يكشف استقصاء "العربي الجديد" كيف ينتهي الطريق بطلاب مدارس دينية من أبناء الفقراء في تشاد، إلى ضحايا اتجار بالبشر ومن ثم الالتحاق بحركات إرهابية مثل بوكو حرام التي تنشط في المنطقة، وسط فشل حكومي في مواجهة الظاهرة.
- يُجبر الطفل التشادي صالح التمير (15 عاما) على التسول في سوق دمبيه وسط العاصمة أنجمينا، من أجل منح معلم تحفيظ القرآن في مدرسته الواقعة في حي أنقبو (Angabo) شمال العاصمة، ثلثي ما يجمعه من المارة يوميا، في مقابل استمراره بالمدرسة إلى أن يحقق آماله وهدفه في حفظ القرآن الكريم، والذي جاء من أجله قبل خمسة أعوام من منطقة البطحاء الواقعة على بعد 400 كيلومتر شمال أنجمينا.
وفي حال عاد التمير بدون مال، يتعرض للجلد على ظهره، كما يقول، لـ"العربي الجديد"، مضيفا بألم: "يمسك أربعة من زملائي بقدميّ ويديّ بعد طرحي أرضا، ثم يجلدني معلمي على ظهري".
ويدفع التمير وزملاؤه ثمن تقليد تاريخي مجتمعي منتشر في وسط وغرب أفريقيا، بدأ بذريعة تعليم هؤلاء الأطفال التواضع، لكنه توسع وتحول إلى مهنة، إذ تنتشر الظاهرة بين 4500 طالب موزعين على 54 مدرسة تحفيظ (كتاتيب) غير مرخصة تنتشر في ضواحي أنجمينا ومدن مثل أبشة شرق تشاد وماوندو وسط غرب، بحسب نادين غولانغار، نائبة مدير إدارة الدراسات الميدانية بوزارة المرأة والأسرة وحماية الطفولة التشادية، والتي تؤكد لـ"العربي الجديد" أن هؤلاء الأطفال يتم استغلالهم في التسول والعمل في السخرة بداية من عمر 5 سنوات وحتى 15 عاما.
تتراوح أعمار الأطفال الذين يتم استغلالهم بين 5 سنوات وحتى 15 عاماً
ويقضي التلاميذ جل وقتهم في الشارع ولا يستفيدون من المبالغ القليلة التي يجمعونها، إذ يعيشون في ظروف سيئة بعيدا عن أسرهم، كما يعانون من الفقر وفقدان للأساسيات مثل الغذاء والملبس، وتعود الظاهرة إلى القرن الماضي كما يوضح البروفيسور محمد صالح أيوب، أستاذ علم الاجتماع في كلية العلوم الإنسانية بجامعة الملك فيصل الحكومية في أنجمينا، موضحا لـ"العربي الجديد" أن كتاتيب تحفيظ القرآن كانت منتشرة في القرى التشادية، وعندما جاء المحتل الفرنسي وقتل علماء الدين ومنع الدراسات الإسلامية، بدأت ظاهرة إرسال التشاديين لأبنائهم بعيدا عن أعين الفرنسيين وسلطتهم ليحفظوا القرآن ويدرسوا العلوم الدينية، وتزايد الأمر في ثمانينيات القرن الماضي، جراء المجاعة التي ضربت تشاد، إذ عمد الآباء إلى التخلص من الأفواه العديدة التي كان عليهم إطعامها في ظل الجفاف الذي ضرب المحاصيل الزراعية في قراهم، كما يقول البروفيسور أيوب.
لكن أستاذ علم الاجتماع في كلية العلوم الإنسانية بجامعة أنجمينا الحكومية، الدكتور غوندو لاديبا يرى أن ما يجري مسؤولية الدولة قائلا لـ"العربي الجديد": "عدم قيام الدولة بإنشاء مدارس مماثلة، دفع الآباء إلى إرسال أبنائهم للمتوفر، خاصة أنهم لا يدفعون مقابلها في ظل حالة الفقر وتفسيرات متوارثة تشجع على الأمر".
