استمع إلى الملخص
- **التوتر بين الأمن والقضاء**: قانون "تعزيز الأمن الداخلي ومحاربة الإرهاب" لعام 2017 منح السلطات الأمنية صلاحيات واسعة دون الرجوع للقضاء، مما أدى إلى مطالب الشرطة بمحاكم خاصة لعناصرها.
- **الغليان الاجتماعي وقمع الحريات**: تقرير الجمعية الوطنية الفرنسية يكشف عن ارتفاع الإصابات خلال الاحتجاجات ضد تعديل قانون التقاعد، مع تهميش قنوات التواصل والاعتماد على الشرطة لقمع الحريات.
تتلكأ الشرطة الفرنسية في البت بملفات استدعاء شخصيات عامة للتحقيق بتهمة "محاباة الإرهاب" ولا تحوّلها إلى المراجع القضائية، ما يعني أن الاستدعاءات لها أغراض سياسية، وأن إبقاء الملف معلقاً يزيد مخاوف الناشطين.
- يرصد الباحث الفرنسي، سيباستيان روشيه، أستاذ العلوم السياسية والمختص في العلاقة بين أجهزة الأمن والمجتمع، ما يسميه نفوذاً متزايداً للشرطة يتمدد منذ أعوام، وبلغ ذروته في الإجراءات الأمنية المتخذة لمواكبة أولمبياد باريس 2024، إذ يتيح القانون الصادر في 19 مايو/أيار 2023 الاعتماد بصورة كبيرة على الكاميرات والطائرات المسيّرة من أجل المراقبة الشاملة، ناهيك عن فرض رمز الاستجابة السريعة، و"هي إجراءات أمنية غير معهودة خلال الأحداث الرياضية".
إلى جانب روشيه، لم تخف منظمات حقوقية عدة هواجسها من عواقب الإجراءات الأمنية المتخذة لتأمين استضافة دورة الألعاب الأولمبية، وعلى رأسها رابطة حقوق الإنسان (فرنسية تأسست في عام 1898) ومنظمة العفو الدولية اللتان توقفتا عند لجوء السلطات إلى استخدام الذكاء الاصطناعي ضمن عمليات المراقبة بالفيديو، وحذرت المنظمتان، غير الحكوميتين، من أن استخدام هذه التقنيات لتأمين الأولمبياد ليس سوى مقدمة لديمومتها، وانتشارها سيدفع إلى "تعميم حالة من الشك" داخل المجتمع، وما يعنيه ذلك من انتهاك لخصوصية الأفراد، عبر تتبّع حركتهم وانتهاك خصوصيتهم، خاصة أن استخدام الذكاء الصناعي على هذا النطاق يؤدي إلى تهميش العنصر البشري الذي سيتحول إلى "أداة تنفيذية بيد الأجهزة الإلكترونية"، دون القدرة على تقييم مستوى الخطورة بنفسه، حتى لو كانت إنذارات خاطئة، ما يعني تخزين كميات من المعلومات (بصمات الجسد، بصمة الوجه ...) دون أي مبرر أمني.
الاستثناء يتحول إلى قاعدة دائمة
يفترض أن ما جرى خلال الأولمبياد إجراءات استثنائية تنتهي مفاعيلها في 31 مارس/آذار 2025، لكن التجارب السابقة التي وثقها روشيه، دلت على أن الاستثناء يتحول مع الوقت إلى قاعدة دائمة، والمثال الأبرز هو قانون "تعزيز الأمن الداخلي ومحاربة الإرهاب" الذي أقرته الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ، ونشر في الجريدة الرسمية في 30 أكتوبر/تشرين الأول 2017، وقبل هذا التاريخ وبسبب العمليات الإرهابية التي شهدتها فرنسا منذ عام 2015، فرضت السلطات الفرنسية حالة الطوارئ ابتداء من 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 ومددتها دورياً طوال عامين.
