استمع إلى الملخص
- السياسات الحكومية منذ 2013 تركز على المؤشرات المالية دون النظر في تأثيرها على الفقراء والطبقة المتوسطة، مما يتعارض مع العقد الاجتماعي القائم منذ ثورة يوليو 1952 ويفاقم الأزمات الاقتصادية.
- دراسة برنامج الأغذية العالمي في 2013 تشير إلى خسائر بمليارات الجنيهات بسبب التقزم وسوء التغذية المزمن بين الأطفال في مصر، مع تأكيد على ضرورة إعادة النظر في السياسات الاقتصادية لضمان نمو مستدام يراعي البعد الاجتماعي والصحي.
ما إن انتشر خبر رفع سعر رغيف الخبز المدعم في مصر بزيادة نسبتها 300%، حتى راجت المنشورات السيّارة في وسائل التواصل، وكالعادة انقسم القوم إلى فريقين: الأول معارض رافض للقرار لأنه يمس جيبه وقوت يومه، والثاني سلطوي بشرنا بفوائد "الرفع" ولا ينبئك مثل خبير، في حين تظل فئة ثالثة لا مع هؤلاء ولا أولئك، ليس لديها ما تقول ولا تعرف ماذا تفعل، وليست موجودة أصلاً على مواقع التواصل، بل تقف طوال الليل أمام الأفران، وتبيت في الشوارع صيفاً وشتاء حتى ينبلج الصبح ويعمل المخبز لتنال "العيش" بكسر العين، كما يطلق عليه في المحروسة من قديم الأزل، وهي كلمة مشتقة من العيش (بفتح العين) أو المعيشة، لشعب كان وما يزال توفير الخبز شغله الشاغل، حتى إنهم إذا وجدوا كسرة خبزة ملقاة على الأرض نحّوها جانباً كي لا تدوسها الأقدام، وربما قبّلوها كما يفعلون بالضبط في حال العثور على ورقة فيها آية قرآنية أو حديث شريف، وبلغ الأمر أن وضعت الأمثال الشعبية الخبز في مكانة لا نظير لها فـ"إن صح العيش يبقى الباقي بشرقة" أي (ترفاً) بحسب ما يذكره الدكتور جمال كمال محمود في كتابه القيّم عن "الخبز في مصر العثمانية"، والصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
وبينما تدور رحى سياسات الأمر الواقع لتطحن الجميع، يتخندق الفريقان من معارضين ومؤيدين، كل في فقاعته التي يرى العالم من ورائها محيطاً نفسه بآراء مؤيدة لتوجهاته وقناعته التي لن يغيرها ولو انطبقت السماء على الأرض، في الوقت الذي ينشغل فيه الفريق الثالث بتنظيم طوابير الأشقياء المرهقين من الفقراء والمرضى الذين يفنون أعمارهم أمام المخابز، وهؤلاء يحسبونها بـ"الشلن" (خمسة قروش) و"البريزة" (عشرة قروش)، وكل جنيه إضافي يدفعونه "يقطم الوسط" ويحرمهم وأطفالهم المزيد من أساسيات الحياة، فضلاً عن الرفاهيات التي صارت حلماً بعيد المنال.
وفي حين لا يعرف النظام إلا لغة الأرقام لدى حديثه عن دعم الرغيف والمشاكل المالية التي تواجهها البلاد، فإنه لا يسأل نفسه أبداً ولا يقبل أن يتجرأ أحد ويناقش تبعات المسار الاقتصادي الذي تم اختياره منذ 2013 بعد تدفق دولاري لم يحظ به كل من سبقوه، وسيطرة كاملة على كل مفاصل البلاد وتخلص من "إزعاج" المعارضة، فلماذا يدفع الفقراء ثمن الإخفاقات رغم أنهم لم ينلهم من الحظ جانب؟ وهل يكون ذلك الرفع آخر الأحزان؟ للأسف لا! فالنظام في متاهته، عجز مالي يطول شرح أسبابه وبالمحصلة صارت من المعلوم في الاقتصاد بالضرورة ولا داعي لتكرارها، المهم أنه يليها دائماً استدانة وتراجع مستمر في قيمة العملة، تعقبه قرارات يدفع ثمنها الفقراء من قوت يومهم بوتيرة أصبحت أسرع من السابق، وهو ما يخالف العقد الاجتماعي بين دولة يوليو الحاكمة منذ 1952 وشعبها، والذي يقوم على توزيع الريع الناتج عن التحكم في كل موارد البلاد في مقابل السيطرة الكاملة، والصمت السياسي وعدم المشاركة الفاعلة في إدارة شؤون الحكم التي احتكرتها الأنظمة المتوالية (ثروة وسلطة) على أن تؤمن لهم العيش.
