تستهدف قوات الاحتلال الإسرائيلي البنية التحتية في الضفة الغربية وتدمر كل مقومات الحياة من طرق وصرف صحي ومصادر للمياه والطاقة، كما تمنع محاولات إعادة الإعمار ضمن سياسة العقاب الجماعي وتهجير السكان الأصليين.
- يستيقظ الأربعيني الفلسطيني محمود زكي حسن، عند ساعات الصباح الأولى من أجل توصيل أطفال خربة صرة (تقسيم إداري) التابعة لقرية قريوت، جنوب نابلس شمالي الضفة الغربية، إلى مدرستهم، مستخدما الجرار الزراعي أو الحمار بسبب تدمير الاحتلال الإسرائيلي للطريق الرئيسية ووضع 4 سواتر ترابية على طول مدخل القرية المحاطة بثلاث مستوطنات، منذ بدء العدوان على قطاع غزة مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ويعيش حسن وجيرانه في وضع مزر بعد تدمير الطرق ومقومات البنية التحتية، إذ لا يمكن على سبيل المثال لأي مركبة إسعاف الوصول إلى الأهالي في حال أي طارئ طبي، وهو ما يتكرر بصور مختلفة في المدن والمخيمات بالضفة الغربية وقطاع غزة، بعد استهداف وتدمير البنية التحتية وإغلاق الطرق الواصلة بينها، الأمر الذي يعيد حسن بذاكرته إلى عملية "السور الواقي" التي نفذتها قوات الاحتلال عام 2002 حين اجتاحت الضفة الغربية، ودمرت البنى التحتية في العديد من المدن والمخيمات الفلسطينية.
ويعد "ما يحدث حاليا في الضفة الغربية وقطاع غزة جزء من الأزمات المتكررة التي يخلقها استهداف الاحتلال الإسرائيلي للبنية التحتية للمياه والطاقة والزراعة، حتى أصبحت رهينة الصراع في الأراضي الفلسطينية، ما يقوض سبل العيش فيها ويهدد أمنها المائي والغذائي وتوفر مصادر الطاقة، ويخلق أزمة إنسانية طويلة المدى ويمسّ برفاهية الإنسان وبالنظم البيئية"، بحسب دراسة بعنوان "استهداف البنية التحتية وسبل العيش في الضفة الغربية وقطاع غزة"، نشرت في العدد 95 من مجلة العلاقات الدولية (أسسها المعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن) في مارس/آذار 2019.
ولا يرتبط استهداف مقومات البنية التحتية بحالات شنّ عدوان معلن فقط، بل هو شكل من أشكال العنف البطيء الذي تمارسه إسرائيل طوال الوقت، إذ رصدت الدراسة 685 حادثة تدمير للبنية التحتية في الضفة بين عامي 2006 و2017، منها 75% استهدفت القطاع الزراعي، و20% استهدفت المياه، و4% استهدفت البنية التحتية للطاقة، ولم تتوقف تلك الاعتداءات يوما.
ما يعمره الأهالي ليلاً يهدمه الاحتلال نهاراً
يصف محمد الصباغ، رئيس اللجنة الشعبية لخدمات مخيم جنين شمال الضفة الغربية (تنسق مع الأونروا في المخيمات الفلسطينية)، عمليات تدمير البنية التحتية التي نفذتها آليات العدو الإسرائيلي في المخيم بأنها "اعتداء شامل يهدف إلى معاقبة الفلسطينيين جماعيا"، إذ دمرت الطرقات وشبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي حتى انتشرت المياه العادمة في الطرقات، ما ينذر بانتشار الأمراض، كما لم تسلم البيوت والمركبات من الاعتداء، بهدف إيصال رسالة لأهالي المخيم بأن طريق المقاومة تجلب الدمار، ولكن الجهات المختصة على الرغم من ذلك عملت على استعادة التيار الكهربائي عبر خطوط بديلة وأصلحت الشوارع بأٌقل الإمكانيات المتاحة حتى تكون على الأقل مؤهلة للمشي على الأقدام كما يقول الصباغ.