إشكالية القانون، بحسب روشيه والعديد من المنظمات الحقوقية، أنه بعد إقراره بات بوسع السلطات الأمنية ممارسة بعض مهماتها دون العودة إلى المرجعيات القضائية، كتوقيف المشتبه بهم، وحل الجمعيات، وإغلاق دور العبادة، بعبارة أخرى باتت البلاد أشبه ما تكون بحالة طوارئ دائمة، وهو ما يتوافق مع ما لاحظه خلال إعداده كتاب "الشرطة في مواجهة الشارع"، إذ تهكم عناصر الشرطة الفرنسية على أقرانهم الأوروبيين (الألمان والبلجيكيين) لافتقادهم الموارد المتاحة في فرنسا، في ظل سماح القرار السياسي بتوفير إمكانيات أمنية غير متاحة في الدول المجاورة، كقاذفات القنابل، لتفريق التظاهرات. تضاف إليها إجراءات أخرى كمنع الصحافيين من الحضور لحظة تفريق التظاهرات.
فرض النظام مهما كانت العواقب
"لا تبذل الحكومة الفرنسية جهداً لتحصين حقوق المواطنين. وما نشهده من ممارسات غير مألوفة في الديمقراطيات التقليدية يدفعني للقول إن فرنسا أقرب ما تكون إلى ديمقراطية أمنية"، يقول روشيه، ومن أبرز الأمثلة التي ذكرها لـ"العربي الجديد"، تمسّك الشرطة باستخدام الأسلحة لفرض النظام مهما كانت العواقب، على الرغم مما حدث بعد وفاة الناشط البيئي، ريمي فريس، في 26 أكتوبر 2014 خلال اعتصام معارض لإنشاء سد سيفانس المائي، إذ أصدرت "المفتشية العامة للشرطة الوطنية"، في 2 ديسمبر/كانون الأول 2014، تقريراً عن نتائج التحقيق لم تنفِ فيه تسبّبها بمقتل فريس، إلا أنها تمسّكت بضرورة توفر هذه المعدات لأداء عمل الشرطة، وهي خلاصة لا يتقبلها روشيه، معتبراً أن فرنسا باتت تعد استثناء أوروبياً لجهة "الفلسفة الاستبدادية لعمل الشرطة".
تصدر إيمانويل ماكرون لائحة رؤساء الجمهورية الخامسة لجهة عدد الجمعيات التي حلت في عهده والتي بلغ عددها 33 جمعية
مثال آخر يتعلق بازدياد وتيرة مراسيم حل الجمعيات، لا سيما تلك الناشطة في مجال حقوق الإنسان، أو الداعية إلى العصيان المدني، رصده أستاذ القانون العام في جامعة غرينوبل رومان رامبوه، بعدما عاد إلى أرشيف الجريدة الرسمية، لإجراء دراسة إحصائية، توصل من خلالها إلى أنه بنهاية عام 2023، تصدر إيمانويل ماكرون لائحة رؤساء الجمهورية الخامسة لجهة عدد الجمعيات التي حلت في عهده والتي بلغ عددها 33 جمعية.
وهي اتهامات ترفضها ليندة كباب، الأمينة العامة لنقابة "الوحدة" إحدى أبرز نقابات الشرطة الفرنسية، قائلة في اتصال مع "العربي الجديد"، إنه لو كنا نعيش في ظل دولة أمنية، لما كان سيسمح أساساً بالتظاهر، مضيفة أن فرنسا دولة يحكمها القانون الذي ترعاه عدة مؤسسات فرنسية وأوروبية.
العلاقة بين القوى الأمنية والسلطة القضائية
بعيداً عن نفوذ الشرطة المتزايد، يولي الباحث والأستاذ في معهد العلوم السياسية بمدينة ليون، برنارد لاميزيه، اهتماماً بالغاً بطبيعة العلاقة بين القوى الأمنية والسلطة القضائية، وفي مدونته المعنونة "مؤشرات الدولة الأمنية" يعتبر أنها تمتاز بغياب التوازن المؤسساتي، أي عدم وجود جهة مؤسساتية تراقب وتحدّ من نفوذ القوى الأمنية. ففي الدول ذات الطبيعة الأمنية يكون القضاء خاضعاً للأمن، فيما العلاقة معكوسة داخل الأنظمة الديمقراطية. وعليه "استقلالية القوى الأمنية عن باقي السلطات" معيار أساسي لتصنيف الدولة الأمنية.
