الحياة في غزة... كيف تبدو بعد عام من الإبادة؟

07 أكتوبر 2024
لم يترك الاحتلال وسيلة لاستهداف مكونات الحياة المدنية في غزة (Getty)
+ الخط -

سعت دولة الاحتلال منذ بداية حربها على غزة إلى تدمير البنى التحتية والخدماتية في القطاع، ما جعل الحياة شبه مستحيلة، لا سيما بعد استهداف المنشآت ذات الطابع المدني مثل؛ المستشفيات، والعيادات، والمدارس، والوزارات، والمحاكم ومراكز الشرطة، بالإضافة إلى المؤسسات الأهلية، وتحديدا التي حاولت تأمين المساعدات الإنسانية لشمال ووسط مدينة غزة، فما الذي جرى بالضبط؟ وما هي آثار الحرب على تلك القطاعات؟ وكيف انتهكت دولة الاحتلال قواعد القانون الدولي المختصة بحماية المدنيين؟ وكيف يعمل القطاع الحكومي في زمن الحرب؟ 

-بدأت إسرائيل حربها باستهداف مواقع حيوية في قطاع غزة، وقطع امدادات الطعام والمياه، ومن ثم وقف إمدادات الكهرباء في اليوم الثالث للحرب، ويهدف التدمير الممنهج للبنى التحتية المدنية إلى خلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار الداخلي في القطاع، من أجل الضغط على المدنيين وتأليب الرأي العام ضد حركة حماس بوصفها السلطة الحاكمة لقطاع غزة منذ 17 عاماً.

وضمن هذه الاستراتيجية، سعت إسرائيل إلى تشكيل جهاز مدني بديل أو بيروقراطية موالية تنفذ أوامرها وتدير شؤون الحياة اليومية في غزة، وهو ما قامت باختباره ومحاولة تطبيقه أكثر من مرة، من خلال التواصل مع العشائر والعائلات المعروفة في مدينة غزة وشمالها، إلا أن "تجمع القبائل والعشائر والعائلات الفلسطينية" أصدر بياناً أكد فيه رفضهم أن يكونوا بديلاً عن أي نظام سياسي، مشددين على أنهم جزء من المكونات الوطنية وداعمين للمقاومة.

ومنذ اليوم الأول للحرب، انتهكت دولة الاحتلال اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين في وقت الحرب، وتحديدا المادة 33 التي تحظر العقاب الجماعي، بالإضافة للمادة 14 من البروتوكول الإضافي الثاني الملحق باتفاقيات جنيف، وعلى الرغم من عدم توقيع إسرائيل على البروتوكولات الملحقة باتفاقيات جنيف، إلا أن لها طابعها الملزم في القانون الدولي الإنساني لكونها أصبحت جزءاً من القانون الدولي العرفي.

وضمن سياسة نشر الفوضى وتدمير الحياة المدنية في غزة، اغتال الاحتلال مسؤول العمليات بشرطة غزة العميد فايق المبحوح، المسؤول عن التنسيق بين العشائر ووكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين - أونروا، لإدخال وتأمين المساعدات لمحافظتي غزة والشمال. كما قامت إسرائيل باغتيال سبعة عاملين مع منظمة المطبخ المركزي العالمي (خيرية مقرها الولايات المتحدة الأميركية) التي كانت تنسق مع جيش الاحتلال لتوزيع الطعام على النازحين من شمال قطاع غزة إلى جنوبه، وهو ما يعد جزءاً من حملة أوسع لتقويض سبل الحياة في القطاع، في انتهاك لجميع مبادئ القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وخاصة اتفاقيات جنيف الأربع التي وقعت عليها إسرائيل في 8 ديسمبر/كانون الأول 1948.

 

الإجهاز على القطاع الصحي

لم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى بدأت إسرائيل هجماتها على القطاع الصحي في غزة، فعلى مستوى المستشفيات؛ استهدف جيش الاحتلال محيط مستشفى بيت حانون وأخرجته عن الخدمة بسبب صعوبة الوصول إليه في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. تلا هذا الاستهداف مركز حيدر عبد الشافي للخدمات الصحية ومستشفى العيون الدولي في منطقة تل الهوى، واستهداف عمارة سكنية بالقرب من مستشفى الشفاء الطبي، وبعد أسبوع من بدء الحرب، قصفت إسرائيل ساحة مستشفى المعمداني، ما أدى إلى استشهاد 500 شخص في مجزرة مروعة.

