لم يتمكن الستيني الجزائري حليم بوكابوس من السيطرة على مشاعره، بينما كان يروي قصة ابنه سيد علي بوكابوس، لاعب فريق كرة القدم بنادي وداد أدبي بوفاريك، (يلعب في الرابطة المحترفة الثانية)، والذي اختفى أثناء محاولته الهجرة غير الشرعية، في 15 أكتوبر/تشرين الأول 2021 من دون العثور على جثمانه حتى اليوم.
واتصلت مصالح الأمن بحليم من أجل التعرف على جثامين عدة انتُشلت في أوقات مختلفة، عسى أن يكون إحداها لابنه الذي لم يتجاوز الخامسة والعشرين عاما، "ولكن من دون جدوى"، كما يقول بحرقة.
وغادر سيد علي، الجزائر على متن قارب هجرة غير شرعية في حدود الساعة الثالثة بعد الزوال من شاطئ تامانفوست في بلدية برج البحري شرق الجزائر العاصمة، برفقة 17 آخرين بالإضافة إلى قائد الرحلة ومرشدها، وسجلت مصالح الأمن غرق القارب في منطقة الرايس حميدو بالقرب من السواحل الوسطى للعاصمة بعد الانطلاق بـ 25 دقيقة، بسبب اصطدام القارب بإحدى سفن خفر السواحل، خلال محاولته الإفلات منها، ليتم إنقاذ شخصين من الغرق، واختفى اثنان، فيما كانت الوفاة مصير البقية.
ويؤكد والد سيد علي أن شهود عيان جزموا بأن ابنه كان أول من قفز من القارب عند اصطدامه بسفينة القوات البحرية، برفقة شخص آخر ينحدر من مدينة سيدي موسى جنوب العاصمة، إلا أنه لم يتم العثور عليهما، فيما مات البقية جراء تجرع كميات كبيرة من المياه المختلطة بالبنزين المتسرّب من القارب، والذي يحمل عادة ما لا يقل عن 600 لتر في الرحلة الواحدة بحسب توضيح أحمد شيخاوي، والذي يمتلك ورشة لصناعة القوارب.
الوجهة إلى إسبانيا ومنها إلى فرنسا
لم يعرف بخطة سيد علي للهجرة غير شقيقه محمد بوكابوس، والذي يقول إن سيد كان يطمح للاحتراف في نادي كرة قدم فرنسي، ولم يتمكن من السفر بطريقة شرعية بعد رفض محاولاته الحصول على تأشيرة "شينغن"، لكنه كان على اتصال مع صديق له تمكّن من التوقيع مع ناد محلي فرنسي، ودعاه للقدوم في أسرع وقت، حتى لا يضيّع فرصة الاحتراف في أوروبا، فدفع مبلغ 650 ألف دينار (4564 دولارا) مقابل السفر عبر قارب نزهة تقليدي مزوّد بمحرك من طراز "هوندا"، وكان يفترض به الوصول إلى السواحل الفرنسية في غضون 14 ساعة، إلا أن القدر كان أسرع من ذلك، كما يضيف المتحدّث.
وسجّل سيد علي اسمه للهجرة لدى مرشد الحي (سمسار يتكفل بتنظيم الرحلة)، يدعى إسماعيل طايبي 28 عاما، ويمتلك محل تبغ وجرائد، وكان معه على متن القارب زوجته الحامل ذات الـ 22 عاما، وابنته ذات الأعوام الثلاثة، وبينما غرق الزوج والابنة فورا، نجت الزوجة ونُقلت سريعا إلى مستشفى الحروق بالدويرة غربي العاصمة، لتلفظ أنفاسها في صبيحة اليوم الموالي.