وهي مسألة تناولها بدوره سيبستيان روشيه، مستحضراً تصريحاً أدلى به فريدريك فو، المدير العام للشرطة الوطنية، في يوليو/ تموز 2023، بعد توقيف أحد عناصر الشرطة في مدينة مارسيليا بتهمة ممارسة العنف ضد مواطن خلال تفريقه لموجة احتجاجات، قائلاً: "قبل انتهاء المحاكمة لا يفترض أن يقبع شرطي في السجن"، وبرأي روشيه، كلام فو يأتي في سياق سعي الأجهزة الأمنية لتحصين نفسها من أية ملاحقة قانونية والتمتع بقوانين خاصة بها دوناً عن باقي المواطنين، ما يعد انتهاكاً لمبدأ المساواة أمام القانون الذي نصّت عليه المادة الأولى من الدستور الفرنسي.
محاكم خاصة لعناصر الشرطة
يرى روشيه أن الغاية الفعلية من المطالبة بتوفير محاكم خاصة لعناصر الشرطة، هي التهرب من المساءلة بما يتناقض مع روح القانون الجنائي القائم على "محاسبة المتسببين بضرر"، لكن انطلاقاً من نشاطها النقابي ومن مهنتها كشرطية، تدافع كباب عن مطلب إرساء "نظام قانوني - قضائي خاص بعناصر الشرطة"، مذكرة بوجود عدد من المحاكم الخاصة في فرنسا، كتلك المتخصصة في محاكمة القاصرين أو المحاكم المخولة النظر في قضايا العنف ضد النساء.
وعليه لا تجد سبباً مبدئياً يمنع نقابتها من المناداة، منذ عام 2016، بضرورة إرساء محاكم خاصة بعناصر الشرطة. تبرر النقابية الفرنسية هذا "المطلب الطبيعي" بالحاجة إلى إزالة الالتباس: "عند مثول شرطي أمام القاضي بتهمة ممارسة العنف أو الاعتداء أو حتى القتل، يجري التعامل معه كأي متهم جنائي وفي هذا مجافاة للحقيقة. الدولة فوضت الشرطة استخدام القوة لفرض النظام ما يعني أن الغاية من استخدام القوى الأمنية لسلاحها هي تطبيق القانون وليس مخالفته".
وتتمسك بضرورة الأخذ بعين الاعتبار ظروف عملها هي وزملاؤها: "خلال المظاهرات أو الاضطرابات نكون عرضة للاستهداف، نتنقل فيما تحذف علينا الحجارة والمفرقعات، ما يعني أننا نعمل تحت الضغط ووسط الخطر. ظروف العمل هذه، تفرض علينا اتخاذ قرارات سريعة، فخلال أقل من ثانية علينا تقدير الموقف لجهة وجوب استخدام السلاح من عدمه".
وتعتبر أن وجود نصوص قانونية تأخذ بعين الاعتبار ظروف عملهم إلى جانب تأهيل قضاة للنظر بهذا النوع من القضايا، ينطوي على حد أدنى من العدالة. لهذا السبب لا تكتفي نقابة "الوحدة" بعقد اجتماعات دورية مع القضاة، بل تدعوهم أيضاً للمشاركة في تدريبات الرماية حتى يلمسوا بصورة عملية حساسية عملهم.
الغليان الاجتماعي
يكشف تقرير صادر عن الجمعية الوطنية الفرنسية في نوفمبر 2023، أن عدد المصابين من القوى الأمنية في الفترة الممتدة من 16 مارس و3 مايو 2023 بلغ 1518 مصاباً، وهي الفترة التي شهدت فيها فرنسا تظاهرات حاشدة ضد تعديل قانون التقاعد، كما بلغ عدد المصابين من المدنيين نحو 746 شخصاً.
