يفتقر جهاز الدفاع المدني اللبناني إلى كل شيء تقريباً، أحدث آلياته عمرها 22 عاماً، ولا تكفي مخصصاته لتدبير مهامه الحيوية، كذلك يعمل بالحد الأدنى من العناصر، وتتراجع قدراته على الاستجابة السريعة لنداءات الاستغاثة.
-يخشى المتطوع اللبناني خالد طالب، الناشط ضمن فريق الاستجابة في مجموعة درب عكار لمكافحة حرائق الغابات (تابعة لجمعية درب عكار البيئية غير الحكومية)، تكرار ما حدث في منطقة حرف السنّ في بلدة عكار العتيقة شماليّ البلاد، حين فقد الدفاع المدني السيطرة على الحريق الذي اندلع صباح 24 يونيو/حزيران 2023، واستمر لثلاثة أيام، وامتد على طول 6 كيلومترات، ليتحول إلى "أسوا كارثة شهدها"، بسبب عجز فرق الدفاع المدني عن الانطلاق من نقطة ارتكاز تؤمن سلامة الآليات، وعملية انسحابها مع دوام التزود بالمياه، وغياب غرفة العمليات الميدانية، وقلة العناصر البشرية، مقارنةً بحريق بهذه الشدة، فضلاً عن افتقار الدفاع المدني إلى الطوافات، ما اضطره إلى الاستعانة بالجيش الذي وجد صعوبة في العمل بسبب خروج الحريق عن السيطرة، بعدما امتد لمسافات كبيرة، وتشعبت النيران في الأحراج وامتدت إلى المنازل كذلك، فكانت النتيجة تضرر مساحات كبيرة من الأراضي المزروعة وغابات الصنوبر، وقفران النحل، بالإضافة إلى غرف زراعية، ومنازل.
"وأعاد هذا المشهد إلى الذاكرة الحرائق الضخمة في بلدة القبيات بقضاء عكار في يوليو/تموز 2021" كما يقول طالب الذي يتطوع وأعضاء مجموعته لمعاونة الدفاع المدني خلال الكوارث، مشيراً إلى أن تلك الإخفاقات تكشف حجم القصور في بنية الجهاز، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن جرود عكار فيها سيارة دفاع مدني واحدة في مركز قرية حرار، ويقع على عاتقها مواجهة الكوارث التي يمكن أن تتعرض لها 150 كيلومتراً مربعاً من الأحراج الكثيفة.
الكوارث تكشف هشاشة المنظومة
يبلغ عدد المراكز التابعة للمديرية العامة للدفاع المدني 225 مركزاً، بحسب الإحصائية المنشورة على الموقع الإلكتروني للمديرية، وينعكس نقص عدد المراكز في بعض المدن أكثر من غيرها، مثل عكار وطرابلس (شمالا)، ويؤدي إلى تداعيات سلبية تعوق تدخل فرق الدفاع المدني عند الحاجة وفقاً لمصادر التحقيق، وهو ما تثبته 5 حوادث يوثقها "العربي الجديد"، ومن بينها واقعة انهيار مبنى سكني من 4 طوابق في 25 يونيو 2022، بحيّ ضهر المغر الواقع شرق نهر أبو علي في مدينة طرابلس، ما أدى إلى مقتل طفلة تحت الأنقاض وإصابة والدتها، لينا كمود، بكسور شديدة في الحوض والساقين كما تروي لـ"العربي الجديد"، قائلة إن "الانهيار حدث يوم الأحد، بينما كانت في البيت، وما زاد الطين بلة اختفاء فرق الدفاع المدني، ولم يكن هناك غير متطوعين أحضروا جرافة تولّت رفع الأنقاض وعملت ساعات طويلة".
225 مركزاً وثماني فرق إنقاذ تابعة للدفاع المدني
ولم يختلف الأمر لدى انفجار صهريج محروقات في بلدة التليل بعكار في 15 أغسطس/آب 2021، ما أودى بحياة 36 ضحية من المتحلقين حوله للحصول على البنزين، في ظل أزمة نقص الوقود. ويروي شاهد العيان أحمد المحمد، وهو أحد الناجين من الكارثة "أن الضحايا كانوا يحترقون، ولم يتمكن أحد من مساعدتهم، وبعدما حضر الدفاع المدني استغرق 3 ساعات للسيطرة على النيران، كذلك اضطروا إلى نقل المصابين إلى مشافي بيروت عبر سياراتهم الخاصة بسبب محدودية مركبات الإسعاف التي يفترض أنها من أبرز تجهيزات الدفاع المدني".
