تتسارع الشيخوخة في إيران بينما تنخفض معدلات النمو السكاني بقوة، وهو ما يعجل دخول البلاد في أزمة ديموغرافية تحاول الحكومة مواجهتها عبر لجنة مكونة من الرئيس وكبار مسؤولي الدولة، لكن متخصصين غير متفائلين بنجاحها.
- لم ينجب الزوجان الإيرانيان المقيمان في طهران سارا محبي (39 عاما)، وأروين صابونجي (41 عاما)، حتى اليوم وبعد ستة أعوام من الزواج، بسبب الظروف المعيشية التي لا تشجع على الأمر، كما "لا يمكن ضمان مستقبل الأطفال بسبب الوضع الاقتصادي"، كما يقول صابونجي، مضيفا "أعمل وزوجتي طوال الوقت، كيف نقوم بواجب تربية طفل؟!"، مشيرا إلى أنهما ليسا بصدد تغيير قرارهما بعدم الإنجاب في المستقبل و"إذا ما أردنا يوما طفلا سنلجأ للتبني".
ولا يعد تفكير الشابين جزءا من حالات معزولة، إذ أدى تراجع الإنجاب إلى تأثير واضح على النمو السكاني، كما يقول المدير العام لمكتب السكان والقوة العاملة واقتصاد الأسر في مركز الإحصاء الحكومي علي أكبر محزون، مؤكدا تراجع النمو السكاني من 1.24% في عام 2016 وصولا إلى 0.77% في الوقت الراهن.
وتجاوز عدد السكان أخيرا 85 مليون نسمة، وفقا لما أوردته صحيفة "همشهري" التابعة لبلدية طهران، في 17 مايو/ أيار الماضي، ويضيف محزون أن الأطفال واليافعين دون 15 سنة من العمر يشكلون 24% من سكان البلاد، و25% منهم أيضا هم الشباب من الفئة العمرية بين 15 عاما و29 عاما، فضلا عن أن 44% منهم في عمر متوسط، والباقون مسنون فوق 65 عاما من العمر.
لماذا تراجع النمو السكاني؟
تقف عوامل متعددة وراء تراجع النمو السكاني، كما يقول الأستاذ الجامعي المتقاعد خالد توكلي الحاصل على دكتوراه في علم الاجتماع، كما أنه أصدر دراسة علمية محكمة بعنوان التغييرات السكانية للأسرة الإيرانية وآثارها، ودراسة الرصيد الاجتماعي للمحافظات الإيرانية وعلاقته بالتنمية الاقتصادية.
ويعود السبب الأول إلى "دعاية مكثفة" روجت لخفض الإنجاب، شعارها "أولاد أقل ـ حياة أفضل"، أطلقت قبل الثورة الإسلامية عام 1979 واستمرت بعدها، مشيرا إلى أن البرنامج كان "ناجحا قبل الثورة وبعدها وأسس لنمط جديد للحياة في البلد".
ويقول باحث علم الاجتماع إن الشعار جزء من برنامج طُرح في أواخر عهد الشاه محمد رضا بهلوي تحت إشراف لجنة ترأستها استارة فرمانفرمايان التي تعتبر مؤسسة علم الخدمة الاجتماعية في البلاد.
لكن عقب الثورة زاد النمو السكاني إلى درجة شعرت معها الحكومة بالخطر وطبقت في برنامجها التنموي الأول منذ عام 1988 وحتى عام 1989 خطة الحد من النمو السكاني، والتي كانت تهدف إلى خفض مستوى الخصوبة من 6.5 أولاد حتى 4 أولاد لكل امرأة، ووصلت إلى الهدف عام 1992، كما لم ينتقد المرشد الأعلى علي خامنئي خطط ضبط النمو السكاني إلا منذ أكثر من عقد، حسب الباحث توكلي، والذي قال لـ"العربي الجديد" إن ثمة عوامل اقتصادية واجتماعية وثقافية متداخلة، إذ تركت الأزمات الاقتصادية المستمرة بعد الثورة (1979) وحتى اليوم آثارها على النمو السكاني، مع الإشارة إلى أنه خلال العقود الأربعة الأخيرة تشهد البلاد تضخما متزايدا يتجاوز خانة الآحاد إلا في عامي 2016 و2017، إذ تراجع فيهما التضخم.
