تناقضات بين أيديولوجيا الحزب الحاكم وتفشي مظاهر الرأسمالية
22 يوليو 2024
+ الخط -
اظهر الملخص
- **التناقضات بين الرأسمالية والاشتراكية في الصين**: تتعايش رأسمالية الدولة مع أيديولوجيا الحزب الشيوعي، مما يخلق تناقضات في سياسة الرخاء المشترك، حيث تتركز الثروة في يد فئة محددة. حملة الرئيس شي جين بينغ ضد المظاهر الرأسمالية تسببت في خسائر كبيرة وفقدان وظائف.

- **الاشتراكية ذات الخصائص الصينية**: بدأت مع الإصلاحات الاقتصادية في أواخر السبعينيات، مما أدى إلى تطوير نظام اقتصاد السوق الاشتراكي، ومحاولة المزج بين الرأسمالية والاشتراكية لتجنب مصير الاتحاد السوفييتي.

- **التحديات الاقتصادية والاجتماعية**: الفجوة الكبيرة بين الأغنياء والفقراء تتعارض مع خطاب الرخاء المشترك، والتوسع غير المحدود لرأس المال يحرج الحزب الشيوعي. التحدي الأكبر هو تحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية والمساواة الاجتماعية.

تتعايش رأسمالية الدولة في الصين مع أيديولوحيا الحزب الشيوعي الحاكم، رغم التناقضات التي تزداد في بلد يقوم خطابه على سياسة الرخاء المشترك، بينما تتركز الثروة في يد فئة محددة من رجال الأعمال وأصحاب المشاريع الخاصة.

- دفع الطالب الفلسطيني المقيم في الصين محمد خليفة، "ثمنا باهظا" جراء إطلاق الرئيس شي جين بينغ، حملة ضد الدروس الخصوصية نهاية عام 2020، ضمن سياسة محاربة "المظاهر الرأسمالية في المجتمع"، ما اضطره إلى مغادرة البلاد وخسارة عامين من دراسة الطب التقليدي، بعدما فقد مصدر دخله الذي استعان به من أجل تغطية تكاليف الإقامة ونفقات التعليم، عبر تدريس الإنكليزية بواسطة تطبيقات الإنترنت، لطلاب المرحلة الابتدائية.

ومن وجهة نظر الدولة، فإن ما يقوم به خليفة، وغيره من العاملين عبر تطبيقات التعليم الإلكتروني، يتعارض مع "البناء الاشتراكي الصيني" وهو مصطلح برز لأول مرة في خطاب ألقاه الزعيم الراحل دينغ شياو بينغ، في حفل افتتاح المؤتمر الوطني الثاني عشر للحزب الشيوعي الصيني في سبتمبر/أيلول 1982، ويهدف حسب أستاذ الدراسات السياسية في جامعة جينان (شرق البلاد)، شياو لونغ، إلى محاربة قطاعات تصفها الدولة بالرأسمالية من بينها "العملات الرقمية والدروس الخصوصية والألعاب الإلكترونية وشركات الإنترنت"، إذ استهدفتها حملة حكومية لأنها "مصادر أساسية لتعاظم الثروة وتركزها في يد فئة محددة من المجتمع وتناقض مبادئ الاشتراكية الصينية".

وتطورت فعاليات الحملة إلى مواجهة مع القطاع الخاص، وتحديداً كبرى الشركات التكنولوجية وكانت الأهداف المعلنة تقويض الممارسات غير التنافسية، ما تسبب في خسائر كبيرة لهذه القطاعات قُدرت بمليارات الدولارات، من بينها على سبيل المثال ما جرى في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2020 بعدما أعاقت الصين إدراج أسهم مجموعة "آنت جروب"، عملاقة التكنولوجيا المالية، في بورصة هونغ كونغ والتي تقدر قيمتها بـ 37 مليار دولار، وفق إفادة شياو لونغ، وتذرعت الحكومة بأن السياسات المعروفة بـ"التخفيض المزدوج"، تهدف إلى تخفيف الأعباء عن المواطنين من أجل تحقيق مبدأ الرخاء المشترك عبر منع  الأنشطة التي تستنزف أفراد المجتمع، لكن ما جرى أسفر عن فقدان عشرات الآلاف وظائفهم في قطاعات متنوعة منها التعليم جراء إغلاق مئات المراكز التي تقدم تلك الخدمات، كما يقول دونغ يي عميد كلية الاقتصاد السابق في جامعة جينان، (حكومية في جنوب الصين).