ويعد قارب سيد علي ورفاقه واحدا من القوارب التي أوقفتها السلطات الجزائرية، إذ تكشف بيانات حرس السواحل والتي اطلعت عليه معدة التحقيق، عن إحباط محاولات 6204 أشخاص الهجرة غير الشرعية، خلال الفترة الممتدة بين بداية عام 2021 وحتى نوفمبر/تشرين الثاني، كما فككت مصالح الأمن الوطني 5 شبكات لتنظيم الهجرة غير الشرعية في الفترة الممتدة بين يوليو/تموز و15 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ويديرها أشخاص ينحدرون من غرب البلاد، وتتراوح أعمارهم بين الثلاثينات والأربعينات، بحسب إفادة خلية الاتصال في مديرية العامة للأمن الوطني.
وتعد إسبانيا الوجهة الأولى للمهاجرين غير الشرعيين من الجزائر، وفقا لما رصده الاتحاد الوطني للجزائريين في المهجر (منظمة معتمدة لدى وزارة الداخلية والجماعات المحلية تهتم بشؤون المهاجرين)، وارتفعت إحصائيات الهجرة غير الشرعية نحو إسبانيا بنسبة 50 في المائة خلال العام الماضي، بسبب ما أعقب فيروس كورونا من تسريح للعمال وتراجع للأحوال المعيشية، ومن بين إجمالي 30 ألف مهاجر، سجلت السلطات الإسبانية 6500 جزائري دخل بطريقة غير شرعية بحسب بيانات وزارة الداخلية الإسبانية، كما يقول رئيس الاتحاد الوطني للجزائريين بالمهجر سعيد بن رقية، مؤكدا في إفادة لـ"العربي الجديد" أنه خلال النصف الأول من عام 2021 تم تسجيل دخول 400 قارب هجرة غير شرعية، تحمل 1700 جزائري نزلوا بجزر البليار والكناري الإسبانية، فيما وصل آخرون إلى بقية السواحل على غرار أليكانتي وفالنسيا، وتم اكتشاف 60 جثة خلال نفس الفترة، بينما بقي 400 مهاجر غير شرعي مفقودين حتى 27 نوفمبر 2021.
بالمقابل وفي عام 2020، سافر 7773 جزائريا بطريقة شرعية، ولكنهم تحولوا إلى مقيمين غير شرعيين بعد انقضاء فترة تأشيراتهم، وتقدّموا بطلبات لجوء تم رفض 93% منها، واستقبلت إسبانيا وفرنسا وألمانيا وهولندا من تم قبول أوراقه، كما توضح ممثلة الاتحاد العام للجزائريين بالمهجر في ألمانيا والمكلفة بملف الهجرة غير الشرعية، نوال مفيتح، وتضيف في إفادة لـ"العربي الجديد"، أن من بين 1205 مهاجرين غير شرعيين جزائريين طلبوا اللجوء في ألمانيا في العام ذاته، تلقى 13 منهم فقط ردا إيجابيا.
4 آلاف دولار في مقابل الشخص
تكلف الهجرة غير الشرعية مبالغ تتراوح بين 550 ألف دينار جزائري (ما يوازي 3861 دولارا أميركيا) ومليون دينار (7020 دولارا أميركيا)، وتتباين الأسعار حسب نوعية القارب، كما يوضح عبد الكريم عبيدات رئيس المنظمة الوطنية لرعاية الشباب، ومؤلف كتاب "الحراقة، كيف يتغذى البحر على محن الشباب؟".
وتنقسم قوارب الهجرة غير الشرعية، إلى تقليدية، تُصنّع على مستوى ورشات محلية خاصة، ولا سيما في الولايات الساحلية على أساس أنها موجهة للنزهة، ويتم تركيب محركات من نوعيات مختلفة لتشغيلها، معظمها من علامات "سوزوكي" و"هوندا" و"ياماها" اليابانية، وتصل مدة الرحلات في هذه القوارب حتى 37 ساعة، كما تعادل طاقة استيعابها بين 20 و25 شخصا، وتتأرجح تكلفة التنقل عبرها بين 550 ألف دينار و700 ألف دينار (4916 دولارا أميركيا)، بحسب عبيدات.