وخلال شهر مايو الماضي سجلت البلاد، وفق إعلان مركز الإحصاء الحكومي، تضخما بنسبة 49.1 في المائة، وهو ثاني أعلى تضخم في البلاد منذ 78 عاما بعد تضخم عام 1995 بنسبة 49.4%، حسب ما ورد في صحيفة "هم ميهن" الإصلاحية في 31 مايو 2023.
ويؤدي ما سبق إلى اتساع رقعة الفقر بشكل مطرد خلال العقود الأربعة الأخيرة، كما ذكر خالد توكلي، مشيرا إلى ما جاء في صحيفة "جهان صنعت" الإصلاحية في 14 أغسطس/ آب 2022، والتي قالت إن 20 في المائة من سكان إيران كانوا يعيشون تحت خط الفقر عام 1979 لكن النسبة اليوم بلغت 60 في المائة، كما أعلنت وزارة التعاون والعمل والرفاه أيضا أن متوسط خط الفقر لأسرة مكونة من 4 أشخاص في طهران خلال عام 2022 بلغ 14.7 مليون تومان شهريا (300 دولار)، إلا أن وكالة "ركنا" المستقلة قالت في 18 يونيو/ حزيران الماضي إن الرقم يبلغ حاليا 30 مليون تومان شهريا (600 دولار)، وبالتالي فإن تكاليف الحياة وتربية الأولاد ارتفعت بشكل كبير، ما يقلل رغبة الإنجاب بحسب توكلي، الذي رصد ارتفاع سن الزواج للرجال من 24.9 عاما وحتى 27 عاما وللنساء من 18.4 عاما وحتى 23 عاما، بينما معظم حالات الطلاق المسجلة تعود للفئة العمرية بين 30 عاما و39 عاما، أي سن الإنجاب.
وتراجعت نسبة الزواج خلال الاثني عشر عاما الماضية 40 في المائة، والإنجاب بنسبة 35 في المائة في الفترة نفسها، حسب ما ذكره خليل علي محمد زادة رئيس معهد السلامة السكانية والأسرة التابع لممثلية المرشد الأعلى في الجامعات، في تصريح نشرته وكالة "تسنيم" المحافظة في 27 مايو 2023.
وأدى العزوف الكبير عن الزواج إلى ارتفاع العزوبية النهائية كما يقول الأكاديمي توكلي لـ"العربي الجديد" مشيرا إلى نسبة 7.3 للنساء و3.2 للرجال ممن تفوق أعمارهم 50 عاما، بارتفاع من 2.1 للنساء و3.1 للرجال في عام 2015 وفق آخر تعداد سكاني جرى في هذا العام.
وطرأ تحول على رؤية المرأة الإيرانية للحياة والجسد نتيجة تطور القيم في المجتمع، وخاصة في المدن بين الخريجات الجامعيات، كما يقول توكلي مصوبا على الفردية والنسوية، ضمن جملة العوامل التي لا تشجع على الإنجاب.
ويكشف التعداد السكاني الذي أجري عام 2015 أن 35% من النساء في الفئة العمرية بين 25 و34 عاما لديهن شهادات جامعية، وهو ما يزيد 10 بنسبة في المائة عن عدد الرجال في هذه الفئة العمرية بحسب مركز الإحصاء.
خطط تشبيب السكان
دفع تراجع النمو السكاني الحكومة إلى إطلاق خطط التصدي للظاهرة خلال العقد الأخير، كما يقول المتحدث السابق باسم وزارة الصحة كيانوش جهانبور، الذي يشير في مقابلة مع "العربي الجديد"، إلى أهم وأحدث خطة صدرت بعنوان "دعم الأسرة وتشبيب السكان" وأقرها مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) في 16 أكتوبر/ تشرين الأول 2021.
