخ من مُسيّرة إسرائيلية، قتلتهن في منتصف الحي.
حاولت الأسرة جلب الجثامين، لكن جميع الجهات الإغاثية رفضت التدخّل نظراً لخطورة الأمر، وبقين في الشارع أكثر من 20 ساعة، ما اضطر سليمان وأشقاءه إلى التوجّه إلى هناك وجمع الأشلاء بأنفسهم، وفي الطريق شاهدوا جثامين متحللة في شوارع الحي، جميعها جرى استهداف أصحابها بالطريقة ذاتها.
اصطياد العائدين إلى منازلهم
تلقّى الدفاع المدني 500 بلاغ عن اختفاء مواطنين دخلوا إلى رفح لتفقد منازلهم ولم يُعثر عليهم، ولا يعرف ذووهم هل يعتبرونهم أمواتاً أم ما يزالون بين الأحياء، بينما تمكّنت فرق الدفاع المدني من انتشال جثامين 270 شهيداً منذ الأول من يوليو/ تموز الماضي، بحسب إفادة مدير إدارة الإمداد والتجهيز في جهاز الدفاع المدني الدكتور محمد المغير، والذي قال لـ"العربي الجديد" إن الاحتلال صنف شرق رفح مناطق قتال خطيرة، لكنه يقتل الأهالي في جميع أنحاء المحافظة، عبر مسيّرات محملة بالصواريخ والرشاشات.
500 بلاغ عن اختفاء مواطنين دخلوا إلى رفح لتفقد منازلهم
ويُمارس جيش الاحتلال خداعاً للإطباق على العائدين، إذ يترك المواطنين يدخلون بعض الأحياء، حتى يشجع المزيد منهم على الوصول إليها، ثم يستهدفهم بصورة مفاجئة، كما رصد المغير وفريقه، بالإضافة إلى معلومات المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة، الذي قال إن الحالات الموثقة للشهداء تمت في المناطق التي لا توجد فيها الدبابات، ولم تُصنّف على أنها مناطق قتال خطيرة، ما يؤكد أن القتل تم عمداً ودون أي مبرر، وبشكل غير مبالٍ بأي قوانين دولية أو إنسانية، حتى إنّ جيش الاحتلال نشر مقاطع مصورة تُظهر استهداف طائراته مدنين عُزلاً وبعد جمع المعلومات حول تلك الحالات وتحليل تلك المقاطع تبيّن أن الشهداء كانوا في طريق العودة من أو إلى منازلهم. وهو ما شهد عليه الغزي العشريني محمود ياسين الذي نجا من موت محقق، بعدما أصيب بشظايا في يديه، موضحاً أنه كان في طريقه برفقة اثنين من جيرانه إلى منازلهم في مخيم الشابورة وسط رفح، وسلكوا طريق موراج "ثلاجة زغلول"، وحين شعر بوجود طائرة استطلاع تحوم فوقهم تأخر قليلاً عن رفيقيه، وما هي إلا لحظات حتى استهدفتهما الطائرة بصاروخ أدى الى استشهادهما على الفور، ففر واختبأ تحت مبنى مقصوف واحتمى فيه، وبعدما خفت صوت الطائرة، خرج وتوجه نحوهما محاولاً انتشالهما، واستهدفته مُسيرة أخرى، وأصيب بشظايا في يده، وفر باتجاه منازل مدمرة، واختبأ لأكثر من ساعتين، وظل يتنقل من مكان إلى آخر، حتى غادر المنطقة.
خرجوا ولم يعودوا
من بين المفقودين في رفح الأربعيني أحمد الصبيحي، الذي توجه إلى بيته لجلب احتياجات أبنائه، ثم فقدت آثاره ولم يتمكن ذووه من الاتصال به، أو معرفة أي شيء عنه، إذ يقول صديقه حازم خليل إنه شُوهد يدخل حي التنور شرقي رفح، وقد غامر أشقاؤه ودخلوا الحي رغم الخطر الكبير في اليوم التالي، وبحثوا في كل مكان، ولم يُعثر عليه مطلقاً.
وتوجّهت العائلة إلى جهات عدة، منها اللجنة الدولية للصليب الأحمر، والدفاع المدني وأبلغوا باختفائه، لكنهم لم يحصلوا على أي نتائج حتى الآن، وهو ما يتكرّر مع آخرين، تغصّ مواقع التواصل الاجتماعي بمنشوراتهم، بعضهم ممن فُقد أبناؤهم أو أشقاؤهم وأقاربهم داخل رفح، ويناشدون الجميع بالمساعدة في العثور عليهم، ومن بينهم عائلة عبد الرحمن عيسى، من سكان حي تل السلطان غربي رفح، والتي تنشر صوره يومياً في محاولة للحصول على أي معلومة عن مصيره.