العمل بالسخرة
يقف الطفل آدم مبدو كورا (11 عاما) وسط أنجمينا، مع خمسة من رفاقه المهاجرين من قراهم البعيدة يضربون الدف، مرددين شان الله (من أجل الله تصدق علينا)، وجاء آدم إلى العاصمة قبل عامين مغادرا قريته الواقعة في ضواحي مدينة لاك عاصمة ولاية بحيرة تشاد، وانضم إلى مدرسة تحفيظ في حي قوزتور Gozator غرب انجمينا، ومن يومها يستغله مدرسه في التسول والعمل حمّالا في سوق المدينة ويحصل على أجره، كما يقول لـ"العربي الجديد"، مضيفا أن يومه يبدأ بحفظ القرآن من بعد صلاة الفجر حتى طلوع الشمس، ثم يذهب إلى السوق المركزي وسط أنجمينا، سيرا على الأقدام لمسافة 7 كيلومترات، مستجديا المال والطعام من المارة حتى يعود به إلى شيخه.
ويفسر الدكتور أبوبكر علي كوري مدير المركز الوطني للمناهج التابع لوزارة التربية الوطنية وترقية المواطنة، ما يجري لهؤلاء الأطفال يتمثل في أن مشايخ تحفيظ القرآن لا يملكون حلا آخر غير استغلالهم، لعدم وجود عمل ولا رواتب من أي جهة حكومية، مستدركا لـ"العربي الجديد"، بعضهم لديه عدد كبير من الأطفال وبالتالي تمكنوا من جمع المال في سنوات قليلة.
ولا يعتبر الشيخ آدم القوني إدريس، والذي يعمل في شرق حي دقيل (Diguel) شمال أنجمينا أن اعتماده مع زملائه على هؤلاء الأطفال مشكلة، قائلا لـ"العربي الجديد": "نعتمد على الطلاب في طعامنا وشرابنا، لأننا نحفظهم القرآن ولا أرى مشكلة في الحصول على ثلث ما يجمعونه من الأسواق خلال أيام الإجازة وأوقات الفراغ"، نافيا عمل الأطفال الذين يحفظهم القرآن بالتسوّل، مستدركا بالقول: "الواحد منا يُحفظ ما بين 30 إلى 50 طالباً ولا يمكننا تتبعهم في الأسواق لنعرف ماذا يفعلون"، بينما يقول اللوان كبرو، مدرس تحفيظ قرآن في حي دقيل، لـ"العربي الجديد": "نطلب القليل من المال من الطلاب لشراء البنزين الذي نستخدمه في إضاءة المصابيح التي يقرأون عليها عند انقطاع الكهرباء".
الطريق إلى التطرف
تعمل المدارس التقليدية خارج نطاق الأطر الرقابية، كما تقول مريم رماد، رئيسة قسم حماية الطفولة في وزارة المرأة والأسرة وحماية الطفولة، مؤكدة أنهم لا يملكون الحق في زيارتها والوقوف على كيفية سير العمل فيها، وهو ما يؤدي إلى وقوع انتهاكات كبيرة، بحسب الشهادات التي جمعها معد التحقيق، إذ يتعرض الأطفال للعنف عبر تقييدهم بالسلاسل وضربهم بألواح خشبية في حال عادوا من الشارع دون مال، وهو ما يؤكده محمد نور يوسف (11 عاما) والذي تركت آثار الضرب ندوبا على ظهره، ما دفعه إلى العودة لأسرته في منطقة نكّو شمال إقليم كانم ثلاث مرات، لكن في كل مرة يعيده والده إلى شيخه، حسب ما يقول لـ"العربي الجديد"، مضيفا: "ما أحصل عليه من التسول لا يكفي أحيانا حتى أحصل على وجبة واحدة في اليوم". وعلى الرغم من الواقع الأليم، لا يفكر يوسف في العودة إلى مسقط رأسه، مردفا: "لا أدري إلى أين سأذهب في المرة القادمة".
تعمل المدارس التقليدية في تشاد خارج نطاق الأطر الرقابية
الأخطر أن "بعض الأطفال ممن ينضمون إلى المتمردين وحتى جماعات إرهابية، مثل بوكوحرام كانوا من هؤلاء المهاجرين، نتيجة العنف الذي يتعرضون إليه" كما يقول الدكتور لاديبا، مضيفا أن العنف بصورة عامة، تترتب عليه آثار خطيرة جدا، قد تدفع الشباب إلى الجريمة، وهو ما يؤكده الطفل أحمد آبة، والذي يتلقى تأهيلا في وزارة المرأة والأسرة وحماية الطفولة منذ فبراير/شباط 2021، بعدما عاد إلى تشاد، إذ أرسله معلمه مع عشرة من زملائه إلى مركز تدريبي تابع لبوكوحرام بالقرب من منطقة Kindjiria على الحدود التشادية النيجيرية في ديسمبر/ كانون الأول 2019، مضيفا لـ"العربي الجديد": دُربنا على استخدام السلاح والمتفجرات لمدة أربعة أشهر، وحين تعرض المركز لهجوم حكومي في أغسطس/آب 2020، اعتقلت مع 3 أشخاص من زملائي".
