حدث في رواندا وليس في مصر

23 يوليو 2024
ارتفعت أسعار الكهرباء في رواندا بصورة كبيرة (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- **تجربة قطاع الكهرباء المصري وتأثيرها على لبنان**: أشاد سياسيون لبنانيون بتجربة قطاع الكهرباء المصري كنموذج لحل أزمة الكهرباء في لبنان، لكن عادت أزمة الكهرباء في مصر لتؤثر سلبًا على المواطنين والمستثمرين.

- **دراسة حالة رواندا وأزمة الكهرباء**: دراسة استقصائية أظهرت أن سياسات الرئيس الرواندي في تعزيز توليد الكهرباء أدت إلى ديون هائلة وقدرة فائضة، مما أثار مخاوف المانحين والمستشارين الغربيين.

- **التحديات والانتقادات في قطاع الكهرباء الرواندي**: محاولات تعديل الأهداف الرئاسية غير الواقعية واجهت رفضًا، مما أدى إلى استبدال كبار المسؤولين وتجاهل التخطيط الشفاف، مع دعم مستمر من الولايات المتحدة.

قبل عدة أعوام راجت مقاطع مصورة لسياسيين لبنانيين يدعون إلى استنساخ تجربة قطاع الكهرباء المصري في بلادهم بعد "حل أزمته المستفحلة خلال فترة محدودة وبفعالية ملحوظة"، على رأسهم رئيس حزب القوات سمير جعجع والذي لا يترك مناسبة في القاهرة إلا ويصدر فيها بيانا مهنئا أو معزيا ومؤيدا، لكن يبدو أن عينا أصابت القطاع الحيوي وأعادته إلى المربع الأول من الانقطاعات المتوالية التي يدفع ثمنها المواطن بأشكال متنوعة، لعل من أخطرها وأكثرها ألما، في بلد شبابه يعانون البطالة، فشل محاولات العمل عن بعد مع شركات خارج البلاد صارت ترفض التعاقد مع موهوبين مصريين حتى لا تتوقف إنتاجيتهم في حال انقطعت الكهرباء، بينما تتزايد تكلفة الأزمة على المستثمرين بعدما أبلغت شركات عن تراجع الإنتاج وتوقف العمل في مصانعها إثر انقطاع التيار، وبشكل أسوأ مما قبل، فماذا حدث؟

لتفسير الأمر يمكن الاعتماد على نموذج مصغر جرت دراسته في دولة رواندا بشكل استقصائي وتوصل إلى حقائق منهجية مثيرة للإعجاب، فالأسباب ذاتها تؤدي إلى النتائج نفسها، إذ جرى الترويج للبلدين باعتبار أنهما انطلقا من مرحلة التحديات والصعاب، إلى تحقيق رؤية تنموية طموحة، وما قاما به في قطاعات البنية التحتية يوصف بأنه قصة نجاح ملهمة تظهر ثمارها على أرض الواقع، كما تتشابه الدولتان من حيث سلطوية النظام السياسي وطبيعة اتخاذ القرار على يد رأسه ورئيسه المتمتع بسلطات هائلة وغير مقيدة، وكذلك الرهان الأميركي والغربي عليه، بسبب الأهمية الجيوسياسية كل في منطقته، والتي تنعكس على طبيعة الأدوار المطلوب من كل دولة أن تلعبها لتحصل على مكافآت سخية من المانحين تبدو في حجم المساعدات المالية الكبيرة القادمة من الخارج.

الدراسة المعنية أجراها الأستاذ المساعد في مركز دراسات التنمية، بالجامعة الكاثوليكية في لوفان (UCLouvain)، بلجيكا، بنيامين شموني benjamin.chemuni ، والمحاضر في سياسات التنمية بجامعة نيويورك، بارنابي داي Barnaby dye ونشرتها مجلة الشؤون الأفريقية الصادرة عن جامعة أكسفورد نيابة عن الجمعية الملكية الأفريقية في يناير/كانون الثاني الماضي، تحت عنوان : "الاستقلال البيروقراطي وأزمات الكهرباء في رواندا".