دمر الاحتلال 80% من البنية التحتية في مدينة جنين ومخيمها
ولا يمكن وصف تدمير البنية التحتية في مدينة جنين والمخيم إلا بكونها ممنهجة من أجل تنغيص حياة الفلسطينيين وإعادتهم إلى معاناة العيش بلا طرق معبدة أو مياه وبدون صرف صحي كما يقول عبد المجيد مدنية مدير عام مديرية الحكم المحلي بجنين، موضحا لـ"العربي الجديد" أن الطرقات التي تم تدميرها في المخيم نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تمت صيانتها بشكل عاجل بعد اجتياح يوليو/تموز الماضي، عبر تبرعات من أهل المدينة بلغت 9 ملايين شيكل (2.328 مليون دولار أميركي)، وبمجرد إنهاء العمل فيها في 2 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري عاد جيش الاحتلال في اليوم التالي وأعاد تدميرها وحفرها، مشيرا إلى أن مديرية الحكم المحلي والبلدية واللجنة الشعبية يعملون الآن بالحد الأدنى لصيانة الطرقات وتسيير حياة الناس، لأن الاحتلال مستمر في التدمير والهدم الذي طاول مشافي ومدارس أيضا، "وما نعمّره نهارا يهدمه الاحتلال ليلا"، يقول مدنية، موضحا أن عمليات التدمير طاولت 80% من البنية التحتية في جنين ومخيمها، وقدرت الخسائر بـ 55 مليون شيكل (14.230 مليون دولار) وفق تقرير حصر الأضرار في شتى القطاعات المعدّ في 10 أغسطس/آب 2023..
الأمر ذاته يتكرر في مخيمي طولكرم ونور شمس بمدينة طولكرم شمالي الضفة الغربية، وبحسب رئيس لجنة الخدمات الشعبية في مخيم نور شمس، طه الإيراني، "جرى اقتحام المخيم 4 مرات خلال ثلاثة شهور، وفي كل مرة يتم تدمير البنية التحتية من طرق وشبكات مياه وصرف صحي وخطوط كهرباء، ما يعني فقدان السكان أبسط مقومات الحياة؛ أي أنه تخريب من أجل التخريب ومن دون أي داع، بهدف إعادة الوضع إلى ما كان عليه عند نشأة المخيم، حتى يكون بيئة طاردة للسكان من أجل إجبارهم على مغادرته كونه الأكثر اشتعالا على خطوط مواجهة الاحتلال في الضفة الغربية وخاصة أن المواجهات زادت حدتها تزامنا مع العدوان الإسرائيلي على غزة".
وتقدّر لجنة حصر الأضرار الحكومية حجم الخسائر بعد الاجتياح الإسرائيلي لمدينة طولكرم ومخيمها في 14 نوفمبر الماضي بمبلغ يتراوح بين 2.5 و3 ملايين شيكل (812.988 ألف دولار)، بحسب راغب أبو دياك رئيس اللجنة، ومدير مديرية الحكم المحلي في طولكرم.
ومن أشكال استهداف البنية التحتية أيضاً ردم آبار المياه دون سابق إنذار، كما حدث في بلدة بيت ليد شرق مدينة طولكرم حين قامت سلطات الاحتلال عام 2022 بردم بئر مياه استمرت البلدية في حفرها وتأسيسها عاما، بكلفة مليون شيقل (271 ألف دولار) لتوفير مصدر مياه ثانٍ للبلدة التي يسكنها 6 آلاف شخص، بحسب نسرين حماد، الموظفة في وحدة العلاقات العامة في بلدية بيت ليد.
وينسحب هذا الحال على عدد من القرى والبلدات التي يدمر ويجفف الاحتلال آبار المياه فيها منذ عام 1967 وحتى الآن، كما يقول أمير داود، مدير عام الإدارة العامة للتوثيق والنشر في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان (حكومية)، كاشفا أن عدد الينابيع والآبار التي تم تجفيفها وإضعافها أو الاستيلاء عليها تجاوز 300 نبع طبيعي و500 بئر ارتوازية.
منع الإصلاحات وإعادة الإعمار
لم تتوقف جرائم الاحتلال عند تدمير الخدمات الأساسية، بل تعدت ذلك إلى عرقلة أو منع إعادة تأهيلها وصيانتها عبر مصادرة الآليات والمعدات الثقيلة خاصة في مناطق (ج) وفق إفادة مدنية، ورغم ذلك تواصل المديرية عملها وتتحدى عراقيل الاحتلال، وتحرص على تزويد وزارة الحكم لمحلي الفلسطينية بالتقارير الدورية حول الاعتداءات لتقديمها إلى الجهات الدولية في محاولة لمحاسبة إسرائيل.