ولدى منصور سرور، رئيس شعبة الخدمة والعمليات في مديرية الدفاع المدني، تفسير مختلف لغيابهم عن بعض الحوادث، قائلاً إن فرقهم تعمل في بيئة تتعدد فيها أجهزة مواجهة الكوارث، منها ما يتخذ الطابع الرسمي وأخرى ذات طابع أهلي، وهذه الحال تسبب "العشوائية في العمل" وعدم التنسيق بين الأجهزة في كثير من الأحيان، ومن ذلك ما يحصل من تضارب بين عملهم وعمل وحدة إدارة مخاطر الكوارث التابعة لرئاسة مجلس الوزراء، التي أُسست بالشراكة بين الحكومة اللبنانية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وكذلك التضارب مع تدخلات الجيش اللبناني الذي قد يحاصر منطقة الحادثة لفترة معينة، كما حصل لدى انفجار صهريج الوقود في التليل.
تداعيات الانهيار الاقتصادي تضرب الدفاع المدني
"لدينا ثمانية فرق إنقاذ يمكنها التعامل مع ثماني مواقع بما هو متاح لها من تجهيزات"، كما يقول سرور، موضحاً أن الإنقاذ عملية معقدة تحتاج دعمًا وتحريكًا دقيقًا، وحتى في بعض الأحيان حفر أنفاق وسراديب، وإدخال الكاميرات الحرارية والحساسات، وعدم اللجوء إلى عمليات الجرف، وهي تقنيات تحتاج الى تدريب طويل، ومقومات عديدة ليتمكن عناصر الدفاع المدني من تطبيقها في لبنان، بينما هم بأمسّ الحاجة إلى تأمين المزيد من التجهيزات والعتاد وبحاجة إلى تدريب المزيد من الفرق القادرة على مواجهة الكوارث، وتعويض المركبات المعطلة كما ينسحب النقص على قطع الغيار والمحروقات، وكلها عوامل تضعف من جاهزية الدفاع المدني وقدرته على تنفيذ مهامه الأساسية المتعلقة بالإنقاذ.
و"مما لا شك فيه أن الانهيار المالي والاقتصادي، أرخى بظلاله على عمل الأجهزة المعنية بإدارة الكوارث والدفاع المدني، وعمّق جراح المؤسسات المنهكة أصلاً "بحسب سرور، وهو ما يقر به العميد ريمون خطار، المدير العام للدفاع المدني، مؤكداً على خطورة المشاكل التي تعوق عمل المديرية في مواجهة أي كارثة، وعلى رأسها الحرائق الموسمية التي تتكرر بالبلاد، وأبرز تلك المشاكل اعتماد جهاز الدفاع المدني على المتطوعين، إذ يبلغ إجمالي العناصر 8589 عنصراً، كان من بينهم 483 مثبّتاً، بينما تأخر تثبيت عناصر إضافيين حتى يوليو الماضي، قائلاً لـ"العربي الجديد": "بعد تولي وزير الداخلية والبلديات القاضي بسام مولوي مهامه في سبتمبر/أيلول 2021، أجريت مباراة لمتطوعي الدفاع المدني الذين كانوا في الخدمة الفعلية لثلاث سنوات على الأقل من صدور القانون رقم 289 بتاريخ 30 إبريل/نيسان 2014، والمعدّل للمرسوم الإشتراعي رقم 50/67 الصادر في 5 أغسطس/آب عام 1967 والمتعلق بنظام وتنظيم الدفاع المدني، وتمّ تثبيت 2124 متطوعاً".
ويشير خطار إلى أن موظفي الجهاز ومتطوعيه يتحملون آثار ضعف مخصصاته الحكومية، وازدادت المعاناة خلال الأزمة الاقتصادية الراهنة، إذ يُمنح الموظفون مساعدة اجتماعية مؤقتة تعادل نصف الراتب ولا تتجاوز 100 دولار، بموجب المرسوم رقم 8837 الصادر في 22 فبراير/شباط 2022 وتعديلاته، الذي أُلزِموا بموجبه بالحضور 3 أيام أسبوعياً في الحد الأدنى، بينما المتطوعون لم يُصرَف لهم شيء، حتى بات الوصول إلى مراكزهم لمزاولة العمل يشكل عبئاً عليهم نتيجة الأزمة المعيشية الخانقة، ما يشكل نقصاً بالعناصر الجاهزين للتدخل لدى وقوع أي حادثة.
