يجيب ملف "الوجه الآخر للجوء" في حلقته الأولى من لبنان عن سؤال ما الذي يقدمه السوريون للاقتصاد المحلي؟ والذي يعاني من أزمة اقتصادية طاحنة، كما يكشف عن الآثار الإيجابية لوجودهم والتي يتغافل عنها المحرضون ضدهم.
-تحصل اللاجئة السورية في لبنان، إلهام المحمد، على 4 ملايين ليرة لبنانية (سعر الصرف الرسمي 1507.5 ليرات مقابل الدولار الأميركي) شهرياً من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وتتسلم منها مليون ليرة نقدا و3 ملايين تنفقها عبر البطاقة التموينية، التي تخولها سحب مبلغ 500 ألف ليرة للشخص الواحد عبر البنوك، أو شراء مواد غذائية بواسطتها، كما تقول لـ"العربي الجديد"، موضحة أنها تُنفق مليوني ليرة من أموال المعونات الواردة إليها على إيجار بيتها المكوّن من غرفتين، ومليوني ليرة على فواتير المولد الكهربائي شهريا، في حين تعتمد الأسرة على دخل زوجها العامل في ورشة صيانة آلات ومركبات، لتأمين بقية متطلبات الحياة، وتلفت إلى أن حجم إنفاق الأسرة اليومي قد يصل أحيانا في ظل الغلاء المعيشي إلى 500 ألف ليرة على بعض الاحتياجات المنزلية، ويصل مجموع ما تحتاجه الأسرة إلى ما بين 6 و7 ملايين ليرة كحد أدنى شهريا.
وتعد المعونات المالية التي تحصل عليها أسرة المحمد المكونة من 8 أشخاص يقطنون بمخيم مار إلياس في بيروت جزءا مما يضخه اللاجئون السوريون في الاقتصاد اللبناني، "إذ يصاحب كلَّ دولار أميركي ينفق على المساعدات الإنسانية المقدمة من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين واليونيسف وبرنامج الأغذية العالمي، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تأثيرٌ مضاعفٌ في الاقتصاد اللبناني يعادل 1.6 دولار"، وفق دراسة صادرة عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي عام 2015 بعنوان (تحوّل النازحين السوريين من مجرّد عبء إلى مساهمين فاعلين في الاقتصاد المحلي في لبنان).
خلال أربعة أعوام ضخ اللاجئون قرابة مليار دولار في متاجر لبنانية
وبلغت مساعدات المجتمع الدولي لدعم جميع الفئات الضعيفة من السكان 9 مليارات دولار أميركي منذ عام 2015 وحتى عام 2021 بحسب خطة لبنان للاستجابة للأزمة لعام 2022-2023، وتقدم هذه المبالغ إلى لبنان بالدولار الأميركي، كما توضح دلال حرب، المتحدثة باسم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان، مبينة أن المفوضية تقدم مساعدات نقدية شهرية تبلغ مليون ليرة لبنانية لـ 55% من العائلات السورية اللاجئة الأشد ضعفا، ويتلقاها القطاع المصرفي في لبنان بالدولار ولاحقاً يسلمها إلى اللاجئين السوريين بالليرة اللبنانية.
عوائد احتضان اللاجئين
ضخ اللاجئون السوريون في لبنان، منذ 2013 وحتى يونيو/حزيران 2017، مبلغ 965.5 مليون دولار أميركي في المتاجر اللبنانية الشريكة مع برنامج الأغذية العالمي، عبر نظام قسائم الأغذية الإلكترونية، والذي يتم من خلاله توزيع البطاقات الإلكترونية على الفئات المستضعفة من السوريين، كما أنعش وجود السوريين سوق العقارات أيضا، إذ أنفقوا 78 مليونا و700 ألف دولار أميركي في شراء العقارات عام 2016، بالإضافة إلى 378 مليون دولار لاستئجار مساكن وأغراض تتعلق بالإيجار، بحسب ما وثقته دراسة بعنوان (101 حقيقة ومؤشر حول أزمة اللجوء السوري) أصدرها في يناير/كانون الثاني 2018 معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية بالجامعة الأميركية في بيروت، وهي صورة بسيطة من عوائد احتضان اللاجئين و"النواحي الإيجابية للوجود السوري في لبنان"، كما يوضح الخبير الاقتصادي الدكتور نسيب غبريل، رئيس قسم البحث والتحليل الاقتصادي في "بنك بيبلوس"، مؤكدا لـ"العربي الجديد" أن معدل فائض بند حساب رأس المال الجاري في ميزان المدفوعات في لبنان (يتكون من الميزان التجاري الذي يشمل الصادرات والواردات لكل السلع والخدمات والتحويلات الدولية، بالإضافة لصافي الدخل من الخارج، وصافي التحويلات الجارية)، بلغ مليارا و500 مليون دولار سنوياً بين الأعوام من 2013 حتى 2019، نتيجة المساعدات المالية التي كانت تأتي إلى النازحين السوريين والمجتمع اللبناني الذي يحتضنهم، بينما لم يتجاوز الفائض في 2012 أي بُعيد اندلاع الأزمة السورية 169 مليون دولار.
