الاحتيال المالي في غزة... ضحايا الربح السريع يسقطون في مصيدة شبكات النصب

29 يناير 2023
تُفرغ شبكات النصب غزة من مدخراتها بالعملة الصعبة (Getty)
+ الخط -

تتفاقم حالات الاحتيال المالي في قطاع غزة وتحديدا عبر النصب الهرمي أو الشبكي، والذي يؤدي إلى فقد العملة الصعبة جراء تحويلها للخارج بحثاً عن ربح سريع ووفير، ويستنزف الاقتصاد المحلي المحاصر ويبدد فرصه الاستثمار.

- فوجئت الخمسينية الغزية هبة حماد، باختفاء وهروب مستثمر أودعت لديه مبلغ 5600 دولار أميركي، بهدف تشغيلها في التجارة والحصول على أرباح شهرية تتراوح بين 5% و7% .

وبالفعل حصلت حماد على أرباح وصلت إلى 600 دولار، وفجأة انقطعت أخبار المستثمر، وعلمت لاحقاً بأنه فرّ إلى مصر لتختفي أموالها بالإضافة إلى غيرها من المودعين بمجموع مبالغ وصلت إلى 100 ألف دولار كما تقول، موضحة أن وسيطا أوهمهم بالحصول على ضعف أموالهم في غضون أقل من عام.

وتعد حماد واحدة من بين 200 ألف حالة تعرضت لعمليات نصب واحتيال مالي متعددة الأشكال جرت وقائعها داخل وخارج القطاع خلال الفترة بين 2009 ونهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي ونصفهم من ضحايا أسلوب "بونزي سكيم"، الذي يعتمد على جذب المستثمرين عبر وعود بدفع عوائد وفيرة خلال فترة قليلة ويتم تمويل أرباح الضحايا القدامى من أموال الجدد حتى تنفجر فقاعة المضاربة، كما يوضح مصدر في وزارة الاقتصاد الوطني، فضل عدم ذكر اسمه لكونه غير مخول بالتصريح، موضحاً أن إجمالي الخسائر يصل إلى 400 مليون دولار، ونهبها 100 محتال من داخل غزة، ثلثهم فر الى الخارج، وفق تقدير مصدر أمني، طلب عدم الكشف عن هويته للموافقة على الحديث.

أكبر مخطط احتيال

في عام 2009 خسر 100 ألف مستثمر ربع مليار دولار تم الاستيلاء عليها بزعم تشغيلها في تجارة عبر الأنفاق بأرباح تصل إلى 30%، كما يقول عبد الله عمار أحد الناطقين باسم متضرري القضية المعروفة باسم "الروبي والكردي"، واعتمد نموذج عمل المحتالين على الحصول على أموال من شخص، ليعطي غيره أرباحا وهكذا، بحسب إفادات سبعة من الضحايا طُلب منهم وقتها جلب غيرهم ويقول عبد الهادي مسلم، الناطق باسم المتضررين، بأن حكومة غزة عليها الإيفاء بتعهداتها وإستعادة باقي الأموال، إذ حصلوا على 30% من مستحقاتهم بعد تدخل جهات حكومية.

خسر 100 ألف مستثمر غزي ربع مليار دولار في عام 2009 

وتلقت شرطة مكافحة الجرائم الإلكترونية في غزة 100 شكوى  منذ بداية العام وحتى نهاية شهر تموز/يوليو، جراء عمليات احتيال مالي إلكتروني بدعوى توظيف الأموال، خسر غزيون خلالها نصف مليون دولار، كما يقول المقدم حسين أبو سعدة مدير القسم، موضحا أن المبالغ التي جرت خسارتها في تجارة وتوظيف أموال إما عبر مواقع الكترونية أو عن بعد، كالمساهمة في شركات توظيف أموال خارج فلسطين خلال عام 2021، تصل إلى 20 مليون دولار.

وجرى استرداد ما بين 30% و40% من الأموال التي خسرها مستثمرون في تلك الشركات الوهمية كما يقول المقدم أبو سعدة، لافتا إلى تعذر إعادة الباقي، لأن عمليات الاحتيال نفذت من خارج فلسطين، ولا يوجد تعاون من قبل الإنتربول الدولي مع حكومة غزة.