 

الاشتراكية ذات الخصائص الصينية

برزت معالم ما يسمى بـ"البناء الاشتراكي في عصر الانفتاح" بعد ما بدأت الصين في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية أواخر سبعينيات القرن الماضي، وكان أول ظهور لمصطلح "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية" ضمن خطاب ألقاه الزعيم الراحل دينغ شياو بينغ، في حفل افتتاح المؤتمر الوطني الثاني عشر للحزب الشيوعي الصيني في سبتمبر 1982، كما يقول شياو لونغ، موضحا أن المصطلح عنى آنذاك عملية تحول السياسات الاقتصادية باتجاه الرأسمالية.

وجاء إطلاق المصطلح ضمن دفاع الحزب عن هويته الشيوعية بعد تعرضه لهجوم من العقائديين المعارضين لفكرة الانفتاح على العالم الخارجي وعلى رأسهم هو تشياو مو، وو لينغ شي، وهو شنغ، مستشارو بينغ، الذين اختلفوا معه بشأن الهوية الأيديولوجية للحزب.

يضيف شياو لونغ أن الحزب قال إن الاشتراكية ذات الخصائص الصينية تقوم على بعض مفاهيم اقتصاد السوق في ظل استمرار وهيمنة الأيديولوجية التوجيهية الشيوعية وحكم الحزب الواحد القائم على الماركسية اللينينية وفكر ماو تسي تونغ، بينما كان الحزب قد التزم خلال حقبة الستينيات والسبعينيات بالاقتصاد الموجّه مسيطرا على الشركات الكبرى، ولكن في ظل التحولات الجديدة تمتعت الشركات بهامش من الحرية، من أجل توجيه رسالة إلى الغرب بأن الصين منفتحة ومتحررة بالرغم من احتكار الحزب للسلطة السياسية، كما يقول شياو لونغ ومؤيدو التحديث الاشتراكي ومن بينهم الباحث المختص في الدراسات الشيوعية بمركز النجمة الحمراء (غير حكومي في بكين)، لاو بينغ، والذي يرى أن ما جرى ساهم في تطوير نظام اقتصاد السوق الاشتراكي، عبر إنشاء قطاعات جديدة، حققت خلال فترة قصيرة طفرة كبيرة وضرب مثالا عمليا بالدراجات التشاركية، أوفو وموبايك، وسيلة المواصلات الأكثر استخداماً في الصين، مستدلا بتقرير صادر عن مركز معلومات وزارة الموارد البشرية والضمان الاجتماعي في 6 سبتمبر الماضي، توصل إلى أن حجم المعاملات في سوق الاقتصاد التشاركي خلال عام 2022 بلغ حوالي 3.832 مليارات يوان (530 مليون دولار).

 

تناقضات رأسمالية

يعتبر لاو بينغ، أن التساؤلات حول الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، وإذا ما كانت الصين دولة رأسمالية بغطاء اشتراكي؟ هي مؤشر على سوء تقدير وفهم للمصطلح، مضيفا: "هناك من يصف ما يجري بأنه "اشتراكية رأسمالية"، و"رأسمالية الدولة"، و"رأسمالية بيروقراطية"، هذه التصنيفات خاطئة تماماً، وهدف ما يجري خلق آلية تقوم على خصائص مميزة وفقاً لظروف وروح العصر وبالتالي فإنها ليست عقيدة أخرى أو أي مذهب آخر".

لكن مظاهر الرأسمالية المتفشية داخل المجتمع الصيني تعطي رسالة مختلفة للداخل والخارج عما قاله بينغ، عبر عدة أوجه، أبرزها: تعاظم الثروة وتركيزها في يد فئة محددة من رجال الأعمال وأصحاب المشاريع الخاصة. فحسب قائمة "فوربس" لأغنى أثرياء العالم لعام 2024 والتي نُشرت في الثاني من إبريل/نيسان احتلت الصين المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، بواقع 473 مليارديراً تبلغ قيمة ثرواتهم مجتمعة 1.7 تريليون دولار، وفي قائمة أخرى لأغنى النساء لعام 2024، احتلت الصين المرتبة الأولى من حيث عدد المليارديرات بواقع 43 امرأة من أصل مائة سيدة، فيما جاءت الولايات المتحدة في المرتبة الثانية بواقع 30 امرأة.

وتتركز الثروة في ثلاث مدن، هي: شينزن وبكين وشانغهاي، وفق رصد مؤسسة "هورون" الصينية التي تصدر قائمة سنوية لأثرياء العالم، بينما يوجد 600 مليون صيني من ذوي الدخل المنخفض والمتوسط، وهو رقم يمثل حوالي 43 في المائة من تعداد الشعب الصيني البالغ 1.4 مليار نسمة، الأمر الذي يشير إلى الفجوة الكبيرة بين الأغنياء والفقراء في المجتمع.