وبسبب ذلك يسيّر الجهاز أموره بالهِبات من جهات محلية وأجنبية إلى جانب المخصصات السنوية الضئيلة من الدولة. ويؤكد خطار أن لجنة المال والموازنة في مجلس النواب قررت تخصيص 77 مليار ليرة فقط (الدولار يعادل 90 ألف ليرة) من احتياطي الموازنة للدفاع المدني العام الماضي، وفي عام 2023 خصص له 179 مليار ليرة توزع على أبواب، أهمها تغطية رواتب الموظفين.
آثار تعطل الاستجابة السريعة
تعاني آليات الدفاع المدني من أعطال كثيرة، ما يؤثر في كثير من الأحيان بالاستجابة السريعة، وهو ما جرى في حرائق عكار في يوليو 2021، إذ منع توقف الآليات عن العمل الفرق من أداء عملها، وفقاً لتوضيح سرور وخطار. وعلى مستوى لبنان، يقدر عدد الآليات المعطلة بـ 40 آلية لم تخضع للصيانة لأسباب مالية، منها عدم وجود مخصصات لشراء قطع الغيار، ووصلت الآليات إلى هذه الحالة بسبب تكرر الأعطال الميكانيكية التي طرأت عليها، نظراً للاستهلاك الكبير، دون إخضاعها لصيانة دورية بسبب إصرار شركات الصيانة على تقاضي أجور التصليح بالعملة الأجنبية (الفريش دولار)، ولا يوجد تمويل كافٍ لتلك العمليات. أما الآليات العاملة، فهي متهالكة، ما يجعل أداؤها ضعيفاً، حتى إن أحدث قطعة دخلت ضمن آليات إطفاء الحرائق عمرها 22 عاماً، ومنذ ذلك الحين لم تدخل إلى الخدمة أي تجهيزات جديدة بحسب خطار، معتبراً أن تحديث المعدات لمواجهة الحرائق المتكررة والكوارث صعب للغاية في المرحلة التي تمر بها البلاد والأزمة الاقتصادية التي يعاني من وزرها جميع اللبنانيين.
ويرى سرور أن الفرق تقوم بأفضل الممكن على قدر التجهيزات الموجودة، وبالتالي، سيؤدي المزيد من التمويل إلى زيادة الفاعلية، وتابع: "لا تنقصنا خبرات علمية، بل تجهيزات حديثة لتشكيل فرق إضافية، وكذلك صيانة تلك القديمة".
وينسحب النقص في التجهيزات على الطوافات، إذ يفتقر الدفاع المدني إلى دائرة مختصة بالطيران، كما يقول خطار، مشيراً إلى أن "قيادة الجيش لم تتوانَ يوماً عن مؤازرة عناصر الدفاع المدني عند الحاجة عبر الطوافات التابعة للقوات الجوية، كذلك يضطرون في بعض الأحيان إلى طلب المساعدة من قبرص لإخماد الحرائق الكبرى بموجب اتفاقيات بين الطرفين".
40 آلية معطلة تعوق الدفاع المدني عن أداء دوره
وبالسؤال عن سبب عدم تخصيص طوافات لمهام الدفاع المدني، يفسر مصدر في الدفاع المدني طلب عدم ذكر اسمه أن هناك قراراً بحصرية استعمال الطوافات من قبل سلاح الجو التابع للجيش اللبناني لضرورات أمنية، علماً أن ذلك يسبب إنهاكاً للجيش، حتى إنه تحول إلى فريق إطفاء للأحراج خلال الصيف، لكن فعالية هذه الطريقة في العمل تظل محل شك، إذ اندلع حريق كبير نهاية يونيو عام 2023 في محمية جزر النخيل الواقعة غرب مدينة الميناء في طرابلس، واستمر لساعات طويلة احترق خلالها جزء كبير من المنظومة البيئية والنباتية، كما يقول رئيس لجنة المحمية المهندس عامر حداد، مستدركاً بأن مروحيتين تابعتين للجيش ساعدتا في إخماد الحريق، وإنقاذ العالقين، ما يؤكد أن ضعف تجهيزات الدفاع المدني تعوق عمله الأساسي لتنفيذ مهام الإنقاذ.