على الجانب الآخر، في سبتمبر/أيلول 2023 أصدرت "المفتشية العامة للشرطة الوطنية" تقريرها السنوي، وكشفت عن وفاة 38 مدنياً، وإصابة 66 آخرين، خلال أداء عناصر الشرطة مهامهم في عام 2022.
وكل ما ورد لجهة زيادة إمكانيات العناصر الأمنية ومحاولة تحصينها قانونياً وقضائياً، نقاط وضعها الباحث في علم الاجتماع بيار دويار لوفيفر، في سياق "الغليان الاجتماعي"، الذي رصده في كتب عدة تتناول طبيعة عمل الشرطة والأجهزة الأمنية، أبرزها الصادر عام 2021 بعنوان "نحن في حالة حرب: إرهاب الدولة وعسكرة الشرطة". وفي إصداراته كما خلال الندوات، يشدد لوفيفر أن فرنسا في حالة "حرب اجتماعية"، والدولة همشت كل قنوات التواصل بينها وبين الشارع والنقابات، والبرلمان، باستثناء جهاز الشرطة.
وفاة 38 مدنياً وإصابة 66 آخرين خلال أداء عناصر الشرطة مهامهم
والخيار هذا له جذور بنيوية، فالجمهورية الخامسة قامت على أنقاض الرابعة التي فشلت في إدارة الأزمة الجزائرية إبان حرب التحرير. ونظامها شبه رئاسي، تتركز السلطات لدى رئيس الجمهورية، كما أن فلسفة هذا النظام قامت على مبدأ الحزم والانضباط العام. "بالتالي ليس مستغرباً أن يجري التعامل مع الأزمة الاجتماعية بصورة أمنية".
ويتفق المحامي فانسان برينغارت مع كلام لوفيفر عن وجود أسباب بنيوية. ويعتبر المتخصص في القانون الجنائي والحريات العامة وأحد الشركاء في مكتب بوردون للمحاماة، أن طبيعة النظام الرئاسي تساهم فيما يصفه بـ "التوتر الاستبدادي"، لكنها ليست العامل الوحيد الذي أدى إلى "شرخ بين المواطن والشرطة".
وبسبب ما لمسه من اقتران الإرادة السياسية بآليات قضائية تحمي عناصر الشرطة من المحاسبة، أصدر كتاباً في عام 2024 حمل عنوان "غياب التكافؤ: هل يتساوى الشرطي مع باقي المواطنين أمام القاضي؟"
ولا ينفي برينغارت وجوب حماية عناصر الشرطة المجبرة على استخدام السلاح، لكن دون تحويلها إلى حماية مطلقة. ولا ينكر المحامي ما قالته ليندة كباب حيال اعتبار فرنسا دولة قانون، لكن استناداً إلى خبرته العملية، لاحظ أنه يبذل جهداً مضاعفاً حين تتعلق القضية بالدفاع عن أحد موكليه الذين وقعوا ضحية جهاز الشرطة. يكمل برنغارت حديثه متسائلاً: "كيف يعقل أن يوكل التحقيق إلى الشرطة، أي إلى طرف غير محايد، هذه عقبة إضافية لانتزاع العدالة".
خلل قضائي
صحيح أنّ فكرة القوانين والمحاكمات الخاصة للشرطة لم تتبلور بعد بصورة عملية، وفقاً لبرينغارت، لكن ذلك لا ينفي وجود خلل على المستوى القضائي. ومن الملفات التي دوماً ما يُشير إليها ما عرف بقضية ديبورا والتي وقعت في ديسمبر 2020، إذ جرى توقيف السيدة حين كانت تتجول مع صديقتها في مركز تجاري بمنطقة "غارج لي غونيز" شمال شرقي باريس.