تتركز الثروة في ثلاث مدن هي شينزن وبكين وشانغهاي

وأثار إعلان الرقم السابق جدلا كبيرا بعدما كشف عنه رئيس الوزراء السابق لي كه تشيانغ، في 28 مايو/أيار عام 2020 خلال المؤتمر الصحافي للدورة الثالثة للمجلس الوطني الثالث عشر لنواب الشعب، ولمواجهة الجدل المجتمعي، عكفت وسائل إعلام رسمية تابعة للحزب الحاكم، على تحليل الأرقام لتجميل الصورة بما لا يتعارض مع خطط الحكومة لانتشال أكبر عدد من السكان من تحت خط الفقر، إذ قالت صحيفة شينخوا الحكومية بأنه يجب أن ندرك أن متوسط الدخل الشهري لـ 600 مليون شخص يبلغ حوالي 1000 يوان (ما يعادل 137 دولاراً)، ويضم هؤلاء العاملين وغير العاملين مثل كبار السن والأطفال.

لكن استطلاعا أجراه معهد توزيع الدخل بجامعة بكين للمعلمين، (مؤسسة حكومية)، ضمن التقرير السنوي لتوزيع الدخل في عام 2021، توصل إلى أن حوالي 964 مليون شخص في الصين يكسبون أقل من 2000 يوان شهرياً (280 دولاراً) بإجمالي مليار شخص، ما يعني أن حوالي 72 في المائة من الصينيين يدخلون ضمن فئة ذوي الدخل المحدود، وما كان من السلطات إلا أن حذفت التقرير من جميع المواقع الإلكترونية، غير أنه عاد وظهر في وقت لاحق إذ نشرته الجمعية الصينية للضمان الاجتماعي (مؤسسة حكومية) على موقعها الإلكتروني بتاريخ 27 ديسمبر/كانون الأول 2023، ويفسر لي ين تشين، المختص في تحليل البيانات المالية، في مؤسسة تاي بو البحثية المستقلة ومقرها هونغ كونغ، ما جرى بأن الصين دأبت على إخفاء البيانات المتعلقة بمستويات الفقر في البلاد، ضمن توجيهات من الحزب بعدم بث الأخبار السلبية.

72 % من الصينيين يصنفون ضمن فئة ذوي الدخل المحدود

وأضاف أن نسب الفقر العالية في المجتمع الصيني تتعارض مع خطاب الرئيس شي جين بينغ، بشأن الاشتراكية والرخاء الاجتماعي، وتظهر الوجه الحقيقي لرأسمالية الصين التي تأبى إلا أن تقدم نفسها على أنها دولة اشتراكية. وتابع أنه قد تكون بكين قطعت خطوات ملحوظة في الحد من الفقر، لكن التحديات لا تزال قائمة، ويشكل عدم المساواة في الدخل مصدر قلق السلطات، إذ تتمتع المناطق الحضرية بمستويات معيشة أعلى من المناطق الريفية الأمر الذي يفاقم اتساع تفاوت الثروة في البلاد، إذ بلغ متوسط الدخل الشهري المتاح للفرد في المناطق الحضرية 4780 يواناً (659 دولارا)، في حين لم يتجاوز متوسط الدخل الشهري للفرد في الريف 1640 يوانا (226 دولارا)، بحسب بيانات المكتب الوطني للإحصاء الصادرة في عام 2023.

 

التوسع غير المحدود لرأس المال

في خطاب ألقاه الرئيس الصيني شي جين بينغ أمام اللجنة المركزية للحزب الشيوعي للشؤون المالية والاقتصادية في أغسطس/آب 2020، تناول ما وصفه بسياسة الرخاء المشترك، قائلا إنه يجب على كوادر الحزب أن يعارضوا بحزم التوسع غير المحدود لرأس المال، ويدعموا الدور المهيمن للقطاع العام.

وقال شي إن الصين تواجه تحدياً جديداً بعد عقود من النمو السريع، يتمثل في "التناقض بين التنمية غير المتوازنة واحتياجات الناس المتزايدة من أجل حياة أفضل". وأضاف بأن الصين ستولي اهتماماً متزايداً للرقابة على الشركات وتوجيهها بما يخدم دعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة في البلاد.

في أعقاب ذلك، شهدت الصين حملة شرسة ضد إمبراطورية شركات الإنترنت التجارية المملوكة للملياردير جاك ما، ما أدى إلى اختفائه إلى حد كبير عن الأضواء، أيضاً تم استهداف صناعة التدريس عبر الإنترنت في البلاد، وتقييد الوصول إلى الألعاب الإلكترونية. وكذلك استدعى البنك المركزي الصيني مسؤولين تنفيذيين لشركات عملاقة من أجل إطلاعهم على عمليات هيكلة جديدة.