منع إعادة الإعمار ومصادرة الآليات لإجبار السكان على التهجير
وتكرر استيلاء الاحتلال على المعدات الثقيلة في قرية جلبون شرقي جنين، ومنعت الطواقم من استكمال أعمالها لتطوير أو توسيع البنى التحتية في القرية المحاصرة بمستوطنات من 3 جهات، بحسب رئيس المجلس إبراهيم أبو الرب الذي يوضح أن جيش الاحتلال يتذرع لدى مصادرته للمعدات التي كانت تعمل على شق طرق القرية وتوسيعها، بأن العمل في مناطق ج (تشكل 61% من أراضي الضفة وتسيطر إسرائيل أمنيا عليها) من صلاحياته فقط، وتمت مصادرة جرار، وثلاث جرافات وصل ثمنها لأكثر من مليون شيكل (258 ألف دولار) دون سابق إنذار، وفرضت غرامات مالية على أصحابها تصل أحيانا إلى ثلثي ثمن الآلية خلال الأشهر الستة الأخيرة .
وتخلق هذه الممارسات حالة من الرعب لدى المقاولين الذين باتوا يحجمون عن الموافقة على تنفيذ أي مشروع أو تطوير لمكونات البنية التحتية في هذه المناطق، لأن عملهم كله سيتوقف إن صادرت قوات الاحتلال آلياتهم أو أقدم المستوطنون على حرقها، بحسب أبو الرب.
إضافة إلى ما سبق، فإن القيود القانونية المفروضة على تطوير البنية التحتية، ومصادرة الأراضي والمعدات، والعرقلة المتعمدة بالوسائل البيروقراطية عبر ربط أي أعمال في البنية التحتية بالحصول على تصريح وموافقة من الاحتلال، هي شكل من أشكال الاستهداف غير المباشر للبنية التحتية الأساسية وتقويض سبل حياة الناس، عبر تعميق السيطرة الإسرائيلية على سبل عيش الفلسطينيين، وفق ما رصدته دراسة استهداف البنية التحتية وسبل العيش.
تدمير مصادر الطاقة والكهرباء في غزة
دمّر الاحتلال الإسرائيلي 70% من شبكات نقل وتوزيع الكهرباء في قطاع غزة خلال عدوانه المتواصل منذ السابع من أكتوبر 2023، وتقدر الخسائر بنحو 80 ملايين دولار أميركي، بحسب ما أعلنه رئيس سلطة الطاقة ظافر ملحم في تصريحات صحافية بتاريخ 8 نوفمبر 2023، مشيراً إلى استهداف الاحتلال الخلايا الشمسية، وهي المصدر الوحيد للطاقة المتبقي في غزة، ولا يتجاوز إنتاجه 5 ميغاواط، ودمر 70% من هذه الخلايا حتى التاريخ ذاته، مؤكداً أن إسرائيل منعت إدخال الوقود إلى القطاع، رغم المناشدات المستمرة، ما نتج عنه توقف للخدمات الأساسية القائمة على الوقود، خاصة في المشافي ومحطات ضخ وتحلية المياه، ومعالجة مياه الصرف الصحي، وشدد على أن منع الاحتلال الخدمات الأساسية ومحاولته جعل قطاع غزة مكاناً غير صالح للحياة هو جريمة حرب يجب أن تحاسب عليها دولة الاحتلال.
وتاريخيا، شهد القطاع أربع فترات من الصراع العنيف، في الفترة الممتدة بين عامي 2006 و2017، وهي الفترة التي شملتها الدراسة المذكورة آنفا، إذ تم خلالها استهداف البنية التحتية المدنية على نطاق واسع، كما تم تقييد عملية إعادة الإعمار بشكل خطير بسبب الحصار المفروض على المنطقة، وحللت الدراسة 297 حادثة استهداف للبنية التحتية بين عامي 2006 و2017 موزعة على قطاع الزراعة وصيد الأسماك بنسبة 49%، وقطاع المياه 43%، بينما كانت 8% متعلقة بقطاع الطاقة. وكانت 70% من الحوادث المتصلة بالزراعة وصيد الأسماك، تتعلق بالقيود المفروضة على الوصول إلى مياه الصيد المنتجة، إذ قيدت إسرائيل صيد الأسماك بمسافة لا تزيد عن 3 أميال بحرية من الشاطئ، أي أقل بكثير من الـ 20 ميلاً بحرياً التي تتطلبها اتفاقيات أوسلو، ويؤدي الصيد بالقرب من الشاطئ إلى استنفاد المخزون في مناطق الصيد الضحلة، والذي انخفض فعلا بنسبة 90%.