وبعد قرابة عام من الحرب، أصدر المكتب الإعلامي الحكومي إحصاء بتاريخ 15 سبتمبر/أيلول 2024، ووثق استهداف إسرائيل 34 مستشفى وإخراجها عن الخدمة، بالإضافة إلى 80 مركزاً صحياً، و162 مؤسسة صحية، و131 سيارة إسعاف، ما أدى إلى استشهاد 885 فرداً من كوادر الطواقم الطبية، إلى جانب اعتقال 310 منهم، وبعد اقتحام عدة مستشفيات في القطاع، كُشف عن سبع مقابر جماعية داخلها، بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي، وكانت تضم 520 شهيداً، في انتهاك لمعاهدة جنيف الرابعة التي أكدت في المواد من 18 إلى 21 عدم مشروعية استهداف المستشفيات بأي حال من الأحوال، وضرورة حماية الكوادر الصحية، كما أن تعمد توجيه هجمات ضد المستشفيات وأماكن تجمع المرضى والجرحى يُعد جرائم حرب حسب الفقرة التاسعة من المادة 8 في نظام روما الأساسي.

ويحتاج 12 ألف جريح إلى سفر عاجل للعلاج في الخارج، ويضاف إليهم عشرة آلاف مريض بالسرطان يواجهون خطر الموت نتيجة عدم توفر العلاج. وبعد إغلاق معبر رفح، أدت القيود المفروضة على دخول المساعدات والمواد الغذائية إلى تهديد حياة ثلاثة آلاف و500 طفل بسبب سوء التغذية الحاد، وبالتالي تمارس دولة الاحتلال التجويع الجماعي أداةً من أدوات الحرب، وهو ما يعد، بحسب ميثاق روما الأساسي، جريمة حرب حسب الفقرة 25 من المادة 8، التي شددت على عدم تعمد عرقلة الإمدادات الإغاثية على النحو المنصوص عليه في اتفاقيات جنيف، وخاصة المادة 59 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تلزم بالسماح بعمليات الإغاثة لمصلحة السكان المدنيين وضمان مرور الأغذية والإمدادات الطبية والملابس ووصولها إلى السكان.

استهداف المؤسسات التعليمية

قبل أن تبدأ إسرائيل باستهداف المدارس، كانت العملية التعليمية قد تعطلت بالفعل بسبب نزوح السكان الذين لجأوا إلى المدارس بحثاً عن مأوى آمن. لاحقاً، دمرت الهجمات الإسرائيلية 125 مدرسة وجامعة بشكل كامل، وتضررت 336 مدرسة وجامعة بشكل جزئي. ووفقاً لإحصائيات المكتب الإعلامي الحكومي، قتلت إسرائيل 11 ألفاً و500 طالب وطالبة خلال الحرب الجارية، بالإضافة إلى استشهاد 750 معلماً ومعلمة، كما اغتال الاحتلال 115 عالماً وأستاذاً جامعياً وباحثاً أكاديمياً، بالإضافة إلى استهداف 180 مركزاً للإيواء، كانت معظمها مدارس. وفي تحديث نشره المكتب الإعلامي الحكومي بتاريخ 3 أكتوبر 2024، يشير البيان إلى حرمان 650 ألف طالب وطالبة من الالتحاق بمدارسهم للعام الثاني على التوالي، بالإضافة إلى حرمان 100 ألف طالب من الالتحاق بمؤسسات التعليم العالي.

 

لماذا قطع الاحتلال الاتصالات؟

تعرضت قطاعات مدنية أخرى لأضرار جسيمة، إذ جرى تدمير 611 مسجداً بشكل كامل، و214 مسجداً بشكل جزئي، كما دمرت دولة الاحتلال ثلاث كنائس بالكامل، و150 ألف وحدة سكنية دماراً كاملاً، و200 ألف وحدة دماراً جزئياً، وأصبحت 80 ألف وحدة سكنية غير صالحة للسكن. وتشمل الأضرار أيضاً تدمير إسرائيل مقر الأرشيف المركزي في مدينة غزة. وتقدر الخسائر المباشرة جراء الحرب في كافة القطاعات بحوالي 33 مليار دولار.

