يستعبد كبار الملاك وأصحاب المصانع أجيالا متعاقبة من أسر لا يمكنها مغادرة ملكياتهم دون تسديد ديون متراكمة يستحيل الخلاص منها، بسبب الفقر الشديد ما يجعلهم رهائن السادة في كل تفاصيل حياتهم التي لا تحميها القوانين.
- لا يستطيع الأربعيني الباكستاني فهيم محمد وزوجته وأبناؤه، عصيان أوامر مالك مصنع الطوب الذي يعمل فيه بمنطقة كوجر خان في ضواحي مدينة راولبندي بإقليم البنجاب شمال شرقي باكستان، كما لا يستطيع تغيير محل عمله لأنه مجبر على خدمته بسبب الديون المتراكمة عليه، ولا يسمح له بالخروج من منزله المكون من غرفتين دون إذن رب العمل الذي يؤجره له، كما يقول لـ"العربي الجديد"، مضيفا بألم: "نعاني جيلا بعد جيل من العبودية، إذ كان والدي عبدا عند صاحب هذا المصنع حتى توفاه الله في أغسطس/آب 2020 وأصبحت مديونا لصاحب المصنع بمليون روبية باكستانية (3507 دولارات أميركية)". "جزء من هذه الديون كانت على والدي ولا يمكنني دفعها"، ويضيف: "لا يمكننا فعل أي شيء إلا بعد إذن صاحب المصنع، إنه يراقب كل ما نفعله".
ويحصل محمد مقابل عمله على 1600 روبية (5.89 دولارات) يوميا، ولا تكفيه لإطعام أسرته المكونة من 8 أبناء، ما يضطره إلى طلب سلفة من رب العمل، لتتضاعف بذلك ديونه التي لن يتمكن من دفعها، وبالتالي: "يبقى وأسرته تحت رحمته إلى الأبد" كما يقول.
ويعد محمد واحدا من بين "ثلاثة ملايين شخص يعانون من العبودية المعاصرة في باكستان"، بحسب ما توثقه منظمة IVolunteer International (أميركية) على موقعها في مقال نشرته بتاريخ 11 أكتوبر/تشرين الأول 2021، بعنوان "عبيد العصر الحديث: رعب الاستعباد بالعمل في باكستان".
عائلات مستعبدة: إرادة مُغيبة
"تشمل القطاعات التي يُستعبد فيها العمال أفران الطوب، ونسج السجاد، وتعدين الفحم، وصيد الأسماك، والخدمة المنزلية والصناعات الزراعية"، حسب إفادات مجموعة من الحقوقيين وخبراء القانون، والمنشورة على موقع courting the law الباكستاني القانوني في 13 فبراير/شباط عام 2020، بعنوان "عبودية العصر الحديث في باكستان".
وتتعرض أجيال وأسر بكاملها للاستعباد عبر العمل بالسخرة في الزراعة ومصانع الطوب والدباغة وصناعة السجاد في إقليمي السند والبنجاب، كما يرصد الناشط الاجتماعي والمحامي المعتمد لدى المحكمة العليا راشد عمر قائلا: "العمال لا يمكنهم الخروج من المنطقة التي يعملون فيها إلا بإذن صاحب العمل، وفي حال فعلوا ذلك، فإنهم معرضون للتعنيف والضرب"، ويضيف لـ"العربي الجديد": "حتى أطفالهم ملك لصاحب العمل وله حق التصرف بهم وحرمانهم من التعليم".
3 ملايين شخص يعانون من "العبودية المعاصرة" في باكستان
وتتطابق إفادة عمر مع ما شاهده إنعام الحق عباسي، المنسق في منظمة هيومن رايتس ووتش بباكستان، خلال آخر زيارة له إلى مصانع الطوب بإقليم البنجاب في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، قائلا: "وجدت العاملين في المصانع رهائن لدى أصحابها، ولا يملكون إرادتهم، وشاهدت مرضى لا يمكنهم الذهاب إلى المستشفيات، لأن صاحب المصنع لا يريد أن ينفق عليهم"، مضيفا لـ"العربي الجديد: "إنهم عبيد بمعنى الكلمة"، ويتابع: "الآباء والأمهات لا يملكون أي حقوق على أولادهم الصغار، مثلا لا يمكنهم أن يزوجوا بناتهم وأولادهم دون إذن صاحب المصنع أو أصحاب الأراضي الزراعية التي يعملون فيها".