وبدأ الإشكال حين حررت الشرطة غرامة مالية بحقهما لعدم وضعهما كمامة. بعد ابتعادهما عن الدورية سُمِعَت ديبورا وهي تشتم دورية الشرطة، الأمر الذي نفته، مشيرة إلى أنّ تلفّظها بالشتائم جاء في معرض حديث خاص مع صديقتها.
القضية أخذت منحى مختلفاً حين تبين أن العنف المستخدم أثناء عملية توقيفها أدى إلى إجهاض جنينها، ما دفعها إلى تقديم شكوى.
برينغارت توكل للدفاع عنها، لكن الأكثر إثارة للجدل هي سرعة صدور الحكم بحق موكلته قبل النظر في الشكوى التي تقدمت بها، فيما كان يفترض التعامل مع الملف كقضية واحدة وليس على نحو مجتزأ خاصة لوجود تقارير طبية تربط بين العنف المستخدم خلال عملية التوقيف وحالة الإجهاض.
كباب ردت على برينغارت، ولا تنكر حقه وزملاءه في انتقاد الشرطة، لكنها لفتت إلى أن دور "المفتشية العامة للشرطة الوطنية" يتوقف عند مرحلة التحقيق، فيما إصدار الحكم من اختصاص القاضي الذي يراجع الأدلة المقدمة كافة من جميع الأطراف. بالتالي، إذا كان هناك مأخذ، يجب مراجعة صاحب القرار النهائي وليس جهاز الشرطة.
كما تطرقت إلى مسألة التحقيقات المسلكية بالرغم من عدم تناولها على لسان من التقى بهم "العربي الجديد"، لكن كباب رغبت بإثارتها بعد تحولها إلى مادة للتصويب عليهم: "التحقيقات المسلكية موجودة في القطاعات كافة، لدى الأطباء والصحافيين وحتى المحامين. لماذا التركيز على التحقيقات المسلكية في قطاع الشرطة وتسويقها كحجة لدعم فرضية التهرب من المحاسبة؟".
التوازن المفقود
برأي لودوفيك فريات، رئيس الاتحاد النقابي للقضاة، فجهاز العدالة الفرنسي في وضع لا يحسد عليه: "مهمة القاضي هي الفصل في النزاعات، ما يعني حكماً وجود طرف غير راضٍ عن الحكم الصادر، ما يفسّر الانتقادات الموجهة للأجهزة القضائية من كلا الجانبين". في بداية حديثه لـ"العربي الجديد"، حرص فريات على التأكيد أنه يتحدث باسم أكبر نقابة للقضاة وهو كيان غير مسيس. كما أضاف أنه عمل طوال 15 عاماً في مهنة قاضي تحقيق، ما أتاح له الاحتكاك عن قرب بالأجهزة الأمنية.
يشير فريات إلى العلاقة المعقدة والمركبة بين الأمن والقضاء والتي يصفها بـ "التوازن المفقود"، القضاء بحاجة للشرطة في مرحلتي التحقيق وتنفيذ الأحكام، ما يفرض حداً أدنى من التعاون المبني على الثقة المتبادلة. تكمن المشكلة في اعتقاد البعض بمواكبة الشرطة للقضاة خلال مرحلة المحاكمة أيضاً. وفي الواقع، الشرطة مستبعدة كلياً من هذه المرحلة، عملاً بمبدأ فصل السلطات، ويؤدي القاضي دور الحكم من خلال النظر إلى الأدلة المقدمة كافة من الدفاع والادعاء، فالحكم القضائي لا يستند فقط إلى تحقيقات الشرطة، والكلام دائماً لفريات.
