يوثق التحقيق ازدواجية معايير الدولة الفرنسية في التعامل مع اللاجئين، إذ منحت الأوكرانيين بمجرد وصولهم الحماية المؤقتة وما يترتب عليها من حقوق تفتح لهم أبواب الحياة، بينما تحرم آخرين يتركون لقمة سائغة لمن يستغلونهم.
- تعتبر الطبيبة الأوكرانية كاتارينا كارالوفا نفسها محظوظة في فرنسا، إذ وجدت عملا في وقت قصير منذ وصولها في مارس/آذار عام 2022، مع ابنتها أدلينا ذات السبعة أعوام والتي تمكنت من الالتحاق بالمدرسة أيضا، لكن الأمر لا يخلو من منغصات إذ لم تتمكن بعد من إيجاد سكن ملائم قرب عملها بمركز صحي في مدينة فرساي قرب باريس، وما زالت تتنقل بين الأصدقاء، لكنها مع ذلك ترى حالها أفضل من ظروف باقي اللاجئين القادمين من أفغانستان، وسورية، والصومال، كما تقول لـ"العربي الجديد".
و"ما ساعد كارالوفا على إيجاد عمل رغم أن شهادتها غير معترف بها في فرنسا أنها وغيرها من اللاجئين الأوكرانيين يتمتعون بالحماية المؤقتة، وهذه الوضعية تلجأ إليها الدول في استجابة طارئة لحالات التدفق الجماعية للاجئين، والتي يفترض أن يستفيد منها جميع طالبي اللجوء الفارين من الحروب أو الأزمات الإنسانية، لكن الحال مختلف، إذ منحت فرنسا الأوكرانيين الفارين من الحرب مع روسيا الحماية دون غيرهم من الجنسيات، وبناء على ذلك لا يمرون بمرحلة تقديم طلب اللجوء، وهو إجراء طويل ومرهق جدا، في حين يحرم اللاجئون من جنسيات أخرى من كل الحقوق التي يتمتع بها الأوكرانيون، ويبقون في انتظار دراسة ملفهم إلى أن يتم قبوله"، كما تقول لـ"العربي الجديد" الناشطة إيراندا، رئيسة القسم القانوني بمنظمة خدمة اللاجئين اليسوعية (دولية تعنى بمساعدة اللاجئين).
سياسة تمييزية
بلغ عدد المتقدمين بطلبات لجوء إلى فرنسا 100 ألف شخص عام 2021، ويشكل الأفغان العدد الأكبر منهم بإجمالي 14475 حالة، ويليهم القادمون من ساحل العاج وعددهم 5298 طلبا، وفي عام 2022، بلغ إجمالي عدد طلبات اللجوء 131 ألفا، بارتفاع 27 % مقارنة بالعام السابق، وظل الأفغان في صدارة قائمة الطلبات بـ 17 ألف طلب، وتلاهم اللاجئون من بنغلاديش وعدد طلباتهم 8600، ووصل عدد طلبات الأتراك إلى 8500، بحسب البيانات المنشورة على الموقع الرسمي للمكتب الفرنسي لحماية اللاجئين وعديمي الجنسية Ophera (حكومي). ويستثنى الأوكرانيون من هذه الإحصائيات ما داموا يتمتعون بالحماية المؤقتة، وتقدر أعدادهم بـ 115 ألفا، وفق تصريح صحافي لوزيرة الدولة لشؤون المواطنة سونيا باكيس في 24 فبراير/شباط 2023، مشيرة إلى أن 80% منهم نساء. ويتمتع هؤلاء برعاية جميع الجهات ويؤمن لهم السكن فور وصولهم، كما وجدت نسبة كبيرة منهم عملا على الرغم من حاجز اللغة، بحسب باكيس.
تمنح فرنسا الأوكرانيين الحماية المؤقتة فور دخولهم أراضيها
وأنفقت فرنسا 634 مليون يورو خلال عام 2022، من أجل الترحيب بالأوكرانيين، بحسب تقرير صادر عن ديوان المحاسبة في 28 فبراير 2023، موضحا أن الدولة خصصت من هذا المبلغ 253 مليون يورو لتأمين إقامتهم، وطلبت من حكام المقاطعات التعامل مع تدفق اللاجئين من أوكرانيا، وشجعت الجمعيات الإنسانية على مساعدتهم، ويعني منحهم الحماية المؤقتة أنهم يستفيدون على الفور من حقوق اجتماعية ومن الرعاية الصحية، وتعليم الأطفال القصر، والترخيص لممارسة نشاط مهني، بالإضافة إلى رفع بدل طالب اللجوء الذي يمنح لكل فرد بينهم من 6.80 يوروهات يوميًا إلى 7.40 يوروهات، وفق ما جاء في التقرير الذي ينتقد منحهم البدل لكونه مخصصا لمقدمي طلبات اللجوء الذين لا يتم إيواؤهم مجانًا من قبل الدولة، في حين أن الأوكرانيين لم يقدموا طلبات لجوء بل منحوا الحماية المؤقتة مباشرة.