ويؤكد ما سبق شهادات خمسة عمال تعرضوا للاستعباد والتعنيف، ومن بينهم إقبال خان وزوجته، اللذان يتعرضان للضرب في حال خالفوا أوامر صاحب مصنع للطوب في مدينة ملتان الواقعة في الجزء الجنوبي من إقليم البنجاب، كما يقول لـ"العربي الجديد"، مضيفا: "نحن مديونون لصاحب المصنع ولا يمكن لنا ترك العمل قبل دفع الديون".
ورغم نجاح زوج الباكستانية رابعة خان (42 عاما) في اقتراض نصف مليون روبية (1841 دولار)، لدفع ديونه إلى مالك أراض زراعية في مدينة ملتان، إلا أنه وعائلته واجهوا نفس المصير في مصنع طوب في مدينة راولبندي العاصمة العسكرية للبلاد، بعدما انتقل للعمل بالمصنع في أغسطس 2018، كما تقول خان لـ"العربي الجديد"، مضيفة: "نحن عبيد هنا كما كنا هناك، لا يمكننا عمل شيء إلا بإذنه، حتى تزويج أحد أبنائنا لا يتم بدون إذنه"، وتتابع: "صاحب المنزل الذي نعيش فيه هو رب العمل ويحاول أن يراكم علينا الديون أكثر، كي تبقى أجيالنا المقبلة تحت قبضته".
إرث تاريخي ممتد
"تنتشر العبودية في كل المناطق الباكستانية الريفية والحضرية، وتوجد علاقة متينة بين الاستعباد على يد الطبقة الأرستقراطية وكبار الملاك وتفشي الفقر والعوز والديون المتراكمة التي يتخذها أصحاب المصانع والمزارع مصيدة لجعل الفقراء عبيدا لهم بمرور الزمن"، بحسب دراسة "العبودية المعاصرة في باكستان"، الصادرة عن منظمة بدائل التنمية DAI (أميركية تأسست في عام 1970) في أغسطس/آب 2019، والتي توضح أن "حجة سداد الدين تستغل في تشغيل الأطفال والزواج القسري، والاتجار بالبشر، والاستغلال التجاري الجنسي".
تتعرض أسر بكاملها للاستعباد في قطاعات الزراعة والدباغة ومصانع الطوب
ويعود هذا النوع من الاستعباد إلى القرن السادس عشر، وكان معظم العبيد في الجيل الأول من "الأجانب"، وتم بيعهم بعد حروب في منطقة البحر الأسود وبعضهم من "الشركس، التتار، الروس"، وفي القرن التاسع عشر، اكتسبت العبودية أهمية في منطقة جنوب آسيا في سياق محاولات تنظيم العمل الريفي، وفق أطروحة لنيل الماجستير في قسم العلوم الاجتماعية بكلية الصحة والفنون والتصميم بجامعة سوينبرن Swinburne للتكنولوجيا (حكومية أسترالية) عام 2017، بعنوان "أصول العبودية في باكستان". و"بحلول أوائل القرن العشرين، بلغت نسبة ملاك الأراضي في الهند (كانت باكستان جزءا منها قبل الاستقلال) 19% وعمل لديهم أكثر من 80% من الباحثين عن لقمة العيش، لينتهي الأمر بالفلاحين الذين تراكمت عليهم الديون إلى العبودية"، وفق المصدر السابق.
وحافظ الاستعمار البريطاني على النظام الطبقي في الهند، إذ كانت الطبقة الراقية، تسخر الطبقات الدنيا لخدمتها، كما يقول محمد رضوان، أستاذ علم الاجتماع في جامعة العلامة إقبال الحكومية في إسلام أباد، مضيفا لـ"العربي الجديد" :"للأسف حكومات ما بعد الاستعمار لم تعمل على مواجهة تلك الظاهرة".