"وكان لوجود الطبقة الميسورة والصناعيين السوريين في لبنان تأثير إيجابي أيضا، رغم أنهم لم ينقلوا صناعاتهم من المناطق السورية إلى لبنان بل إلى بلدان أخرى كالأردن والإمارات ومصر وتركيا، لكن نفقات الإقامة لعائلاتهم في لبنان، من معيشة ومدارس وإيجارات وشراء منازل وغيرها، ساهمت بعض الشيء في إنعاش الحركة الاقتصادية في البلاد"، بحسب غبريل.
تسلم مساعدات اللاجئين المقدمة من الجهات الدولية بالدولار إلى مصرف لبنان
و"يحصل كل فرد سوري حالياً على ما يعادل 27 دولاراً شهرياً من مساعدات الأمم المتحدة، أي نحو 40 مليون دولار يجري إنفاقها بشكل مباشر شهرياً كما يوضح الخبير الاقتصادي بيار خوري، المتخصص في سياسات الاقتصاد الكلي وعمل سابقا لدى معهد صندوق النقد الدولي في واشنطن، مضيفاً أن "هذه الأموال تُعتبر مبالغ كبيرة مقارنة بقيمة العملة الوطنية في ظل الأزمة اللبنانية الراهنة، بينما سابقاً، أي قبل التضخم المالي الذي بدأ عام 2019، كان يعتبر رقماً متواضعاً". ويستطرد بقوله "إنه قد لا تكون هذه المبالغ كافية في مقابل ما يحصل عليه السوري من خدمات عامة في لبنان (البنى التحتية والكهرباء والصرف الصحي وغيرها) في ظل كونها تعاني ضغطا شديدا وتهالكا، ولكن اللوم يقع على الدولة التي لم تطور بنيتها التحتية ولم تفاوض المجتمع الدولي بشكل صحيح حول كلفة اللجوء السوري".
فوائد تحويل أموال المعونات لمصرف لبنان
يوضح الباحث في الشؤون الاقتصادية والسياسية بلال علامة لـ"العربي الجديد" أن "قرار تسليم المساعدات المخصصة للاجئين السوريين إلى المصرف المركزي اللبناني بالدولار الأميركي بدأ منذ أزمة القطاع المصرفي في أكتوبر/تشرين الأول 2019، ما أجبر المنظمات الدولية على دفع المساعدات من خلاله بعد أن كانت تحول الأموال إلى عدد من المصارف التجارية اللبنانية، قبل توزيعها على اللاجئين المحتاجين بالـ "فريش دولار"، بينما تصرف لهم الآن بالليرة اللبنانية".