وتعتمد الخطة على تقديم تسهيلات وإزالة عقبات تواجه الراغبين في الزواج وخفض السن والترويج لنمط الحياة الأسرية وتأهيل الشباب وتكريم المسنين وتعزيز مكونات الهوية الوطنية، فضلا عن التصدي لنمط الحياة الغربية في المجتمع والتصدي للإجهاض، إذ تشهد البلاد سنويا 530 ألف حالة إجهاض متعمد، بحسب ما قاله رئيس فريق السكان والرصيد الاجتماعي التابع لمجمع تشخيص مصلحة النظام محمد إسماعيل أكبري لوكالة فارس المحافظة، في إبريل/ نيسان 2022.
وحسب المتحدث السابق باسم وزارة الصحة، فإن القانون يقدم امتيازات وتسهيلات لحث الأسر على الإنجاب، منها قطعة أرض أو شقة بمساحة أقصاها 200 متر مربع للأسر بعد الولد الثالث في القرى أو المدن التي يقل عدد سكانها عن 500 ألف شخص وتبنى عبر أقساط على أن يبدأ التسديد بعد عامين من الاستلام.
بالإضافة إلى منح قروض بنكية (600 دولار للولد الأول و1200 للثاني و1800 دولار للثالث)، وبيع سيارة محلية بسعر المصنع وليس السوق (معدل الفارق بين السعرين نحو ألفي دولار)، بالإضافة إلى رفع سقف الإجازات مدفوعة الأجر للأمهات العاملات حتى تسعة أشهر وبعدد كل طفل أو طفلة سيحسب عام ضمن سنوات العمل أو سيقل عام من وقت الإحالة على التقاعد للوالدين العاملين أو أي منهما إذا كان عاملا أو موظفا، وإذا تجاوز عدد الأطفال ثلاثة، فبعدد كل واحد منهم تقل أعوام التقاعد سنة ونصف وفي حال تجاوز عدد الأبناء 4 تقل عامين.
قروض بنكية ومزايا وظيفية لتشجيع الأسر على الإنجاب
ويقول المتحدث السابق باسم وزارة الصحة لـ"العربي الجديد" إن اللجنة الوطنية السكانية، يترأسها الرئيس، وتتولى تنفيذ قانون "دعم الأسرة وتشبيب السكان" وفي عضويتها وزراء الداخلية والصحة والتعليم العالي والرياضة والشباب والمواصلات وبناء المدن والعمل والرفاه الاجتماعي والاستخبارات والاقتصاد والمالية والثقافة والإرشاد والتعليم والتربية والاتصالات، فضلا عن رؤساء مؤسسة الإذاعة والتلفزيون ومنظمات التخطيط والموازنات والدعاية الإسلامية والطب العدلي ونائبة الرئيس لشؤون المرأة والعائلة، ومدير الحوزات العلمية الدينية، والنائب العام، ورئيس المجلس الثقافي والاجتماعي للنساء والأسرة التابع للمجلس الأعلى للثورة الثقافية الحكومي، ونائبان من مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) كمراقبين، ورئيس الأركان العامة للقوات المسلحة، ورئيس منظمة "باسيج" (المستضعفين) الحكومية.
لا تفاؤل بالخطة
تستبعد عضو مجموعة علم السكان بكلية العلوم الاجتماعية التابعة لجامعة طهران، الدكتورة شهلا كاظمي بور، نجاح خطة الحكومة في رفع مستوى الإنجاب والخصوبة في البلاد طالما لم تعالج موانع الإنجاب والعوامل المؤثرة على خفض النمو السكاني، مشيرة في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن الأسر قلقة على مستقبل أبنائها في ظل انعدام فرص العمل، بينما الحكومة لم تعالج هذه المخاوف وتركز على دعايات ثقافية وإعلامية عبر وسائط حكومية مع تقديم تحفيزات مالية و"ليس واضحا بعد ما إذا كانت هذه السياسات ستقنع الأسر بذلك أم لا".
وتضيف كاظمي بور "لا يمكن حاليا تحديد مدى الإقبال الذي ستواجهه الخطة لكونها جديدة وربما بعد عام أو عامين يتبين ذلك، لكن حاليا الإحصائيات تظهر تراجعا في المواليد"، لافتة إلى أن معالجة تبعات تراجع الخصوبة والإنجاب في مجتمعات مثل إيران تسجل هبوطا كبيرا تستغرق وقتا، خاصة أن معدل الإنجاب تراجع خلال العقد الأخيرمن 6 و7 أولاد للأسرة وحتى 1.8 طفل.