وعلى الرغم من ضعف الإمكانات، يضطر الدفاع المدني للبحث عن الضحايا تحت الأنقاض باستخدام معدات بسيطة، إلا أن أفراد الدفاع المدني لم يسلموا من الاستهداف الإسرائيلي، إذ أسفرت الهجمات عن استشهاد أكثر من 80 فرداً من طواقم الدفاع المدني. كما دُمر ما يقارب 200 مقر حكومي، بالإضافة إلى استهداف شبكات الكهرباء والمياه والصرف الصحي، إذ بلغ طول الشبكات المتضررة ثلاثة آلاف و130 كيلومتراً طولياً من خطوط الكهرباء، 330 ألف متر طولي من شبكات المياه، 655 ألف متر طولي من شبكات الصرف الصحي، كما دُمّر نحو 2.8 مليون متر طولي من الطرق والشوارع، وأيضاً 700 بئر للمياه دمرت بشكل كامل.

واستهدفت إسرائيل مقر شركة الاتصالات الفلسطينية في مدينة غزة، ما تسبب في انقطاع الاتصالات وخطوط الإنترنت عن أجزاء كبيرة من المدينة، ووفقاً لمركز الإحصاء الفلسطيني، فقد قطعت إسرائيل الاتصالات عن غزة أكثر من عشر مرات منذ بداية الحرب، وأخرجت 75% من أبراج الاتصالات الخلوية عن الخدمة، وبلغت الخسائر في قطاع الاتصالات 223 مليون دولار خلال الأشهر الستة الأولى من الحرب.

ويعيق قطع الاتصالات المدنيين عن طلب المساعدة أو التنبيه لحالات الخطر، وبالتالي، يُعرض حياتهم للخطر، بالإضافة إلى الحيلولة دون وصول فرق الإسعاف والإنقاذ، ما يعد انتهاكاً للمادة 26 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تلزم كل طرف من أطراف النزاع بتسهيل أعمال البحث التي يقوم بها الأفراد والمنظمات عن العائلات المشتتة بسبب الحرب.

ويؤكد رئيس بلدية غزة الدكتور يحيى السراج أن الهمّ الأكبر لكل مواطن هو المحافظة على حياته وعائلته، في ظل صعوبة توفير الماء والطعام، بسبب انقطاع المواد الغذائية من السوق أو غلاء الأسعار وانقطاع إمدادات المياه، وأشار السراج إلى أن معظم الأهالي الذين يقابلهم خسروا ما يقارب 15% إلى 20% من وزنهم، وأن المواطنين حالياً يعتمدون على الحطب من أجل الطهي بعد منع إدخال الغاز الطبيعي إلى محافظتي غزة وشمال القطاع.

ويعمل في بلدية غزة ما بين 120 و260 عاملًا، وهو عدد يمثل 40% من مجموع عدد العاملين في البلدية قبل الحرب، كما يقول السراج موضحاً أن البلدية تمارس أعمالها عبر لجنة طوارئ بلدية غزة رغم المخاطر وقلة الإمكانيات، وأن هؤلاء العمال يعملون من دون كلل أو إجازات، وحتى في أيام العطلة الأسبوعية، ولساعات متأخرة من الليل. ويقدر السراج أن عدد الشهداء من العاملين في بلدية غزة 40 شهيداً، وأنه جرى تدمير وإخراج 62 بئر مياه من الخدمة، و34 مركزاً إداريا تتبع لبلدية غزة، و127 مركبة وآلية تستخدم في أغراض البحث والإنقاذ، كما اقتُلع ما يزيد عن 60 ألف شجرة، وآلاف الأمتار من شبكات المياه، والصرف الصحي، ومصارف الأمطار، والطرق.

وبالرغم من ذلك، تعمل بلدية غزة تحت القصف من أجل توصيل المياه إلى المواطنين، وتفعيل ما تيسر من خدمات الصرف الصحي وجمع وترحيل النفايات، بالإضافة إلى فتح ما يمكن من الشوارع والطرقات المغلقة بسبب الركام الناتج عن تدمير المباني المختلفة والمؤسسات العامة.