ازدهار في عام 2009

تنقسم جرائم الاحتيال المالي المنتشرة في غزة إلى قسمين، الأول إلكتروني عن بعد، والثاني مباشر من خلال جمع أموال من المستثمرين بزعم تشغيلها، وكلا النوعين متشابهان في ايهام الضحايا بأرباح كبيرة، وحثهم على جلب المزيد من بين دوائر معارفهم في ما يشبه كرة الثلج (أو ما يعرف بمخطط بونزي)، كما يقول أبو سعدة ووكيل نيابة جرائم الأموال المستشار صبحي برغوت، والذي وثق من واقع تحقيقاته أن المتورطين يدعون إدارة شركات تشغيل أموال، أو الاتجار بأراض وعقارات، أو تشغيل الأموال في مجال التجارة الإلكترونية وهو أبرز أساليب الخداع، مشيرا إلى أن النيابة تعمل على تقييد الشكوى بمجرد وصولها، واستدعاء المشتكي وسؤاله عن اتهامات النصب والاحتيال، وهو ما يصفه المختص في الشأن الاقتصادي ومدير صفحة بلا نقود المحلية، محمد أبو جياب، بجنون البحث عن الاستثمار السريع والربح الكبير والذي يضرب غزة منذ عام 2009 تزامنا مع ذروة نشاط الاتجار عبر الأنفاق وظهور عمليات توظيف أموال، من خلال الأمر نجح المحتالون في استغلالها.

ومنذ 14 عاماً، يعزف أصحاب المدخرات ورؤوس الأموال عن الاستثمار الحقيقي بحثا عن طرق سهلة تدر ربحا سريعا وكبيرا، رغم أن معظمهم يدركون مخاطر ذلك، كما يقول محمد سكيك مدير مكتب غزة بمركز التجارة الفلسطيني "بال تريد" (مؤسسة اقتصادية غير ربحية)، معتبراً أن الدعاية الكبيرة للقائمين على توظيف الأموال أسهمت في تغيير توجهات الضحايا في ظل صعوبات إنشاء مشروعات جديدة، وخوف أصحاب رؤوس الأموال من الفشل، مشيرا إلى خسارة ما بين 20% و40% من المشروعات الجديدة خلال الأعوام الخمسة الماضية، بسبب الحصار المفروض على القطاع من دولة الاحتلال وعدم دراسة أوضاع السوق، وتابع: ثمة مستثمرون جادون في القطاع يمتلكون شركات ذات وضع قوي ويفتحون الباب أمام الغزيين، ولا يجدون من يتوجه نحوهم، ويرد المهندس باجس الدلو مدير دائرة الاستثمار في هيئة تشجيع الاستثمار والمدن الصناعية بوزارة الاقتصاد الوطني قائلا إن المشروعات التي تنفذ بغزة منها ما هو ممول حكوميا وبلغت منذ عام 2008 حتى نهاية يوليو/تموز الماضي 1546 مشروعاً بقيمة 8.1 ملايين دولار، ونسبة الفشل لم تتعد 10%، والنوع الثاني مشروعات القطاع الخاص، أو الحاصلة على تمويل من مؤسسات مصرفية، وقد تزيد نسبة فشلها بسبب عدم دراسة السوق كما يقول.

كيف يتم استقطاب الضحايا ؟

خسر ثلاثة ضحايا (فضلوا عدم ذكر أسمائهم للحفاظ على خصوصيتهم) 1700 دولارا حولوها إلى موقع يسمى "كوفي 24"، أوهم المودعين بأنهم سيحققون أرباحا تتراوح بين 5% و7% من قيمة الأموال المستثمرة، لكنهم لم يتقدموا بشكاوى، نظراً لأنهم لا يعرفون أي بيانات عن مقر الموقع كما أن الأموال كانت تحول إلى محفظة على منصة تداول إلكترونية تم إغلاقها، ويصل إجمالي عدد ضحايا الموقع إلى 600 شخص، معظمهم من مناطق وسط القطاع، كما يقول المقدم أبو سعدة، مشيرا إلى أن الموقع دفع بالفعل بعض الأموال ما أغرى المستثمرين لإرسال المزيد وتحقيق ربح أعلى، وفجأة توقف الموقع وتبخرت الأموال.

حظرت وزارة الاقتصاد التعامل بكل طرق التسويق الشبكي أو الهرمي

ويحذر أبو سعدة من ادعاء أشخاص موجودين داخل غزة أو خارجها تحقيق أرباح من التجارة عبر إعلانات على صفحات إلكترونية يدعمونها بصور ومقاطع فيديو لبضائع من أجل استدراج الضحايا بادعاء مشاركتهم ومن ثم الهروب بأموالهم.