وفي المجمل توصلت الدراسة إلى أن رغبة الرئيس الرواندي المحمومة لتعزيز توليد الكهرباء خلقت ديونا هائلة وقدرة فائضة جراء طبيعة النظام السياسي القائم على الطاعة غير المدروسة لتوجيهات كبار السياسيين الذين أصروا على تحقيق هدف زيادة قدرات توليد التيار بشكل يفوق إمكانيات البلاد، ما أضر بصناعة الكهرباء في رواندا وقيد من إمكانية وصول الجمهور إلى الطاقة، وهي نتيجة يراها المؤلفان أحد تداعيات عدم السماح لموظفي الخدمة المدنية من الخبراء أو المستشارين والتقنيين بانتقاد مدى ملاءمة التوجيه والأهداف السياسية، والتي أدت إلى أن تصبح البلاد مثقلة بديون طويلة الأجل غير مستدامة بعد الإنفاق الكبير على خلق قدرة توليد هائلة، لكنها فائضة عن الحاجة، وسببت ارتفاع أسعار الكهرباء على المستهلكين (ماذا جرى في بلدك؟) ومن ثم تزداد مخاطر دخول البلاد في ما يمكن وصفه بالفوضى المالية.

رعب المصادر المطلعة والمسؤولة والتي أجرى الباحثان معهم المقابلات يبدو في الخشية من انتقاد ما يجري في قطاع الكهرباء، لأنه قد يؤدي إلى مخاطر شخصية كبيرة، حتى أن أحدهم "كاد أن يُلقى القبض عليه" لانتقاده أهداف توليد الكهرباء، ونتيجة لذلك، اعترف العديد من الخبراء الذين أجريت معهم المقابلات بممارسة رقابة ذاتية أثناء النقاشات السياسة، لأنهم يخشون التحدث علانية حتى لا يتم وصمهم بأنهم "ضد رؤية رواندا" (هل يذكرك هذا بشيء؟)، وهو ما أثار انتباه المستشارين والمانحين الغربيين الذين تحدثوا عن "صمم كبار المسؤولين" بعدما أثاروا معهم مخاوف حول المخاطر المالية للمشاريع.

على الرغم من ذلك حاول وزير الطاقة الرواندي، تعديل الهدف الرئاسي الوارد في استراتيجية الطاقة لعام 2011 والمتمثل في توليد ألف ميغاواط بحلول عام 2017 وهو رقم لم يكن مبنيًا على أي طلب، ويتناقض مع تحليل حول احتياجات البلاد، مولته وكالة المعونة اليابانية (JICA) والبنك الدولي، وتوقع الحاجة إلى حوالي 200 ميغاواط بحلول 2017، لكنه تلقى "رفضًا مطلقًا" من رئيس الوزراء الذي أصر على اتباع القرار الرئاسي، ويشرح مستشار مختص في القطاع، لماذا كان الرفض حاسما، موضحا أنه لا يمكن تغيير هدف الألف ميغاواط إلا بمشاركة الرئيس، والذي كما تراه الدراسة يبدو كـ"ملك مطلق الصلاحيات"، قادر على تجاوز الوضع الطبيعي، في ظل أن موظفي الخدمة المدنية ومعظم الوزراء هم في المقام الأول منفذون لأفكاره؛ لا تجري معاملتهم بموجب خبراتهم إو إمكانياتهم في التخطيط الاستراتيجي ما يسلط الضوء على الافتقار إلى الاستقلال البيروقراطي، حتى مع المهام عالية التقنية مثل توقعات الطلب على الكهرباء.

في النهاية جرى تجاوز الأهداف غير المعقولة واستندت قدرة توليد الكهرباء إلى توقعات قائمة على الطلب في عام 2018، تتراوح ما بين 282 ميغاواط و376 ميغاواط بحلول عام 2024، ومع ذلك، يمكن القول إن السير في هذا الاتجاه جاء متأخرًا جدًا نظرًا لأن المحطات قيد الإنشاء تجعل من قدرة التوليد المثبتة تصل إلى ما يزيد على 500 ميغاواط، وفي ظل تلك الفوضى ترجمت الرئاسة إحباطها من التقدم البطيء في المشاريع إلى تكرار استبدال كبار المسؤولين، إذ غيّر الرئيس وزير البنية التحتية أربع مرات، بينما تناوب على المسؤولية ثلاثة وزراء للطاقة وثلاثة رؤساء لمرافق الطاقة بين عامي 2009 و2014، وجميعهم متهمون بالفشل في زيادة قدرة توليد التيار بسرعة كافية.