عندما يصبح الصحافي خبراً!

وثقت نقابة الصحافيين الفلسطينيين قتل إسرائيل 165 صحافياً منذ بدء الحرب، وإصابة 190 آخرين، واعتقال 51، كما دمر الاحتلال 87 مؤسسة صحافية.

ومن خلال عمله، يُقسّم مراسل التلفزيون العربي إسلام بدر، الموجود في شمال قطاع غزة، الحرب إلى أربع مراحل: حالة الصدمة، والاجتياح والتضييق، ثم المجاعة، وأخيرا مرحلة الاجتياحات البرية المركزة. وأوضح أن لكل مرحلة أولوياتها؛ في البداية، كان الاطمئنان على الأهل والاستقرار بعد النزوح هو ما يسعون إليه، ثم الهروب من الموت أو الاعتقال، وبعدها البحث عن الطعام، وأخيراً مواجهة القصف المستمر وتوغلات الاحتلال غير المتوقعة.

أشار بدر إلى صعوبة الحصول على الاحتياجات الأساسية في الحرب، مثل توفير المأكل والمشرب لعائلته بالتوازي مع التغطية الصحافية. وأصيب خلال تنقلاته ولم يتمكن الأطباء من استخراج شظية لا تزال في جسده حتى اللحظة بسبب قلة الموارد الطبية، كما يشير إلى أنه فقد حوالي 20 كيلوغراماً من وزنه، وأن حياته الاجتماعية تغيرت بالكامل بعد نزوح أقاربه ومعارفه واستشهاد آخرين، ما اضطره لتكوين محيط اجتماعي جديد، ويضيف أن خانيونس، التي كانت تبعد عن مدينة غزة في الوضع الطبيعي عشر دقائق، أصبحت الآن وكأنها في قارة أخرى.

يستذكر بدر روتينه اليومي بوصفه إنسانا "بيتوتيا" كان يقسم وقته بين عمله وزوجته وأولاده، إلا أن كل هذا تغير بعدما فقط منزله ومسجده الذي كان يصلي فيه، والكلية التي كان يدرّس فيها، حتى أصبحت حياته تتركز على البحث عن "ما نعتقد أنه آمن" على حد قوله.

ولم ير بدر عائلته منذ السابع من أكتوبر بعد نزوحهم إلى الجنوب، ولم يستطع توديعهم، أو التواصل معهم منذ ذلك الحين، ويرى أن هذا الجزء هو الأصعب، كونه خسر عاماً كبر فيه أولاده من دون أن يكون إلى جانبهم، فعلى سبيل المثال، ابنته مارية كانت لا تجيد الكلام، وبعد عام من الحرب، أصبحت تستطيع التكلم، أما سارة، فتعلمت الأبجدية والكتابة.

ويتشابه حال إسلام مع مؤمن الشرافي مراسل قناة الجزيرة، الذي لم تعد في قاموسه يومه "ساعات العمل الرسمية"، مضيفاً أن علاقته مع الزملاء تطورت في زمن الحرب حتى أصبحوا أشبه بعائلة واحدة، يعيشون كافة تفاصيل حياتهم اليومية معاً بعيداً عن عائلاتهم.

وأوضح أن حياته انقسمت إلى ما بين تلبية احتياجات أسرته وعمله الصحافي، لكن الحياة الاجتماعية تكاد تكون معدومة، ولا يوجد وقت للتواصل مع الأصدقاء أو الأقارب، ويرى الشرافي أن حياته انقلبت "180 درجة" بعد استشهاد والده ووالدته وعدد كبير من أقاربه، وأضاف أنه يسعى لإشغال نفسه بالعمل وضغوطاته حتى لا يتسنى له الوقت للتفكير بالأشخاص الذين فقدهم ومعاناته الشخصية، ويرى أن نهاية الحرب ستحمل مخاوف أخرى، مثل أين سيعيش بعد تدمير منزله، وكيف سيتمكن من ترميم حياته الاجتماعية التي فقدها بسبب استشهاد العائلة والأصدقاء أو سفرهم إلى الخارج. وختم الشرافي حديثه بأن الحياة المدنية في قطاع غزة أصبحت منعدمة تماماً، وأنه يبذل كل وقته وجهده في تغطية جرائم الاحتلال.