وبلغ عدد الأطفال الملتحقين بالجماعات المتطرفة 100 حالة، خلال الفترة بين عامي 2016 و2019 بحسب تأكيد عثمان جلو، مدير مركز تأهيل العائدين من الحروب والنزاعات الحكومي لـ"العربي الجديد"، في مقابل استعادة 2243 طفلا تخلوا عن حركة بوكوحرام، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، وفق ما رصده الدكتور أحمد يعقوب دابيو، رئيس مركز دراسات التنمية والوقاية من التطرف بأنجمينا (غير حكومي)، مضيفا لـ"العربي الجديد": "بعد التحقق من أهالي الأطفال وقراهم اكتشفنا وجود 125 طفلا من بين العدد الإجمالي، التحقوا بالحركة بعد استيلائها على قرى تشادية تقع على الحدود مع نيجيريا بسبب تأثرهم بخطابها المتطرف"
وبالإضافة إلى السبب السابق، يعيد الدكتور دابيو، أسباب انضمام الأطفال للحركات المسلحة، إلى البحث عن المال نتيجة الفقر، وسيادة تفسيرات دينية خاطئة ومتشددة، خاصة أن بعض تلك الكتاتيب تدرس القرآن فقط ولا تقدم التفسير أو الفقه كما تغيب البرامج التربوية التي يفترض أن تحارب العنف، مشيرا إلى أن عشوائية عمل تلك المدارس التقليدية، تسهل استقطاب الأطفال عبر المتشددين الذي يملكون تأثيرا على معلميها، ومن ثم يتحول هؤلاء الأطفال إلى دروع بشرية وآلات قتل في خدمة الحركات الإرهابية والمسلحة.
فشل حكومي في مواجهة الظاهرة
يعد استغلال الأطفال في التسول من بين حالات الاتجار بالبشر في تشاد، وفق توصيف دورة تدريبية بعنوان "استجابة حول محاربة الاتجار بالبشر في تشاد" موّلتها وزارة الخارجية الأميركية في عام 2019، موضحة أن الشخص الذي يتعرض للتهديد، واستعمال القوة أو الأشكال الأخرى من الإكراه، يعد ضحية للاتجار بالبشر.
و"يقصد بالاتجار بالبشر، توظيف ونقل وتحويل أو إيواء واستقبال الأشخاص قسرا أو عبر تهديدهم باستخدام القوة أو أوجه الإجبار الأخرى أو بالاختطاف أو السرقة أو الغش، أو استغلال النفوذ أو بالضعف أو بغرض قبول أو دفع أو مصالح من أجل إرضاء شخص متسلط على شخص آخر بغرض استغلاله"، وفق المادة الخامسة من قانون مكافحة الاتجار بالبشر التشادي رقم 006 لسنة 2018، والتي شملت في فقرتها الخامسة الاستفادة من تسول الأطفال أو استلام ما يحصل عليه الطفل المتسول".
وتنص المادة السابعة من القانون ذاته على أن "يعاقب بالسجن لمدة أربع سنوات، وبغرامة 250 ألف فرنك وسط أفريقي (435 دولارا أميركيا) وحتى 5 ملايين فرنك (8713 دولارا) كل شخص يرتكب جريمة الاتجار بالبشر"، لكن لماذا لا يتم معاقبة من يستغلون الأطفال ويجبرونهم على التسول وفقا لذلك القانون؟ يجيب آدم اللمين طاهر، كاتب بالمحكمة الابتدائية في أنجمينا، قائلا لـ"العربي الجديد": "الضحايا لا يتقدمون بشكاوى إلى المحاكم بسبب جهلهم بحقوقهم، فضلا عن مكانة الدين والقرآن لدى الناس، ما يجعل من الظاهرة مستمرة ومتنامية".