ولا يحظى اللاجئون من دول أخرى بالامتيازات السابقة، كما أجمع 5 منهم التقاهم "لعربي الجديد"، ومن بينهم اللاجئ الإريتري داود، والذي اكتفى بذكر اسمه الأول لتجنب أي مشاكل قانونية، قائلا إنه منذ وصوله إلى فرنسا عام 2018، وهو يعيش في قلق بانتظار بحث ملف لجوئه، ولم يقدم له سكن، ومن حسن الحظ، أن لديه بعض المعارف أقام معهم، معتبرا أن هذا "تمييز واضح تجاه الأفارقة لأنه وزملاءه لم يعاملوا مثل الأوكرانيين"، مشيرا إلى أن الوضعية الإدارية التي يعيشها طالب اللجوء لا تمكنه من القيام بأي شيء إلا الانتظار والاعتماد على بعض الجمعيات الإنسانية التي تقدم بعض المساعدات لتسهيل الحياة اليومية.
وتؤكد الناشطة إيراندا ما يقوله داود، "إذ لا يملك طالب اللجوء سوى الانتظار، وتقر بأن هذا الإجراء متعب وله تداعياته عليهم، "وكأن الإدارة الفرنسية ترمي من وراء هذه التعقيدات إلى دفع الأشخاص إلى التخلي عن طلبهم، عبر المساطر القانونية الطويلة والطلبات اللامتناهية والمرهقة وهو ما تدينه العديد من الجمعيات الفرنسية المدافعة عن حقوق اللاجئين".
واحتجاجا على هذا التمييز، رفع طالبو لجوء وساندهم ناشطون حقوقيون شعار "نحن كلنا أوكرانيون" في احتجاجات بباريس خلال يونيو/حزيران عام 2022، من أجل لفت انتباه مؤسسات الدولة المعنية إلى التناقض في التعامل بين اللاجئين بحسب جنسياتهم، لكن الدولة لم تتفاعل مع معاناتهم كما تؤكد مصادر التحقيق، وتواصل "العربي الجديد" مع المكتب الفرنسي لحماية اللاجئين وعديمي الجنسية لتفسير هذه التعقيدات والإجراءات التمييزية تجاه طالبي اللجوء دون رد.
ويقرّ فريد حسني، عضو في حزب الخضر وعضو المجلس البلدي لمدينة بانيو في الضواحي الجنوبية لباريس، بأن التمييز بين اللاجئين قائم، ويعزو اهتمام الدولة الفرنسية باللاجئين من أوكرانيا إلى أن الاتحاد الأوربي طلب من البلدان الأعضاء تخصيص وسائل استثنائية ومساعدات لاستقبالهم، وتوفير أماكن لاستقرارهم. قائلا: "إنه من الطبيعي أن يشعر طالبو اللجوء من أفريقيا وآسيا بالغبن وتعرضهم للتمييز الذي يمنعه القانون الفرنسي والأوروبي في الأساس"، معتبرا أن على المكتب الفرنسي لحماية اللاجئين وعديمي الجنسية دراسة ملفات اللجوء بشكل متساو وسريع، وتوفير شروط العيش الكريم لهؤلاء اللاجئين الفارين من الحروب بحسب ما تنص عليه قوانين الدولة الفرنسية، والتي يمكنها القضاء على التمييز عبر تطبيق القانون وتخصيص موارد مالية وبشرية كافية للقيام بهذا العمل في أحسن الظروف، والأخذ بعين الاعتبار توفير ظروف إنسانية ولائقة بهؤلاء اللاجئين، وفق حسني.
مهددون بالطرد
تفكر اللاجئة الليبية فاطمة كمال (اسم مستعار لتجنب المشاكل القانونية) بالسفر إلى بريطانيا على الرغم من حصولها على الإقامة القانونية في فرنسا، بسبب تعقيدات الحياة، إذ لم تتمكن من إيجاد عمل مستقر، ما يجعل الحصول على سكن أمرا صعبا، إذ تجد نفسها مجبرة على التنقل بين مراكز الإيواء وهو ما يؤثر على حياتها هي وطفلتها ذات الخمس سنوات، كما تضطر في بعض الأحيان إلى الإقامة مع صديقات لها.