وتبدو آثار الحرب على ملامح الصحافية شروق العيلة، مديرة مؤسسة عين ميديا، التي خسرت عشرة كيلوغرامات من وزنها، وأصيبت بفيروس كورونا وأمراض معدية بسبب نقص المناعة الناتج عن غياب المواد الغذائية والمياه النظيفة، مع ذلك، كانت محظوظة بسبب نزوحها إلى منزل في دير البلح تصف موقعه بالاستراتيجي لكونه يجاور محطة تحلية المياه. وبعد استشهاد زوجها رشدي السراج، مدير عين ميديا، تولت شروق مسؤولية عمل المؤسسة بالكامل، مشيرةً إلى صعوبة المهمة نظراً إلى التحديات الكبيرة خصوصاً بعد استشهاد عدد من العاملين في الشركة واعتقال آخرين، إلى جانب صعوبة الحصول على إنترنت سريع لرفع المواد الصحافية التي يعملون عليها، وعدم توفر المعدات اللازمة، موضحة أنها تضطر للمشي ساعة ونصف ذهاباً ومثلها إياباً للحصول على شبكة إنترنت ذات سرعة عالية. وانتقلت شروق بالحديث إلى ابنتها دانية التي احتفلت بيوم ميلادها الأول، وتأمل ألا تتكرر المناسبة بينما الحرب دائرة.

قبل الحرب، كانت شروق وزوجها في السعودية، لكنهما قررا العودة إلى القطاع، وتتذكر آخر جلسة لهم على مائدة الإفطار، ومفاجأة القصف لهم، وعندها احتموا خلف أحد الجدران في الطابق السفلي للمنزل، وقبل الاستهداف بثانيتين، وقف زوجها أمامها هي وطفلتها درعاً واقِياً فتلقى إصابة في رأسه، وتروي أنه كانت هناك صعوبة تواجه فرق الإسعاف في الوصول إلى المكان بسبب الأحزمة النارية، ما اضطرهم لنقله إلى المستشفى مشياً على الأقدام وتحت القصف، الا أنه استشهد لحظة وصولهم، قائلة :"حتى اليوم، لم أر قبر زوجي بسبب النزوح إلى الجنوب".

تدمير وفقدان مليون ملف قانوني

استهدفت قوات الاحتلال قصر العدل في مدينة غزة بتاريخ 5 ديسمبر 2023، وفجرته لاحقاًِ، وبحسب تقرير للهيئة المستقلة لحقوق الانسان صدر في أغسطس/آب 2024، فإن إسرائيل دمرت أيضاً مجمع محاكم خانيونس ورفح بشكل جزئي، ما أدى إلى إتلاف العديد من الوثائق والملفات التي بلغت أكثر من مليون ملف قانوني. كذلك، استهدفت اسرائيل 19 مركزاً للشرطة من أصل 22 في قطاع غزة، بينما دُمرت ثلاثة منها جزئياً، بالإضافة إلى تدمير مقر الجوازات الذي يضم مكتب مدير عام جهاز الشرطة، ومقر الأدلة الجنائية ومقار حكومية قانونية أخرى مثل مراكز الإصلاح والتأهيل، ودُمر المقر الرئيسي للنيابة العامة أيضاً، وكذلك مقر نيابة المؤسسات في "مجمع أنصار" الذي دُمر بشكل كلي، ما يدل على استهداف منهجي متعمد للمنظومة البيروقراطية في قطاع غزة.

وبلغ عدد الشهداء من أفراد الشرطة في الحرب الجارية على قطاع غزة خمسة آلاف شهيد، بالإضافة إلى استشهاد أكثر من عشرة قضاة، وعلى صعيد القضاء الشرعي، دمرت إسرائيل جزئيا خمسة مقار تابعة للمنظومة، وتعرضت عشرة مقار للسرقة، وحرق أرشيف محكمتين شرعيتين، واستشهد قاضيان شرعيان، وثلاثة موظفين، وثلاثة مأذونين شرعيين. ووفقًا لأحكام القانون الدولي الإنساني، تعتبر مؤسسات الدولة المسؤولة عن إنفاذ القانون من الأعيان المدنية المحمية، وأي هجوم عسكري يستهدفها يُعد استهدافاً للمدنيين الذين يحظون بالحماية، وقد أكدت ذلك المادة 43، الفقرة 3 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977.