المستوطنون شركاء في تدمير مقومات البنى التحتية
يكشف تقرير "القوات الإسرائيلية والمستوطنون يصعدون العنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية" الصادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) في 9 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، أنه من بين عشرات العائلات التي نزحت من جنوب مدينة الخليل، فرّت عائلتان من منزليهما، بعدما أحرقهما المستوطنون وسرقوا الألواح الشمسية وبراميل المياه كما قطعوا أنابيب المياه الواصلة من الشبكة الرئيسية، والتي توزع المياه للمنازل.
وتشهد عدة قرى في ريف نابلس الجنوبي (18 بلدة وقرية) اعتداءات متكررة من قبل المستوطنين على مقومات البنية التحيتة؛ في محاولة لتهجير السكان إلى مناطق أخرى، كما حدث في قريتي جالود وقريوت، بحسب بشار صادق الناشط ضد الاستيطان في اللجان الشعبية (أهلية تعني بتسهيل حياة المواطنين)، موضحا أن قوات الاحتلال قطعت توصيلات 20 عمود كهرباء في قرى قصرة وجالود وقريوت القريبة من المستوطنات في 26 سبتمبر/أيلول 2023، كما دمرت 4 طرق تربط القرى الثلاث، ما يعني منع المواطنين الفلسطينيين من التنقل، بينما يوفر جيش الاحتلال للمستوطنين كل المعدات، من أجل إغلاق وتجريف الشوارع والأراضي الزراعية التي تعتبر مصدر رزق أصحابها، وبالتالي تسريع المخططات الاستيطانية والاستيلاء على تلك الأراضي في ما بعد، وهذه الحال، خلقت حالة من الرعب لدى بعض المواطنين، وبالتالي تهجير قسري لعدد من العائلات إلى مناطق اخرى داخل الضفة الغربية او خارجها، إذ نزحت 10 عائلات على الأقل من قرى جالود وقصرة وقريوت.
ويلزم القانون الدولي الإنساني أطراف النزاع بحماية المدنيين والبنية التحتية المدنية، والتي يجب الحفاظ عليها باعتبارها تخدم مصالح المدنيين غير المتحاربين، كي لا يتضرر المدنيون بسبب انقطاع الإمداد بالخدمات الحيوية مثل الكهرباء والمياه والصرف الصحي والرعاية الطبية، والغذاء والتعليم، كما يوضح المحامي غاندي الربعي، مدير دائرة السياسات والتشريعات سابقا في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان "ديوان المظالم" (حكومية)، منتقدا أداء السلطة الفلسطينية تجاه الحرب التي تشنها إسرائيل على البنى التحتية في الضفة وغزة، واصفا الأمر بالضعيف والشكلي في ظل تركيزها الأمني، ويتابع :"إن توجهت السلطة إلى محكمة الجنايات الدولية، فإنها تقع تحت تأثير الضغوط السياسية من الدول الكبرى ولم تحاسب إسرائيل على جرائمها حتى اليوم".
وعن الدور الحكومي لوضع حد لانتهاكات الاحتلال وتدميره المتكرر للبنى التحتية، تتلقى وزارة الحكم المحلي في فلسطين التقارير الدورية من مديرياتها في شتى المحافظات، لتتابع مع الأطراف الدولية وتكشف الاعتداءات أمام الجهات المختصة لمحاسبة إسرائيل، ومن جهة أخرى تسعى الوزارة عبر مديرياتها إلى إصلاح كل ما يدمره الاحتلال في كل مرة لتعزيز صمود الفلسطينيين ومقاومتهم، بحسب إفادة مدنية و أبو الراغب لـ"العربي الجديد".