وتستذكر خلال حديثها لـ"العربي الجديد" معاناتها منذ وصولها من بلد في حالة حرب، إذ قدمت هويتها للسلطات الفرنسية من أجل إتمام الإجراءات الإدارية المطلوبة، لكنها فوجئت بأن "حشرتها" السلطات في أحد مراكز الإيواء مع آخرين وأمهلتهم 45 يوما للمغادرة، غير أن تدخل جمعيات حقوقية حال دون تنفيذ القرار، ما مكنها من التقدم بطلب لجوء، وانتقلت للإقامة في بلدة أفينيون جنوب شرق فرنسا، وبعد انتظار دام 4 أعوام، رُفض طلبها، واضطرت إلى اللجوء إلى القضاء للطعن في هذا القرار، وبالفعل قضى في يونيو 2020 بمنحها وطفلتها إقامة لمدة 4 أعوام.
أنفقت فرنسا 634 مليون يورو خلال عام 2022 لرعاية الأوكرانيين
وواجه داود التعقيدات ذاتها منذ تقدمه بطلب لجوء سياسي عام 2018، وبعد سلسلة من الإجراءات الطويلة تم رفض طلبه وكان عليه مغادرة فرنسا نحو ألمانيا التي دخل منها لأول مرة ما دفعه إلى اللجوء للقضاء والطعن في القرار، وخلال تلك الفترة اضطر إلى مغادرة باريس، وأقام بمدينة بوردو الواقعة في الجنوب الغربي بعيدا 400 كيلومتر عن باريس، حتى أنصفه القضاء بعد أعوام، ومنح اللجوء السياسي.
وتعزو جمعية لاسيماد (غير حكومية تقدم استشارات قانونية للمهاجرين واللاجئين) في ردها المكتوب على "العربي الجديد"، هذه البيروقراطية الإدراية إلى وجود 21 قانونا متعلقا بالهجرة واللجوء والجنسية، بالإضافة إلى المراسيم الوزارية، ما عقّد الحصول على حق الإقامة، وأدى إلى إنتاج مساطر قانونية مجحفة بحق الأجانب وذات أمد طويل.
وينسحب الأمر على تسوية الوضعية القانونية، وما كان حقا في السابق أصبح اليوم وضعية استثنائية، بالإضافة الى أن الإدارات الفرنسية لا تطلب نفس الوثائق من طالبي اللجوء، إذ ترصد الجمعية أن لائحة المتطلبات تتغير من جهة إلى أخرى، بالإضافة إلى تشكيك الدوائر المختصة بالوثائق القانونية الصادرة في البلدان التي ينحدر منها بعض اللاجئين مثل جوازات السفر.
ولا يعتبر رفض الإقامة أو رفض تجديدها أمرا هينا في فرنسا، إذ يعني تسليم الشخص أمرا بمغادرة البلاد ووضعه في مركز لحجز الأجانب حتى يغادر بحسب جمعية لاسيماد، والتي أوضحت أن الدولة كانت تسلم الأجانب إقامة مدتها 10 أعوام، بينما اليوم أصبحت تمنحها بنسبة أقل، وتقلصت مدتها إلى عام واحد.
استغلال طالبي اللجوء
يُمنع طالبو اللجوء في فرنسا، باستثناء الأوكرانيين، من العمل أثناء انتظار دراسة ملفاتهم إلى أن يتم قبولهم في وضعية لاجئين، ويتسبب الوضع القانوني غير المستقر، في استغلالهم ضمن أنشطة السوق السوداء للعمل، إذ يحصلون على أجور قليلة ويتم الاستغناء عنهم بسرعة، كما أنهم بدون إقامة لا يمكنهم الحصول على سكن لائق، ويصبحون ضحايا لما يسمى بـ"تجار النوم" ممن يؤجرونهم مساكن سيئة الحال بأسعار عالية. وهذا ما مر به داود قائلا: "كنت أحيانا أعمل ولا أحصل على أجر، أو يختفي المشغل عن الأنظار وأحيانا أخرى يهددني باستدعاء الشرطة حتى لا يدفع لي".
ويتشابه حال اللاجئ عبدو بيكاي الذي قدم من مالي عام 2018، مع داود، إذ اضطر للعمل في ورش البناء مقابل أجر زهيد لا يتجاوز 40 يورو في اليوم، وهو مبلغ قليل في ظل ارتفاع كلفة المعيشة ومقارنة بالحد الأدني للأجور والذي يقدر بـ 11.52 يورو في الساعة، كما لا يتم احتساب الساعات الإضافية، وأحيانا يختفي مسؤول الورشة وهو ما يعني خسارة أجر أسبوع أو أسبوعين من العمل.
ورغم هذه الانتهاكات "لا يستطيع اللاجئون تقديم شكوى بحق مشغليهم لدى الجهات الأمنية، ما شجع أكثر على استغلال ظروفهم، ومن المؤكد أن نصف مليون شخص مهاجر بدون إقامة في فرنسا ويضاف إليهم اللاجئون الذين ينتظرون النظر في ملفاتهم، يشكلون يدا عاملة رخيصة وطيعة تستفيد منها سوق العمل الفرنسية"، كما توضح جميعة لاسيماد.