تُباع وظائف حكومية في ليبيا ويحصل عاملون على رواتب من دون عمل، ما أدى إلى تضخم الجهاز الإداري للدولة الذي يبلغ عدد موظفيه 29% من إجمالي المواطنين. كذلك تُستنزف الخزينة العامة، في ظل محاولات غير فعالة لمواجهة الظاهرة.
- لم يذهب العشريني الليبي نصر الدين أبوسيف حتى اليوم إلى عمله في المركز الثقافي بمدينة سبها جنوبيّ البلاد، رغم تعيينه في عام 2021، وتقاضيه 1522 ديناراً ليبياً (316 دولار أميركي) راتباً شهرياً، مُقراً في حديثه لـ"العربي الجديد"، بأنه نال الوظيفة عبر وسيط منحه راتب أول ستة أشهر، في مقابل تزكية طلبه عبر وزير من أقاربه.
ولا يقتصر نيل الوظائف الحكومية على الواسطة مثل حالة أبوسيف، إذ تعرض مكاتب خدمات خاصة فرص عمل حكومية، في مقابل 5 آلاف دينار (1038 دولاراً)، ومن بين العاملين في هذا المجال المنتشر عبد الكريم الكباشي، الذي تواصل معه مُعدّ التحقيق عبر مكتبه الموجود في شارع بالخير وسط طرابلس، متظاهراً بحاجته إلى وظيفة حكومية، فردّ عليه إيجاباً، وطلب منه إحضار صورة من شهادة الميلاد والرقم الوطني والمؤهل العلمي والقطاع الذي يريد العمل فيه، مؤكداً أن الموظف يتقاضى راتبه دون الحضور إلى العمل.
ويندرج هذا التعيين ضمن ما يُعرَف بـ"الموظفين الوهميين"، وهؤلاء يحصلون على رواتب شهرية دون عمل، وفق إفادة علي صالح، المسؤول السابق في وزارة العمل والتأهيل، مؤكداً لـ"العربي الجديد"، أن ليبيين مقيمين خارج الوطن يتقاضون مرتّبات شهرية، باعتبارهم موظفين حكوميين.
ويتطابق حديث صالح مع ما وثقه مُعدّ التحقيق عبر التقرير السنوي لديوان المحاسبة (أعلى سلطة رقابية في ليبيا) لسنة 2021، الذي أكد وجود موظفين بسفارات ليبية يحصلون على رواتب، رغم انتهاء فترة عملهم فيها، موضحاً أن "موفدين ليبيين للتمثيل الخارجي تجاوزوا السنّ القانونية طبقاً لنص المادة الأولى من القانون رقم (1) لسنة 2018، بشأن تعديل أحكام قانون الضمان الاجتماعي رقم 13 لسنة 1980، مع عدم وجود أسانيد قانونية تجيز استمرارهم بالمهام والوظائف المكلفين بها"، فضلاً عن "تضمين قيمة مرتبات شهرية غير مستحقة باستمارات الصرف، الأمر الذي يترتب عليه صرف أموال دون وجه حق بالمخالفة لأحكام قانون العمل السياسي والقنصلي رقم (1) لسنة 2001 وتعديلاته".
وفي عام 2022 "بلغت التحويلات لحسابات السفارات والقنصليات والبعثات الليبية بالخارج 404 ملايين و982 ألف و979 ديناراً (84 مليوناً و107 ألف دولار)"، وفق تقرير ديون المحاسبة لسنة 2022، الذي لاحظ "قيام وزارة المالية بإضافة أسماء وإحالة مرتبات بعض المراقبين الماليين الموفدين للعمل بالسفارات والقنصليات والبعثات الليبية في الخارج بالرغم من انتهاء مدة إيفادهم، ووجود ازدواجية في صرف مرتبات بعض الموفدين للعمل بالخارج، حيث تبين استمرار صرف مرتباتهم في الداخل، وقيام وزارة المالية بإضافة مبالغ مالية بالرغم من عدم تضمينها بالكشوفات الصادرة عن وزارة الخارجية والتعاون الدولي".
التعيينات العشوائية
"يستمر عدد من الجهات الحكومية في القيام بتعيينات عشوائية سببت توسيع هوة التشوه في الكادر الإداري للدولة من سنة إلى أخرى، سواء من حيث الأعداد أو التخصصات، نتيجة عدم التقيد بالتشريعات النافذة بهذا الخصوص"، كما جاء في تقرير ديون المحاسبة عن عام 2022.