ويفسّر مصدر أمني مطلع، رفض ذكر اسمه، حتى لا يستهدفه الاحتلال، ما يجري مع تلك الحالات بأنه يدخل ضمن احتمالات، الأول استهدافهم بصواريخ من الطائرات المُسيّرة، وبقاء جثامينهم في الشوارع أو انتشالهم لاحقاً، والاحتمال الثاني أنه جرى اعتقالهم، ونقلهم إلى مراكز تحقيق واعتقال داخل الكيان، ولم تُعلن سلطات الاحتلال عن الأمر، إذ رُصد تنكّر أفراد من جيش الاحتلال بملابس الدفاع المدني، وكانوا يستقلّون مركبات إسعاف، ويختبئون في منازل المواطنين ويعتقلون المارة في الشوارع، وثالثاً أنهم تعرضوا للقتل وسُرقت جثامينهم، ونُقلت إلى داخل الكيان، وقد تُعاد بعد أن تصبح رفاتاً، كما حدث عشر مرات، جرى خلالها إعادة أكثر من 500 جثمان جميعها مجهولة، والاحتمال الرابع قتلهم ودفنهم في مقابر جماعية في مناطق مجهولة، وجرى سابقاً اكتشاف حالات مشابهة عدة في مشفيي الشفاء، وناصر، ومناطق أخرى في خانيونس.
والأخطر ما رُصد في الحالة الخامسة، إذ اختُطف مواطنون من أهالي رفح، واستُخدموا دروعاً بشرية، خلال اقتحام المنازل، والدخول إلى أنفاق، كما يقول المصدر، مشيراً إلى أن بعضهم أُرسل لتفكيك عبوات وأجسام قد يكون المقاومون زرعوها، وهو ما أكده المغير، موضحاً أن الدفاع المدني لديه أدلة على أنّ الاحتلال استخدم 200 مواطن اعتقلهم من داخل رفح دروعاً بشرية، وجرى لاحقاً إعدام بعضهم ميدانياً، واعتُقل آخرون، وما زال مصيرهم مجهولاً.
جثث متحلّلة في شوارع رفح
تؤكد إفادات خمسة من شهود العيان دخلوا إلى رفح ونجوا من استهداف الاحتلال وجود عشرات الجثامين المتحللة في شوارع المدينة الخالية تماماً من سكانها، من بين الناجين الشاب أحمد عواد، الذي أكد مشاهدته خلال سيره في شوارع غرب رفح أكثر من 40 جثماناً، متحللة تماماً، ويبدو أن بعضها مضى على استشهاد أصحابها أكثر من 100 يوم، وهو ما أكده الدكتور المغير، لافتاً إلى أن الدفاع المدني لديه معلومات بوجود عدد كبير من الجثامين في الشوارع، بينهم 27 جثة في شارع مسجد الإمام علي غربي رفح، وثلث هذه الجثامين تعود لنساء وأطفال قتلهم الاحتلال خلال محاولتهم النزوح عن بيوتهم في مناطق لم يطلب الاحتلال من سكانها مغادرتها، مثل مناطق وسط وغرب رفح.
الاحتلال استخدم 200 مواطن اعتقلهم من داخل رفح دروعاً بشرية
وصنّف الدفاع المدني خمس مناطق خطرة في مدينة رفح، وقعت فيها أغلب الاستهدافات الإسرائيلية للعائدين، وهي محيط "ثلاجة زغلول"، شمالي المحافظة، وشارع رقم 18 في حي التنور برفح، ومحيط "دوار العلم"، على شاطئ البحر غرب المدينة، ومنطقة "البركسات"، شمال غربي رفح، إضافة لدوار المشروع شرقاً، كما يقول المغير الذي شدّد مراراً وتكرار على عدم الوجود بالقرب من هذه المناطق.