و"بطبيعة الحال لسنا في عالم مثالي. إذا كان هناك من خلل ما، فالسبب لا يعود لمشاركة الشرطة في التحقيق بل لتقصير القاضي في الإحاطة بالجوانب كافة، ويمتلك بعضهم قدرات محدودة ومؤهلات متفاوتة". كلام فريات لا يعني انحيازه إلى صف الشرطة رغم التقاطع مع ما أدلت به ليندة كباب. ولا يُخفي اعتراضه على استحداث محاكم الخاصة بعناصر الشرطة: "تلقائياً يأخذ القاضي بعين الاعتبار ظروف كلا الفريقين الماثلين أمامه، بالتالي لا حاجة إلى قوانين خاصة على حساب القانون العام".
كما يبدي فريات مأخذاً على جهاز الشرطة الذي يحاول التأثير على القضاة من خلال دفعهم لاعتبار تحقيقاتهم بمثابة حقيقة مطلقة. وبرأيه اعتماد السلطات الفرنسية على الأجهزة الأمنية بشكل أوسع مرده إلى سببين اثنين، المطالب الشعبية المنادية، منذ 15 عاماً، بمضاعفة التدابير الأمنية، وكذلك سهولة إصدار قوانين صارمة ومتشددة وذات بعد أمني عوضاً عن توفير الموارد لمعالجة جوهر الأزمات.
تحويل الشرطة إلى أداة لقمع الحريات
بالإضافة إلى ما ذكر آنفاً، يرى البعض أن معالم الدولة الأمنية في فرنسا تتجلى كذلك في تحويل الشرطة إلى أداة لقمع حرية التعبير وللترهيب، كما يقول فانسان برينغارت، إن استدعاء شخصيات عامة إلى التحقيق، منذ 7 أكتوبر، بتهمة "محاباة الإرهاب" يندرج في هذا السياق، أي القمع والترهيب. وهو أمر لمسه بنفسه بعدما تولى الدفاع عن النائبة الأوروبية، الفلسطينية الأصل، ريما حسن، وهي واحدة من بين 386 حالة استدعاء إلى التحقيق في مراكز الشرطة بين أكتوبر وديسمبر 2023 بالتهمة ذاتها، وفق بيانات المدعي العام في باريس.
ولدعم حجته، يشير برينغارت إلى التلكؤ في البت بهذه الملفات، وتحويلها إلى المراجع القضائية، ما يفسره بأمرين اثنين: أولاً غياب أدلة ذات مصداقية تسمح بتوجيه التهمة، ما يعني أن الاستدعاءات إلى التحقيق بتهمة محاباة الإرهاب تخفي في طياتها تطويعاً للقانون لأغراض سياسية. من جهة أخرى، إبقاء الملف معلقاً يمعن في زيادة التخويف.
كلام برينغارت يتقاطع في جزء منه مع ما أدلى به لـ"العربي الجديد" الباحث المتخصص في العالم العربي، فرنسوا بورغا، الذي استدعي إلى التحقيق في 9 يوليو الماضي، بعدما شارك على صفحته الخاصة في وسائل التواصل بياناً لحركة حماس، خصصته للرد على صحيفة نيويورك تايمز.
يقول بورغا إن ملف الاتهام كان فارغ المضمون، وعلى نحو مثير للسخرية، أما الاستجواب فكان بغرض "استيضاح ما يدلي به من مواقف ووضعها في سياقها، إلى جانب سؤاله عن إذا كان يعتبر حماس حركة إرهابية أم لا؟ وهل لديه تواصل مع هذه الحركة؟".
يضيف بورغا لـ"العربي الجديد"، أنه لم يتردد في الإدلاء بقناعاته: "إدانتي لكل العمليات التي يذهب ضحيتها مدنيون وأطفال لا تعني موافقتي على تصنيف نشاط حركة التحرر هذه في إطار إرهابي". وفقاً لبورغا أساس المشكلة هو "الاحتلال الذي يلجأ إلى القمع، وبسبب هذا القمع تولد المقاومة التي يصنفها المحتل إرهاباً".
وفي انتظار قرار المدعي العام، لا يشك بورغا للحظة أن فرنسا تتجه وبخُطا متسارعة نحو الدولة الأمنية مبتعدة عن دولة القانون.