ومن بين هذه الجهات وزارة التربية والتعليم، التي عُين فيها إسماعيل مادي، في عام 2015، عبر مكتب خدمات توظيف، دفع له 4 آلاف دينار (830 دولاراً)، كما يقول لـ"العربي الجديد"، مقراً بأنه لا يمتلك مؤهلاً جامعياً ولا يذهب إلى مقر عمله.
ومادي واحد من بين 59 ألف موظف يتقاضون رواتب دون عمل أحصتهم الوزارة في عام 2021، وفق حسن المبروك عطية، مدير إدارة الاحتياط العام بوزارة التربية والتعليم التابعة لحكومة الوحدة الوطنية، مؤكداً لـ"العربي الجديد" أن هذا العدد الوهمي للموظفين يصرف لهم من الخزانة العامة سنوياً ثلاثة مليارات دينار (623 مليون و47 ألف دولار).
59 ألف موظف يتقاضون رواتب من دون عمل في وزارة التربية والتعليم
وفي 30 يوليو/ تموز 2023 وجه عطية مذكرة برقم (21-54-23) إلى مديري مكاتب الاحتياط العام بالمراقبات التعليمية ومراقبي التعليم بالبلديات، قال فيها إن "التستر على الموظفين في أمر الحضور ومنحهم استمرارية عمل وتقارير كفاءة وهم منقطعون عن العمل لسنوات طويلة جريمة يعاقب عليها القانون وقواعد العمل، ويحاسب عليها كل من منح الاستمرارية وتقارير الكفاءة".
لماذا تفشل محاولات مواجهة الظاهرة؟
أوقفت وزارة التربية والتعليم 152 ألفاً و958 موظفاً، بحسب قرارها رقم 1127 لسنة 2019 بشأن "وقف مرتّبات عاملين يتقاضون مرتّبات من الوزارة ولا يوجد لهم أيّ بيانات في كشوفات الملاكات (الدرجات) الوظيفيّة أو الاحتياط العامّ أو موظّفي دواوين مراقبات التّعليم بالبلديّات".
وفي 28 أكتوبر 2019، طالب رئيس ديوان المحاسبة خالد شكسك في مذكرة موجهة لوزير التّعليم وقف تنفيذ القرارين رقم 1127 و1128 لسنة 2019 المتعلقين بإيقاف مرتّبات عاملين ووقف موظّفين عن العمل وإحالتهم على التّحقيق الإداريّ، إلى حين انتهاء الدّيوان من الدراسة والتّحقّق من الإجراءات والآثار التي تترتب عنهما.
لكن مصدرا في ديوان المحاسبة (رفض ذكر اسمه لكونه غير مخول بالحديث مع الإعلام) أكد لـ"العربي الجديد" عدم اتخاذ الديوان أية إجراءات للبت في القرارين حتى نهاية شهر سبتمبر/أيلول 2023.
ويعود سبب التضخم الوظيفي في القطاع الحكومي وعدم مواجهة الأمر إلى المحاصصة بين المناطق والأحزاب في تشكيل الحكومات منذ عام 2011، كما يقول أستاذ الاقتصاد بجامعة طرابلس الحكومية، أحمد المبروك، مشيراً إلى أن كل منطقة تقوم بتعيينات عشوائية في الوزارة التي على رأسها أحد المنتمين إليها من أجل الحصول على الأموال الحكومية بشتى الطرق، فضلاً عن التوظيف عبر المجموعات المسلحة التي تنضوي شكلياً تحت أجنحة السلطة، وهؤلاء يفرضون أسماءً في وزارات يقومون بحراستها.
قطاع عام هائل الحجم
في عام 2010، كان عدد الموظفين الحكوميين 900 ألف موظف، بحسب صالح المسؤول السابق في وزارة العمل، بينما في عام 2021 وصل إجمالي عدد الموظفين في الجهات الممولة من الخزانة العامة بحكومة الوحدة الوطنية إلى مليونين و24 ألفاً و539"، وفق التقرير السنوي لديوان المحاسبة، الذي كشف أن "إجمالي المرتبات بلغت 33 ملياراً و100 مليون دينار (6 مليارات و874 مليوناً و294 ألف دولار)، بزيادة 5 مليارات و800 مليون دينار (مليار و204 مليوناً و559 ألف دولار) عن عام 2020، وبنحو 8 مليارات و400 مليون دينار (مليار و744 مليوناً و534 ألف دولار) عن عام 2015".