ويحدد علامة 3 فوائد اقتصادية لذلك، أولاها، تأمين سلع استراتيجية، إذ اضطر مصرف لبنان لاستخدام التدفقات المالية الواصلة بالدولار من المجتمع الدولي لتمويل شراء السلع الاستراتيجية، وخصوصاً السلع المدعومة وأبرزها المحروقات والأدوية والمواد الغذائية الأساسية كالقمح والطحين، وثانيا تعزيز الأرصدة وتحديدا بالعملة الأجنبية، خصوصاً بعد تحويل عدد من كبار المودعين العملات الأجنبية في حساباتهم المصرفية إلى الخارج، وبالتالي فإن معظم المصارف أصبح لديها نقص هائل في السيولة، وهنا جاءت المعونات الدولية بالفريش دولار لتخفف من وطأة الأزمة، بالإضافة إلى ضخّ الدولار لاستكمال عمل منصة صيرفة الإلكترونية التي أطلقها مصرف لبنان وتهدف لضبط سعر الدولار من خلال بيعه بسعر يحدده "المركزي" عبر المصارف ومراكز الصرافة المرخّصة، ولدعم هذه العملية اضطر مصرف لبنان إلى ضخ ما بين 25 و40 مليون دولار يوميا، وهي أموال كان يمولها من خلال تدفقات العملات الأجنبية، ومنها تحويلات مقدمة إلى اللاجئين السوريين.
برامج ممولة لصالح المجتمع المضيف
منذ عام 2011، وحتى عام 2021 قدمت الأمم المتحدة 372.91 مليون دولار أميركي للمؤسسات اللبنانية، وفق دلال حرب، والتي تقول: "في عام 2021 وحده، قدّمت الأمم المتحدة أكثر من 20 مليون دولار للمؤسسات والمجتمعات اللبنانية المضيفة، كما قامت بتمويل تأمين الطاقة البديلة لعدد من البلديات في مختلف المناطق التي يتواجد فيها مواطنون ولاجئون لكي يتمّ تأمين التيار الكهربائي وضخّ المياه للسكان"، وتضيف: "منذ عام 2011 يدعم 120 شريكاً محلياً سنويا أكثر من 1.5 مليون لبناني من الفئات الأكثر ضعفا وهشاشة".
وتُجمع مصادر التحقيق على أن القطاع التعليمي في لبنان من أبرز القطاعات التي استفادت من معونات وبرامج المنظمات الدولية المعنية بقضايا اللاجئين، ويبدو الأمر في أن قيمة ميزانية التعليم بالخطة الإنسانية لعام 2022 والممولة من المانحين تبلغ 182 مليون دولار، أي أعلى من ميزانية التعليم المخطط لها بأكملها والتي تبلغ 125 مليون دولار في لبنان، بحسب ما أشارت إليه منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير لها صدر في 6 مايو/أيار 2022.
وتنقسم ميزانية اليونيسف التمويلية إلى قسميْن بحسب نائبة ممثل اليونيسف في لبنان إيتي هيغينز، موضحة أن 85% من برامج الدعم تندرج ضمن خطة لبنان للاستجابة بسبب تداعيات الأزمة السورية، و15% بسبب الأزمة اللبنانية، مضيفة أن المنظمة "أنفقت على سبيل المثال في عام 2012 وحده، 87.2 مليون دولار على جميع أنشطتها في لبنان".
وتتعامل اليونيسف مع 75 مؤسسة دولية ومحلية، وتقوم بدورها بتوظيف آلاف الموظفين اللبنانيين الذين يتلقون رواتبهم بالدولار الأميركي"، بحسب هيغينز، والتي تقول: "المنظمة تموّل كل مستلزمات التعليم المسائي الخاص باللاجئين السوريين، ويشمل رسوم التسجيل للطلاب ورواتب إضافية للمعلمات والمعلمين اللبنانيين العاملين في التعليم المسائي"، مضيفة أن المنظمة تساهم أيضاً في دفع رسوم التسجيل إلى عدد من الطلاب اللبنانيين في الدوام الصباحي الاعتيادي، وفي إعادة تأهيل المدارس اللبنانية عموماً"، عدا عن برامج أخرى "بهدف مساعدة الطلاب المحتاجين من لبنانيين وسوريين وفلسطينيين، مثل المنحة الوطنية للأطفال في لبنان التي أطلقتها اليونيسف منتصف عام 2021، وهي عبارة عن مساعدات نقدية بالدولار الأميركي تبلغ 40 دولاراً للطالب".