لماذا تتفشى الظاهرة؟
يستعبد أصحاب الأعمال وكبار الملاك الفقراء والمعوزين، بسبب تمتعهم بنفوذ سياسي أو قبلي أو حزبي، حسب ما يوضحه المحامي وقار أحمد راهي، والذي يعمل في محكمة إسلام أباد لـ"العربي الجديد"، وهو ما يؤكده تقرير "العبودية الحديثة: الاتجار بالنساء والفتيات في باكستان" الصادر عن لجنة حقوق الإنسان (غير حكومية) في فبراير/شباط 2022، والذي أشار إلى وجود "هيكل إقطاعي في باكستان، لاسيما في إقليم السند، ولدى الملاك تأثير سياسي واقتصادي هائل كأطراف مهيمنة على الآليتين الإدارية والتشريعية، ولا تُشرع السياسات والقوانين لصالح العمال والفلاحين الذين يدفع لهم مبالغ زهيدة مقابل أعمالهم أو قد لا يدفع لهم مطلقا".
ويؤكد التقرير السابق أن "لجنة حقوق الإنسان الباكستانية استطاعت في عام 2019، إطلاق سراح 63 شخصًا من العمال المستعبدين في أحد أفران الطوب بالقرب من مدينة ملتان". ويتهم النائب عن حزب الشعب الباكستاني (اشتراكي) قادر خان مندوخيل، الحكومات المتعاقبة بالتقصير في القضاء على الظاهرة، قائلا لـ"العربي الجديد": "منذ تأسيس باكستان في عام 1947 لا توجد مساع جادة للقضاء على ظاهرة العبودية المعاصرة".
ويعترف شريف الله خان، نائب رئيس هيئة التخطيط، بتفشي ظاهرة الاستعباد، قائلا إن الحكومة لا تفعل شيئا، لأن معظم المتورطين في الظاهرة من أرباب الأموال وأصحاب مصانع الطوب وكبار المزارعين، خاصة في إقليمي البنجاب والسند، ولهم نفوذ كبير داخل الحكومة والأحزاب السياسية.
ويستدل خان، بحزب الرابطة الإسلامية جناح نواز شريف، والذي تعبر حكوماته عن مصالح كبار التجار وأصحاب المصانع بينما حزب الشعب الباكستاني كثير من قياداته من الأرستقراطيين وأصحاب المزارع الكبيرة، و"هذا له تأثير كبير في تفشي الظاهرة"، كما يقول خان لـ"العربي الجديد".
تقصير حكومي في تطبيق القوانين
صادقت باكستان على اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 29 بشأن العمل الجبري، والتي تنص في مادتها الأولى على أن "كل دولة عضو في منظمة العمل الدولية تصادق على هذه الاتفاقية، تتعهد بحظر استخدام العمل الجبري أو الإلزامي بكل أشكاله حظرا تاما". وينسجم ذلك مع المادة الـ11 من الدستور الباكستاني، التي تحظر "العبودية وجميع أشكال السخرة والاتجار بالبشر". لكن هذه المادة الدستورية لا تطبق، حسبما يقول المحامي راهي، مضيفا لـ"العربي الجديد": "القوانين لا تطبق لصالح الفقراء".
وبسبب ذلك، يحجم الضحايا عن التقدم بشكاوى، حسب سميه قدير، المديرة التنفيذية لمؤسسة مجموعة تنمية باكستان (منظمة مجتمع مدني)، مؤكدة لـ"العربي الجديد" أن ضحايا الاستعباد مجبرون على مواصلة العمل، بسبب تراكم الديون عليهم. و"تتحمل الحكومة الباكستانية مسؤولية عدم تطبيق القانون"، حسبما يقول لـ"العربي الجديد" محمد شيرازي، رئيس نقابة الشباب (تهتم بالشأن الاجتماعي).
لكن لماذا تُغيب القوانين؟ يجيب شريف الله خان بالقول: "لا توجد إرادة حقيقية ولا مصلحة لدى الفاعلين من أجل تطبيق القانون". بيد أن العلامة سيد أحمد إقبال رضوي، نائب الأمين العام لمجلس وحدة المسلمين (حزب إسلامي) يقول لـ"العربي الجديد" إن مسؤولية القضاء على الظاهرة، تقع على الحكومة أولا، ولكن هناك دورا غائبا كذلك للمؤسسات التي تعنى بحقوق الإنسان وعلماء الدين والزعامة القبلية والشريحة المثقفة في البلاد.