ويرجع الدكتور معين رجب، (أجرى معدا التحقيق معه لقاء في 15 يونيو/حزيران وتوفي بعدها بـ 40 يوماً) سبب الإقبال على ما يصفه بـ "الاستثمار الوهمي"، إلى استغلال ميل الناس للربح الكبير والسريع، وبراعة المحتالين ممن يعمدون في البداية إلى مطالبة المودعين بالسرية وإيهامهم أن يبقوا الأمر في نطاق ضيق وبعد نيلهم جزءا من أموالهم يظنون أنها أرباحا يحثهم المحتالون على جلب ضحايا من الدائرة القريبة إمعانا في إيهامهم بالنجاح السهل لذلك يتساقط الضحايا في صمت، والشكوى تبدأ بعد "وقوع الفأس في الرأس" وكبر عدد الضحايا وحجم الأموال المنهوبة وتوقف النصاب عن الدفع، ما يصعب دور جهات الاختصاص في إيقاف الظاهرة في مهدها الاستباقي وفق أبو جياب والمصدر العامل في وزارة الاقتصاد الوطني، والذي قال: "ثمة كثير من الضحايا لم يكشفوا عما حدث معهم، لأن من جلبهم لفخ الاستثمار قريب أخ أو أب، وكان هو ضحية لعملية النصب ذاتها".

محاولات غير فعالة لمواجهة الظاهرة

أكدت النيابة العامة في ردها على كتاب أرسله معدا التحقيق، وجود عشرات الشكاوى مقدمة بادعاء النصب والاحتيال المالي والتعرض للتدليس والكذب، ويقول المستشار برغوت إن تلك الجريمة تدخل ضمن باب الاحتيال والنصب كون المُجرم تحصل على أموال بطرق غير مشروعة وتصرف بها دون وجه حق، وهي جناية تستدعي الحبس بحد أدنى 5 سنوات، وغرامة لا تقل عن 20 ألف دينار أردني.

الصورة
تحايل مالي

ويؤدي تفشي تلك الجرائم إلى نهب أموال الغزيين، وإفراغ القطاع من العملات الصعبة بسبب التحويل إلى الخارج وضياع فرص الاستثمار الحقيقي، كما يقول الدكتور رجب، ويبرر اثنان من المستثمرين تحفظا على ذكر اسميهما وعملا في توظيف الأموال عبر التجارة، ما جرى معهما بأنهما تعرضا لخسائر وسبق وأن شرحا للمستثمرين مخاطر الأمر مسبقاً، وأنهما غير مسؤولين عما حدث.

ومع سقوط المزيد من الضحايا أصدرت وزارة الاقتصاد الوطني في غزة قراراً يحظر التعامل بكل طرق التسويق الشبكي أو الهرمي، بعد توصية قدمها المجلس التشريعي في غزة  في الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني الماضي، إلا أن العمل في بعض هذه المواقع لايزال مستمراً ولم يتوقف وفق أبو جياب، والذي قال: "هناك مواقع تعمل في التسويق الهرمي مازالت تجتذب ضحاياها، ولجأ القائمون عليها للعمل بطريقة غير معلنة وتعتمد على استقطاب المستثمرين لغيرهم ومنحهم أرباحا في مقابل ذلك".

ويؤكد عبد الفتاح أبو موسى الناطق باسم وزارة الاقتصاد الوطني أن المروجين للتسويق الهرمي والشبكي، تمكن مساءلتهم قانونيا بموجب قرار الوزارة الأخير، مشيرا إلى استنزاف موارد المجتمع وثرواته وتجنيد المواطنين للإضرار اقتصاديا ببعضهم، ومن بينهم فاطمة عبد الله التي تصف تجربتها بخداع من إحدى قريباتها تعرضت بدورها لنصب مماثل من شخص يقيم في الخارج، ويعمل بالتسويق الهرمي.

وتقول عبد الله إنها باعت مصاغها الذهبي مقابل 1900 دولار، ودفعتها إلى قريبتها، التي دفعت مبلغ 2000 دولار هي الأخرى، للحصول على منتجات خاصة بالبشرة والتجميل، لتسويقها وأوهمها المشغل الذي كان يطلق عليهم "فريق الأحلام"، بأنها ستجني أرباحا كبيرة، وحفزهم لجلب المزيد من المستثمرين حتى يكبر الربح، ولكن بين عشية وضحاها اختفى كل شيء.