ومن المتشابهات المثيرة للاهتمام تجاهل الدولة أهمية التخطيط القائم على الرأي والرأي والآخر والشفافية، إذ نص قانون الكهرباء الصادر عام 2016 على أن تعمل الدولة مباشرة في المشاريع بدلا من الممارسة السابقة المتمثلة في قبول عطاءات مستثمري القطاع الخاص غير المرغوب فيها (هل يذكرك ذلك بأمر ما؟)، على سبيل المثال مشروع جيشوما الذي بلغت قيمته 45 مليون دولار، بوشر بناؤه عام 2013، واكتمل بعد تأخير دام ثلاث سنوات، بمجرد تشغيل المحطة، عملت بنصف طاقتها (5 ميغاواط) قبل أن يتوقف  المشروع بعد أربعة أشهر. وعلى الرغم من أن المشاكل التقنية ساهمت في ذلك، إلا أن سبب الإغلاق كان في الأساس نتيجة عدم كفاية كميات الخُث (نباتات متفحمة تستخدم بديلا للفحم الحجري) التي كان يفترض أن تعمل المحطة بها، وكل هذا بسبب أن الدراسات الأولية كانت مفرطة في التفاؤل وبهدف تسريع العملية، لم تجرَ دراسات مضادة وأشار المستشارون إلى رفض المسؤولين الاستماع إلى تحفظاتهم.

لم يقصر المانحون وقدموا بدورهم دعمًا كبيرًا للموازنة العامة، وموّلوا جيشًا من المستشارين والخبراء المعارين. على سبيل المثال، قدم "عقد إصلاح القطاع" التابع للاتحاد الأوروبي خلال الفترة بين 2015-2020 مبلغ 177 مليون يورو لقطاع الكهرباء، مع تخصيص 88% منه للميزانية المباشرة. وتعهد البنك الدولي بتقديم 95 مليون دولار لـ "قطاع الكهرباء" في الفترة 2015-2021، لكن ماذا يفعل كل هذا في ظل أن مدخلات السياسة تتدفق بالكامل في اتجاه واحد، من أعلى (دائرة صغيرة حول الرئيس) وإلى أسفل دون دراسات جدوى حقيقية "ومفيش وقت لنفقده".

ونادراً ما انتقدت الصحافة ارتفاع أسعار الكهرباء، وانخفاض إمكانية الوصول إليها، أو جودة المشاريع، إلا أنها في حالات محدودة قامت بذلك بعدما أثارت الحكومة الأمر. على سبيل المثال، القصص الإخبارية السلبية عن محطة خث جيشوما ظهرت بعد إثارة القضايا من الرئيس ومجلس النواب ومكتب المراجع العام.

وتفسر خطورة فعل الانتقاد طريقة استجابة الصحافة في بلد يتعرض من يخالف الرواية الرسمية فيه إلى السجن والتنكيل، ففي عام 2011، على سبيل المثال، انتقد أحد القساوسة مشروع الإسكان على مستوى البلاد لإزالة الأسطح المصنوعة من القش، بعد ما ترك آلاف الأشخاص بلا مأوى، وفي المقابل حُكم عليه بالسجن لمدة 18 شهرًا، ما أدى إلى أن تستقر المعارضة وتكمن في المنافي، ومع ذلك يروج المانحون الأجانب لكاغامي باعتباره زعيما تقدميا؛ فهو معروف، على سبيل المثال، بتعزيزه للمساواة بين الجنسين في البرلمان الرواندي، حيث يفوق عدد النساء عدد الرجال، على الرغم من أن المجلس التشريعي لا يتمتع بسلطة كبيرة.

لكن يكفي الرئيس أن الولايات المتحدة هي أقوى حلفائه، وفي النهاية الرجل القوي ليس بغريب عنها ففي التسعينيات درس كاغامي في كلية القيادة والأركان العامة للجيش الأميركي في فورت ليفنوورث بولاية كانساس، قبل أن يعود إلى رواندا ويستولي على السلطة في عام 1994. (كما تدرب ابنه إيفان في أكاديمية ويست بوينت العسكرية)، ولعله يخلفه، ووقتها لن يرى بلدان العالم الحر مشكلة، فالأهم هو الحفاظ على رواندا شريكا استراتيجيا بجيش قوي في شرق أفريقيا الغني بالمعادن للحد من النفوذ الصيني.