والنوع الثاني يطلق عليه اسم السريع، وهو إما من نوع "فانتوم" Narcolanchas (قارب سرعته فائقة ويحتوي على محركين تفوق سرعته 60 عقدة في الساعة أي ما يعادل 111 كيلومترا) وقد يصل إلى السواحل الأوروبية في مدة تتراوح بين 5 و6 ساعات، وقارب "سومي ريجيت" (نصف مدعم ومزود بمحركين يستخدم أحدهما في حال تعطل الآخر) ويشبه اليخت ويعد أكثر أمنا، وتتراوح مدة رحلته بين الجزائر وإسبانيا من ثلاث إلى أربع ساعات، وتصل تكلفة التنقل في القاربين إلى مليون دينار وقد تتجاوز ذلك في الكثير من الأحيان، ويمكن لقارب من هذا النوع نقل 6 أشخاص في المرة الواحدة.
ويصل سعر بعض القوارب من نوع "السريع" إلى 16 مليون دينار، أي ما يوازي 112 ألف دولار أميركي، وتصل حمولتها حتى 20 شخصا، كما يقول تاجر القوارب فاروق مصطفى.
كيف تُباع قوارب "الموت"؟
يتم تصنيع القوارب التقليدية في ورشات معظمها يقع في الولايات الساحلية، خاصة في الغرب الجزائري، ويصنّف أصحابها ضمن تجار السوق السوداء غير المصرحين بنشاطاتهم، ويستورد المحركات مهنيو الصيد البحري وأصحاب قوارب النزهة، ويقتنيها منهم أصحاب الورشات، كما يقول عبيدات.
لكن ملاك الورشات ليسوا كلهم متورطين في صناعة قوارب الموت، كما يقول أحمد شيخاوي، والذي يملك ورشة في ولاية تيبازة، غرب العاصمة، مؤكدا أن نشاطه قانوني تحت وصاية وزارة النقل التي تتابع كل صغيرة وكبيرة حول عمليات البيع والشراء، كما أن من يقتنون القوارب يفترض أنهم بحارة أو صيّادون يتّجهون لمصالح النقل البحري على مستوى ولاياتهم من أجل طلب رخصة شراء القارب، وبعد أن يقوم المعني بتجهيز ملف مطابق لاقتناء قارب نزهة أو صيد، يحصل على الرخصة، مضيفا أن أصحاب المصانع ملزمون ببيع قواربهم لمن يملكون رخصة شراء، ويبلغ سعر القارب من دون محرك 180 ألف دينار (1256 دولارا أميركيا) قبل كورونا، وبعدها وصل إلى 210 آلاف دينار (1476 دولارا أميركيا).
وعن كيفية وصول تلك القوارب إلى من ينظّمون رحلات الهجرة غير الشرعية، يقول شيخاوي إن بعضهم يحصل على رخصة شراء قارب بطريقة قانونية، لكنه يستغله بعدها في الهجرة غير الشرعية، وآخرين قد يشترون قاربا يباع أكثر من مرة ويتم التلاعب بوثائقه الأصلية لإخفاء هوية الملّاك، قبل أن يصل في النهاية إلى منظم عملية "الحرقة".
أما القوارب الحديثة، فيقول صاحب كتاب "الحرقة" عبد الكريم عبيدات، إنها تستورد بموجب سجلات تجارية لصيادين وأصحاب محال لوازم الصيد البحري وعتاد الصيد، ويسوّقونها عبر عقد تتلقى مصالح الأمن نسخة عنه، لتحديد من يحوزها، غير أن بعض الملاك يؤجرونها لمن يقومون بتهريب الجزائريين نحو السواحل الأوروبية، وهو ما يراه المحامي إبراهيم بهلولي، "فعلاً لا يضعهم تحت أي طائلة قانونية، في ظل غياب دليل يؤكد أن المستأجر سوف يستغل القارب في الحرقة، لا سيما أن المؤجر يمتلك ترخيصا قانونيا يتيح له استغلاله".