لكن لماذا يُغامر الأهالي بالعودة وهل تلك الاحتياجات شديدة الأهمية؟ يؤكد 30 مصدراً ممن دخلوا وعادوا، أو عائلات وأقرباء لشهداء دخلوا رفح أو من بين المفقودين فيها، أن انتشار لصوص المنازل في مناطق سكناهم، ونهب البيوت وما تبقى فيها من احتياجات لا يمكن الاستغناء عنها، دفعهم إلى محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه في ظل الحصار المطبق والغلاء واختفاء الكثير من اللوازم في القطاع، ومن بين هؤلاء الثلاثيني عبد الله رمضان، الذي قرر المغامرة بحياته والعودة إلى منزله في منطقة شمال مخيم الشابورة، إلا أنه وجده منهوباً وخالياً من كل شيء حتى الأثاث وخزانات المياه والمرحاض، وهو حال منازل الجيران كذلك، ويعتقد أن اللصوص وصلوا برفقة شاحنات سهلت عليهم سرقة المنازل، متسائلاً كيف استطاعوا دخول مناطق خطرة، وسرقة المنازل بأريحية، وخرجوا دون أن يعترضهم أحد، في حين أغلب من يحاولون العودة لبيوتهم يُقصفون بشكل مباشر.
كيف يعمل اللصوص في المناطق الخطرة؟
تجيب مصادر أمنية، فضّلت عدم كشف هويتها حتى لا يستهدفها الاحتلال، عن السؤال السابق، عبر نتائج تحقيقات مع لصوص منازل، أكدوا تواصلهم مع صفحة "المنسق الإسرائيلي"، على "فيسبوك"، وطلبهم عدم استهدافهم حين يدخلون إلى مناطق محددة سرقوا بيوتها، وأوضحوا أنهم حددوا التوقيت وألوان ملابسهم، وخط سيرهم، وفي المقابل كان الرد عليهم بالموافقة مقابل معلومات عن البيوت التي يدخلونها، وعن تحركات المقاومة في المنطقة، وأماكن زرع العبوات، كما طُلِب من بعضهم دخول بيوت معينة، وتفتيشها.
ويعتبر إجبار الفلسطينيين على الانتقال من مكان سكنهم، وإكراههم على النزوح والتنقل، واستهداف من يحاولون العودة إلى بيوتهم مخالفاً لقواعد القانون الدولي، إذ تنص المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة على أنه "يحظر النقل الجبري أو الجماعي للأشخاص المحميين الموجودين في أي إقليم محتل، أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أي دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، أياً كانت دواعي ذلك". ويعلق مدير وحدة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، الدكتور فضل المزيني، على ما سبق بأن استمرار إسرائيل في عدوانها وتجاهلها لكل النداءات الدولية بوقف جريمة الإبادة الجماعية في غزة، هو نتيجة الحصانة التي توفرها دول العالم الغربي، والتي سمحت بتكريس سياسة الإفلات من العقاب، فضلاً عن التواطؤ مع الاحتلال في الانتهاكات الخطيرة بحق الشعب الفلسطيني من خلال تزويد قواته بالسلاح والذخائر واستمرار الدعم السياسي.
ولن تسقط جرائم الاحتلال بالتقادم، كما يقول المزيني، داعياً مؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية إلى التعاون مع نظيراتها في الخارج، وإعداد ملفات تكشف وتوثق الانتهاكات واستمرار ملاحقة قادة الاحتلال في كافة المؤسسات الجنائية والمحافل الدولية. ويبدي ذوو الضحايا استعدادهم لذلك وأملهم في الحصول على حقوقهم، ومن بينهم عائلتا أبو جليلة وعثمان غير القادرتين على الوصول لجثامين خمسة من أبنائهم الشهداء سقطوا داخل حي تل السلطان، غرب رفح، في شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب الماضيين، إذ تقول أميرة، شقيقة الشهداء الثلاثة جوهر ونائل وآدم، وأبناء خالها علي عثمان وشقيقه محمد، إن آدم وعلي توجها في البداية لحي تل السلطان لجلب ملابس وأغطية لأفراد العائلة النازحين في خانيونس، وفقدا لأكثر من 18 يوماً، وبحثت العائلة عنهما كثيراً، إلى أن أكد لهم شاب أنه شاهد جثمانين متحللين بالمواصفات نفسها، وحدد موقعهما، وفي اليوم التالي غادر جوهر ونائل ومحمد وقريب رابع لهم لجلب الجثمانين ومواراتهما في الثرى في مقبرة خانيونس، ووصلا وانتشلا الجثمانين وسارا نحو 100 متر فقط، لكن تم استهدافهم بصاروخ من طائرة استطلاع واستشهدوا، ونجا الشخص الرابع، واستطاع العودة إلى خانيونس، وأخبرهم بما حدث، وما زالت جثامين الخمسة في الحي منذ بداية أغسطس الماضي، ولم تتمكن العائلة حتى اليوم من انتشالهم.