من جهته، يرى أستاذ علم الاجتماع توكلي أن الدعايات الحكومية "لن تحقق نجاحا يذكر لكونها تنظر إلى مسألة السكان من زاوية إيديولوجية، ثم أنها تفتقر إلى ما يكفي من رصيد اجتماعي لإقناع المواطنين بخطط الدولة"، مضيفا أن تلك الدعايات "ستكون مؤثرة عندما تحظى الحكومة من جهة برصيد اجتماعي قوي، ثم تعتمد على عناصر مقنعة وملموسة". ويضيف أنه ما لم تتحسن ظروف المجتمع التي تميل إلى خفض الإنجاب، لن تتغير نظرة الناس للزواج وإنجاب المزيد من الأولاد.
لكن الخطط الرامية إلى رفع النمو السكاني، "حديثة الولادة وبعضها لم تبلغ مرحلة التعميم على مؤسسات الدولة لتنفيذها"، كما يقول جهانبور، مشيرا إلى أن الخطة المقرة عام 2021 بدأت تنفذ في نهاية العام "لكن توجد مسافة بين التنفيذ والوصول إلى أهداف المخطط، واليوم نحن على أعتاب عامين من سن القانون ولم يبلغ عمر الكثير من بنوده التنفيذية عاما، لذلك من المبكر تقييم النتائج".
تعقد أزمة الشيخوخة
يتوقع أن تسرع الشيخوخة المتزايدة وتيرة الوصول إلى مرحلة الأزمة السكانية في ظل توقعات عدم نجاح خطة الحكومة، إذ يقول رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية السكانية التابع لوزارة العلوم والبحوث والتقنيات (التعليم العالي)، صالح قاسمي، لـ"العربي الجديد"، إن "البلاد ستواجه أزمة معقدة للغاية".
وتسلك دول العالم المسار السكاني من الشباب إلى متوسط العمر ثم الشيخوخة في 120 عاما تقريبا، لكن طهران تسلك المسار في ثلاثين عاما، وبالتالي تفقد السلطات القدرة على مواكبة هذه السرعة للحد من وتيرة نمو الظاهرة، كما يقول قاسمي، لافتا إلى أن الشيخوخة في جميع الدول التي تعاني من الأمر جاءت بعد تحقيق أهداف التنمية واستقرار النمو اقتصادي، "لكن للأسف في إيران تحدث قبل التنمية، ما يجعل تبعاتها خطيرة"، خاصة أن 12 في المائة من عدد السكان مسنون فوق 60 عاما، كما يقول رئيس مركز الدراسات السكانية الاستراتيجية، ويتوقع أن ترتفع النسبة إلى 32 في المائة في عام 2050، وهو ما ينذر بتسونامي شيخوخة في البلاد، وهو وصف يتفق معه رئيس سكرتاريا المجلس الوطني لكبار السنّ الحكومي في إيران حسام الدين علامة والذي سبق وأن لفت في تصريحات سابقة بمناسبة اليوم العالمي للمسنّين في الأوّل من أكتوبر/ تشرين الأول2021، إلى أنّ من تفوق أعمارهم 60 عاماً كانوا يشكّلون وقتها "10.2 في المائة من سكان البلاد أي نحو ثمانية ملايين ونصف مليون". ولفت علامة إلى أنّ عدد هؤلاء في عام 1977، أي قبل عامَين من الثورة الإسلامية، كان خمسة في المائة من سكان إيران.
أعمار 12 في المائة من الإيرانيين فوق 60 عاماً
ولا يبدو قاسمي متفائلا بوقف نمو الظاهرة، قائلا الأمر مرتبط بـ"تنفيذ سياسات سكانية شاملة لكن للأسف لا توجد إرادة جادة"، والحكومة ووزراؤها "لا يتعاملون بجدية مع هذا الموضوع".