ويتقاضى المؤجر مبالغ تصل إلى مليوني دينار (14 ألف دولار) عن كل رحلة تصل قيمة أرباحها إلى حوالي 6 ملايين دينار (42 ألف دولار) ويقتسم بقية المبلغ المنظمون، وفي حال غرق القارب أو تمت مصادرته في دول أوروبية يخسر الجميع، حسب عبيدات.
وبمجرد وصول سائق القارب إلى السواحل الأوروبية ينزل "الحراقة" ويعود أدراجه بسرعة فائقة قد لا يتمكن معها حرس السواحل من تتبعه وإيقافه، ويضيف عبيد أن ذروة تسجيل رحلات تهريب البشر في الجزائر كانت خلال الـ 72 ساعة الأخيرة لشهر يوليو/تموز 2021، إذ تم تسجيل تنقّل ألف "حراق" باتجاه السواحل الأوروبية، لكون توقيت الإبحار كان آمنا، بالإضافة إلى أن عملية منح التأشيرات كانت معلقة.
لكن مديرة التكوين في وزارة الصيد البحري وتربية المائيات لطيفة عبد الصمد، تؤكد أنه خلال العام الجاري يتم العمل على إحصاء عدد ملاك القوارب من الصيادين وتسجيلهم ومنحهم رخصة لممارسة النشاط، ضمن إجراءات أمنية مشددة في محاولة حكومية لإحصاء الأمر ومنع عمليات التهريب عبر تلك القوارب، كما تقول لـ"العربي الجديد".
جزائريون في سجون أوروبا
جرّم المشرع الجزائري في عام 2009، من يتورط في ظاهرة الهجرة غير الشرعية عبر البحر بموجب القانون المؤرخ في 25 فبراير/شباط بشأن اللوائح المتعلقة بمغادرة التراب الوطني عبر المادة 175/ مكرر 1 من قانون العقوبات والتي تنص على أن: "يواجه كل من يعترضه حرس السواحل حكما بالسجن من شهرين إلى 6 أشهر وغرامة تتراوح بين 20 ألف دينار (140 دولارا) وحتى 60 ألف دينار (421 دولارا)"، بحسب ما يوضح المحامي المعتمد لدى المحكمة العليا إبراهيم بهلولي، والذي يؤكد أن القانون يطبّق بصرامة، مشيرا إلى أنه على مستوى محاكم الغرب، تم شهرياً مقاضاة ما لا يقل عن 50 شخصا، خلال فصل الصيف المنصرم والذي شهد تصاعدا في عمليات الهجرة غير الشرعية.
وفي المقابل، يكشف رئيس الاتحاد الوطني للجزائريين في المهجر عن وجود 800 جزائري في مراكز الاحتجاز الإسبانية، منهم قُصّر يمضون 60 يوما ثم يصدر في حقهم قرار ترحيل من الأراضي الإسبانية، وآخرون يواجهون تهمة الاتجار بالبشر، ويتوزع هؤلاء "الحراقة" على مستوى 21 مركز احتجاز في إسبانيا.
ويٌعيد نور الدين بلمداح، النائب السابق في البرلمان الجزائري عن حزب جبهة التحرير الوطني (موالاة) تنامي ظاهرة الهجرة غير الشرعية من الجزائر إلى أوروبا، لقرار وقف الرحلات الجوية والبحرية خلال فترة كورونا، وتقليص منح تأشيرة "شينغن" للجزائريين رغم رفع القيود عن الطيران المدني، داعيا إلى فتح نقاش مع السلطات الأوروبية لإيجاد حل للمشكلة، قائلا :"السلطات الجزائرية اتخذت الإجراءات كافة خلال الفترة الأخيرة للحد من الظاهرة عبر نشر قوات الأمن بالسواحل، وتشديد الرقابة على أصحاب القوارب والبحث عن شبكات تصنيعها وتسويقها، ولكن يجب اليوم التنسيق أكثر مع الطرف الأوروبي".