ويعود "ارتفاع أعداد العاملين بالوحدات الإدارية العامة بمشاريع الملاكات الوظيفية بشكل يفوق معدلات الأداء بهذه الوحدات، إلى ضعف عمليات التحليل والوصف الوظيفي، ما ينعكس على عدم دقة تحديد الوظيفة ووظائف شاغليها"، بحسب تقرير ديوان المحاسبة لسنة 2022، الذي أكد وجود "المحاباة في التعيين والتكليف بالوظائف القيادية على حساب التخصص والكفاءة".
في عام 2010، كان عدد الموظفين الحكوميين 900 ألف موظف، بحسب صالح المسؤول السابق في وزارة العمل، بينما في عام 2021 وصل إجمالي عدد الموظفين في الجهات الممولة من الخزانة العامة بحكومة الوحدة الوطنية إلى مليونين و24 ألفاً و539
ونتج من ارتفاع أعداد الوظائف، وجود حالات ازدواج وظيفي (عاملون في أكثر من جهة حكومية ويتقاضون أكثر من راتب)، وفق صالح، بينما يؤكد مسعود القذافي، مدير إدارة التوثيق والمعلومات بوزارة العمل بحكومة الوحدة الوطنية، أن عدد حالات الازدواج الوظيفي المرصودة بلغ 25 ألف موظف حتى نهاية أغسطس/آب 2023، ويقول لـ"العربي الجديد": "تتم مراجعة قطاعات أخرى حالياً، منها وزارتا الصحة والتعليم العام والعالي وسيتم إلزام من يملك وظيفتين بتسوية وضعه والإبقاء على واحدة فقط".
مخالفة المعايير القانونية
"توجد تشوهات واختلالات، تسببت في تضخم أعداد الموظفين بشكل يخالف المعايير القانونية، وفق ما تؤكده وزارة العمل التابعة لحكومة الوحدة الوطنية على صفحتها الرسمية على موقع "فيسبوك" في 31 مايو/ أيار 2020، موضحة أن "قرارات تعيين صدرت عن مؤسسات عامة دون مراعاة الشروط، سواء القانونية أو المالية".
وتنص المادة الـ15 من قرار مجلس الوزراء رقم (45) لسنة 2005 باللائحة التنفيذية لقانون الخدمة المدنية رقم 4 لسنة 1998 والمعدل بالقانون رقم (4) لسنة 2005، على أنه "لا يجوز تعيين أي موظف إلا في وظيفة شاغرة على جدول تشكيلات الوظائف"، فيما تنص المادة السادسة عشرة من ذات القانون على أن "وحدة شؤون الموظفين في كل دائرة حكومية تعد كشوفاً بالوظائف الشاغرة المرصود لها مخصصات في الموازنة العامة، وتحديد الوظائف المراد شغلها، ومبررات شغلها في ضوء احتياجات العمل وتقدمها للديوان في بداية كل سنة مالية، وتعطى الأولية في شغل الوظائف للموظفين الزائدين على حاجة الدوائر الحكومية".
عدد حالات الازدواج الوظيفي 25 ألف عامل يتقاضون راتبين
"لكن عمليات التعيين التي تتم بالتأكيد تخالف هذا القانون"، حسب تأكيد أستاذ القانون الجنائي بجامعة مصراتة الحكومية، وسام الصغير لـ"العربي الجديد"، مشيرا إلى أن المادة 30 من القانون السابق تنص على أنه "إذا لم يباشر المرشح للتعيين العمل خلال مدة شهر من إخطاره كتابياً من قبل الديوان بوساطة دائرته الحكومية، تعتبر إجراءات تعيينه لاغية".
ما سبق يؤكد "عدم وجود سياسة واضحة لمعالجة أوضاع الباحثين عن العمل وفق أسس علمية سليمة، بالإضافة إلى عدم وجود سياسة أو تنسيق بين مخرجات التعليم وخطط استيعاب الخريجين الجدد بالوظائف المختلفة"، بحسب تقرير ديوان المحاسبة لسنة 2022.
وهو ما عانى منه أصيل محمد الأبيض، بعد تخرجه من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة طرابلس الحكومية، إذ يسعى منذ عام 2018 للحصول على وظيفة وتقدم بملفه إلى كل من وزارتي العمل والاقتصاد والمؤسسة الوطنية للنفط وشركات الاتصالات، بالإضافة إلى جهاز الإمداد الطبي ومصلحة الأحوال المدنية، كما قدم ملفاً إلى الهيئة العامة للمشروعات، لكن جميع محاولاته باءت بالفشل، رغم امتلاكه مؤهلاً جامعياً.