ظهور جسم قانوني بديل

بسبب الحاجة إلى جسم قانوني بديل يفض النزاعات بين المواطنين في زمن الحرب، جرى تشكيل لجنة تحكيم قانوني (نظامي) وأخرى شرعية متعلقة بالأحوال الشخصية في منطقة (الشاطئ الجنوبي)، وتختص الأولى بفض النزاعات المدنية بين المواطنين،استناداً إلى القانون الفلسطيني، ويتوجه إليها المواطنون من محافظتي شمال غزة ومدينة غزة، كما أن أحكامها ملزمة للأطراف كافة، وتتولى الشرطة تنفيذها، كما يؤكد المحامي وسيم لبد الموجود في شمال قطاع غزة، مؤكداً أنه بعد انتهاء الحرب وعودة الجسم القضائي الرسمي، ستُعرض هذه الأحكام عليه لاعتمادها أو إعادة النظر فيها.

وتتكون لجنة التحكيم الشرعية من محكم شرعي ومستشار قانوني وعضو لجنة إصلاح، ومهمتها فض النزاعات المتعلقة بالأحوال الشخصية بين المواطنين، خاصة قضايا النفقة، وإصدار أحكامها التي تعتبر ملزمة، كما أنه أعيد تفعيل المحاكم الشرعية جزئيّاً من خلال إيجاد قاضٍ شرعي ورئيس قلم محكمة في كل محافظة من محافظات غزة، وبدورهم يعملون على حل النزاعات المتعلقة بالأحوال الشخصية بين المواطنين مباشرةً، أو بشكل غير مباشر من خلال المصادقة على الأحكام التي تعرضها لجنة التحكيم الشرعي، وبذلك، فإن أحكام القاضي الشرعي تعتبر صادرة عن سلطة رسمية مختصة وملزمة للمتنازعين، كما تقوم الشرطة بالعمل على تنفيذها، وعلى سبيل المثال، فإنه في حالة قضايا النفقة يُحبس المدين في مكان مخصص من قبل الشرطة التنفيذية مدة أقصاها أسبوع، مع محاولات حل النزاع صلحياً ومن ثم يُطلق سراحه.

وفي ما يتعلق بالأحوال المدنية، أفاد لبد بوجود موظف أحوال مدنية مختص لإصدار شهادات الميلاد والوفاة، إذ تُصدر شهادة الوفاة، تحديداً، بناءً على ورقة من اللجنة القانونية النظامية تصدرها بعد إفادة أقارب الشهيد أو المتوفى أو جيرانه، لكن المشكلة، بحسب تعبيره، تكمن في وجود موظف أحوال مدنية واحد فقط في شمال قطاع غزة، ما قد يعرقل العمل القانوني في حال حدوث أي مكروه لهذا الشخص. وفي ما يتعلق بإصدار بطاقات الهوية، تُعطى ورقة إثبات بلوغ السن القانونية من اللجنة القانونية النظامية ويُصدَّق عليها من موظف الأحوال المدنية، على أن يقوم الشخص المعني بتقديم هذه الورقة إلى دائرة الأحوال المدنية بعد انتهاء الحرب لتُصدر هوية رسمية.

ويصوغ محامو غزة العقود التي يصدق عليها موظف نقابة المحامين الوحيد الموجود في مدينة غزة من أجل إضفاء الصبغة الرسمية عليها، وفي حال حدوث أي مكروه له، قد تتوقف عملية التصديق على العقود المدنية بشكل رسمي، وفي ما يخص التعاملات بين التجار، فلا يوجد أي سند قانوني ينظم العلاقة بين التجار في قطاع غزة في الوقت الحالي، ما جعل الاتفاقات شفهية وهو ما يعود إلى طبيعة القانون التجاري الذي يسمح بذلك نظراً إلى أن "العرف" يعد مصدراً أساسياً له.