أما وأن أسعار العيش والكهرباء والماء والدواء والوقود والخدمات الحكومية وكل ما يحيط بنا صارت حملاً ثقيلاً على كاهل الفقراء، فما الذي تبقى من دولة يوليو، إلا الشطر الثاني من المعادلة؟ والذي يحمل أخطاراً كبيرة على المصريين، إذ قدرت دراسة صادرة في عام 2013 عن برنامج الأغذية العالمي (أكبر منظمة إنسانية تابعة للأمم المتحدة)، حجم الخسائر التي تتعرض لها البلاد بسبب الجوع بما يقدر بنحو 20.3 مليار جنيه مصري (يعادل 3.7 مليارات دولار أميركي بحسب السعر الرسمي وقتها) بسبب تبعات إصابة الأطفال بنقص التغذية، وهو ما يساوي حالياً 173.9 مليار جنيه وفق سعر الصرف السائد، إذا ما اعتبرنا أن عدد السكان 93 مليون نسمة كما كان وقتها، ولم يزد إلى 105 ملايين كما صار في مايو/ أيار 2023.
والأخطر أن الدراسة الصادرة بعنوان "تكلفة الجوع في أفريقيا: الآثار الاجتماعية والاقتصادية لنقص تغذية الأطفال في مصر" توصلت إلى حجم الخسائر التي يتكبدها الاقتصاد المصري، عبر تحليل بيانات إصابة الأطفال تحديداً بنقص التغذية، خاصة الآثار المتعلقة بالتقزم أو سوء التغذية المزمن، رغم أن معدل الفقر كان وقتها 26.3% وفق البيانات الحكومية، بينما ذكرت بيانات أحدث تقرير للبنك الدولي معتمداً على معلومات الحكومة المصرية ونشرته جريدة البورصة المحلية قبل شهر، أن خط الفقر ارتفع في عام 2022 إلى 32.5% من إجمالي السكان أي حوالى 32 مليون مواطن، وهو رقم لافت، لأن الدراسة الصادرة قبل أكثر من عشرة أعوام حذرت من تزايد تكلفة الخسائر التي تتكبدها مصر بنحو 32% عن المعدلات الحالية بحلول عام 2025، إن لم يتم اتخاذ التدابير اللازمة لمكافحة نقص التغذية والقضاء عليه، وهو الرقم ذاته الذي وصل إليه خط الفقر، ما يؤكد خطورة السير في اتجاه سياسات اقتصادية تجعل الفقراء يدفعون ثمن خيارات النظام رغم عدم قدرتهم الصحية ولا المالية على الاحتمال.
في المحصلة انتهت الدراسة السابقة إلى ضرورة مكافحة نقص التغذية وتوجيه اهتمام خاص بالمراحل العمرية المبكرة، باعتبارها أساساً للموارد البشرية إذا كنا نريد تحقيق معدلات للنمو المستدام على الصعيدين البشري والاقتصادي من أجل صالح مصر، غير أن آفة حارتنا النسيان والدراسات لا تستهوينا كثيراً لأنها "مضيعة للوقت والدولة لا تحتمل الانتظار" كما يكرر أهل الحكم، إلا أن الأزمة تشتد على الفقراء والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى وهؤلاء لسان حالهم "عض قلبي ولا تعض رغيفي".