إسهامات العمالة السورية
تعرّض الناتج المحلي في لبنان إلى تراجع خطير، نتيجة الأزمة اللبنانية، إذ تراجع من 50 مليار دولار عام 2019 إلى 20 مليار دولار في نهاية 2021، ولولا توفر العمالة السورية لشهد انخفاضا أكبر في الناتج المحلي الإجمالي، بحسب خوري، مضيفا أنه في مقابل تراجع الاستثمار بشكل كبير نتيجة الأزمة اللبنانية، ارتفع حجم الإنفاق على الصيانة، بمعنى أن الناس باتت تنفق على تصليح الأشياء وليس على تغييرها، وللعمالة السورية مساهمة هامة في أعمال الصيانة، علماً أن الإنفاق على الصيانة هو جزء أساسي من الناتج المحلي الإجمالي".
وتوفر العمالة السورية حوالي 40% من الكُلفة الاقتصادية لليد العاملة مقارنةً بالعامل اللبناني، وتتركز في القطاعات ذات المهن اليدوية على غرار قطاع البناء، الدهان، الزراعة، خدمات السكن، خدمات التوصيل، بعكس العمالة اللبنانية التي تتجه أكثر صوب الأعمال الإدارية، كما يوضح خوري، مشيراً إلى أن "هذه القطاعات التي تصل إلى 40 قطاعاً، تساهم بحوالي 40% من الناتج المحلي الإجمالي، ومن هؤلاء السوري الأربعيني أحمد خالد إيبو، الذي يقطن في مخيم مار الياس مع أولاده الأربعة ويعمل في أعمال الباطون، مقابل مبلغ يتراوح بين 150 و200 ألف ليرة لبنانية في اليوم الواحد ، وفق روايته لـ"العربي الجديد"، ولا يتوفر له العمل في كل أيام الأسبوع، لكنه يسعى لتأمين إيجار المنزل وفواتير الماء والكهرباء من عمله.
عنصرية تجاه اللاجئين رغم الإيجابيات
لا تتوقف الجهات الرسمية اللبنانية عن تحميل اللاجئين السوريين مسؤولية الأزمة التي تمر بها البلاد، إذ حملت وزارة الخارجية اللبنانية في بيان يوم 5 أغسطس/آب 2022، اللاجئين السوريين مسؤولية الأزمة الاقتصادية العميقة، موضحة في بيانها أن "أسباب الأزمة الاقتصادية الحادة تعددت، لكن أحد الأسباب الرئيسية لما يرزح تحته لبنان متصل بالنزوح السوري الكثيف". ويقول المدير العام لوزارة الشؤون الاجتماعية القاضي عبد الله أحمد لـ"العربي الجديد" إن النازح السوري في ظل الأزمة اللبنانية، يمثل عبئاً على موازنة البلاد التي تبلغ 35 مليار ليرة، كما أنه يستفيد مثله مثل المواطن اللبناني من مراكز الخدمات الإنمائية التي تقدمها وزارة الشؤون الاجتماعية، وتشمل تقديم رعاية صحية أولية، وتوعية وإرشاد، وغيرها.
ويرى المدير التنفيذي لشبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية زياد عبد الصمد، أن التركيز على تحميل السوريين جزءا من المسؤولية عن دخول البلاد في أزمة اقتصادية، وعدم التركيز على المكاسب يعود إلى ثلاثة أسباب، أولها، الضغط على المجتمع الدولي كي يتحمل مسؤوليته أكثر، في ظل مخاوف من انخفاض الدعم المالي الخاص باللاجئين السوريين بخاصة عقب الحرب الروسية الأوكرانية، والثاني: حجة مثالية لدى الطبقة السياسية في لبنان للهروب من المسؤولية عبر إلقاء اللوم على اللاجئين في ظل الانهيار المالي، والثالث: مدخل لتطبيع العلاقات مع السوريين بالنسبة إلى فئة معينة من السياسيين، والدليل أن وزير شؤون المهجرين في حكومة تصريف الأعمال في لبنان، عصام شرف الدين، زار دمشق بتكليفٍ رسميٍ في 15 أغسطس/آب 2022، لبحث ملف عودة اللاجئين.
هذا الحال، يجعل إيبو يتمنى العودة إلى سورية، بدل الشعور بالذنب دائما نتيجة ما يلقى على السوريين من لوم في زيادة الأزمة اللبنانية، لكن "بيته الذي تدمر في الحرب السورية يمنعه من العودة"، على حد قوله.