لكن ذلك لم ينعكس على أرض الواقع كما يرى لي ين تشين، ظلت الرأسمالية الصينية ملمحاً بارزاً. ففي عام 2021، أي بعد عام من إطلاق الحملة، احتلت الصين المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في قائمة نشرتها فوربس كأكثر الدول التي لديها مليارديرات في العالم بواقع 698 مليارديراً، بزيادة 84 مليارديراً عن العام السابق، ونتيجة للمكاسب التي حققتها الصين، أصبحت بكين موطنا لعدد أكبر من المليارديرات من أي مكان في العالم، متجاوزة مدينة نيويورك.

وفي رده على سؤال حول حرية التملك والتوسع الرأسمالي للشركات الصينية وتعارض ذلك مع سياسات الحزب الشيوعي، قال لي ين تشين، بأن حملة الرئيس شي جاءت في هذا الإطار لأن توسع رأس المال الخاص يحرج الحزب ورؤية شي لمفهوم الرخاء المشترك. لكنه لفت إلى أن هذه الحملة لم تمض إلى نهايتها، وعادت هذه الشركات إلى التغول المالي بعد رفع القيود الحزبية على عملياتها مطلع عام 2022.

وفي تبرير ذلك قال: تعتبر التكنولوجيا الصينية أساس المنافسة الاقتصادية مع الغرب، وأي قيود عليها سيضعف مركز وموقع الصين، وحسب الرئيس شي، فإن تمويل تحول الصين إلى مركز عالمي للإبداع في مجال التكنولوجيا الفائقة يشكل أهمية مركزية للدفاع الوطني. لذلك كان لا بد من تحرير اقتصاد السوق بما يخدم أجندة الحزب.

الصورة
تناقضات أيديولوجيا الحزب الحاكم

 

لماذا لم تنجح الصين في بناء مجتمع اشتراكي؟

بالنسبة إلى لي ين تشين، فإن الصين جادة في بناء مجتمع اشتراكي، لكنها تواجه تحدي تعزيز المنافسة الاقتصادية والتكنولوجية مع الغرب. وبالتالي فإن أي قيود على توسع رأس المال من شأنه أن يعيق مسيرة التنمية، وهنا سيكون قادة الحزب الشيوعي أمام مفاضلة بين تحقيق الرخاء المشترك من خلال إيجاد توازن في امتلاك الثروة، أو المضي قدماً في المنافسة الاقتصادية مع الغرب على حساب صورة الصين الاشتراكية. وأضاف: ربما تكون مزاوجة الصين بين الرأسمالية والاشتراكية سبباً في تجنب الدولة مصير الاتحاد السوفييتي الذي دفع ثمن التخطيط المركزي للاقتصاد ما أدى إلى انهياره.

وأضاف بأن هذه الحقيقة جعلت المحافظين في الحزب الشيوعي يتفهمون الجوهر الرأسمالي للاشتراكية الصينية باعتبارها صمام أمان وحصناً منيعاً ضد انهيار الحزب على غرار نظيره السوفييتي، خاصة أنه جرى اتخاذ قرارات تتيح للشعب الاستفادة من رأس المال، من بينها دعم الشركات الناشئة، وتقليص النفوذ الاقتصادي للشركات الكبرى، ومكافحة التوسع غير المنظم لرؤوس الأموال، لكن الصين لم تجن ثمار ذلك، بحكم حجم العمليات الضخم للشركات الصينية العملاقة التي لا يمكن منافستها بأي شكل من الأشكال.

لكن شياو لونغ، يقول حتى وإن كانت بكين قد قطعت أشواطاً كبيرة في تحول الشعب الصيني إلى مجتمع اشتراكي، إلا أن تنفيذ مبدأ "الرخاء المشترك" يصعب تحقيقه من الناحية العملية بسبب الفجوة الكبيرة في التنمية بين الريف والمناطق الحضرية. وأضاف بأن إحدى معضلات تطبيق هذا المبدأ هي نظام الضمان الاجتماعي المعمول به في الصين، والذي يشترط أن يتمتع الفرد بمزايا الضمان الاجتماعي في مسقط رأسه فقط، ما يعني أن المهاجرين من العمال والموظفين لن يتمتعوا في المدن بأي مزايا اجتماعية، مثل توفر التعليم لأبنائهم إلى جانب الخدمات الصحية، وفي حال إلغاء النظام سيزيد التوسع الحضري وينعش الطلب على العقارات، لكن ذلك سيأتي على حساب التنمية في الريف. ما يعني أننا لا نزال أمام نفس التحدي في كيفية تحقيق التوازن بين الريف والمدينة، والتوجه الرأسمالي لدولة يحكمها حزب شيوعي.