تراكمت مخالفات البناء في ربوع مصر خلال الأعوام الماضية، في ظل تفشي حالة من التفلت القانوني والتلاعب بالتراخيص وغياب الرقابة وتجاهل الصيانة، ما يهدد تلك العقارات بالانهيار في حال تكرر حصول زلزال بقوة ما وقع في عام 1992.
- فحص الخمسيني المصري مسعود حسن شقته خوفا من تأثيرات هزة أرضية بقوة 6.43 درجات على مقياس ريختر شعر بها سكان القاهرة وعدة محافظات، في 20 فبراير/ شباط الماضي، رغم تأكيدات المعهد المصري للبحوث الفلكية والچيوفيزيقية أن البلاد آمنة من خطر الزلازل المدمرة.
ويتكون العقار الذي تقيم فيه أسرة حسن من أربعة طوابق، وبني في عام 1975 بمنطقة المطرية، شرق القاهرة، وتقطن الأسرة في شقة بالطابق الثالث منذ 25 عاما بموجب نظام "الإيجار القديم" والذي يمنح المستأجر حق الإقامة في الوحدة السكنية في مقابل مادي بسيط يستمر مدى حياته، لكن لا يسمح له قانونا بإجراء أي تعديل أو ترميم للعقار.
وتقيم مليون و642 ألفا و870 أسرة مصرية في وحدات الإيجار القديم، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء. ويقول مسعود لـ"العربي الجديد": "المالك لا يقوم بأي صيانة للعقار ويتمنى انهياره حتى يبيع الأرض أو يبني مكانه عمارة كبيرة".
لماذا لا تتم صيانة المباني؟
تعد صيانة العقارات من أهم الأسباب التي تساعد على إطالة عمرها الافتراضي، كما يقول المهندس إبراهيم عز الدين، الباحث العمراني في المفوضية المصرية لحقوق الإنسان.
ويتحدد العمر الافتراضي للمبنى عبر طريقة تشييده من حيث الالتزام بأكواد البناء ومطابقة المواد للمواصفات الفنية والبيئة المحيطة به وأيضاً صيانته الدورية، كما يؤكد عز الدين، مقدرا أن المبنى الذي تتم مراعاة العوامل السابقة فيه قد يصل عمره الافتراضي إلى ما بين 100 وحتى 150 عاما.
ولا يوجد إلزام قانوني صريح بتنفيذ صيانة دورية للمباني، وفي ظل نظام الإيجار القديم لا يهتم غالبية الملاك بالصيانة، فإيراد العقارات منخفض، وكلفة الصيانة كبيرة، كما يقول عز الدين وأستاذ الهندسة المعمارية مصطفى جلال رمضان، والذي أعد بحثا بعنوان "من أجل مستقبل أفضل.. أعمال صيانة المباني السكنية في مصر"، مشيرا إلى غياب الإلزام التشريعي بصيانة العقارات في قانون 101 لسنة 1996، بشأن توجيه وتنظيم أعمال البناء، وهو ما يصفه بـ"تهديد للثروة العقارية"، ثم جاء قانون البناء رقم 119 لسنة 2008 والذي نص على صيانة العقارات في حال ظهور مشاكل فنية لكنه لم ينص على الصيانة الدورية.
تلاعب بالتراخيص
بالقرب من الشارع الذي يسكن فيه مسعود، ترتفع عمارات لأكثر من 13 طابقا، أغلبها لم يحصل على رخصة بناء، أو حصل على ترخيص لكن بعدد أقل من طوابقه، مثل العقار الذي اشترى فيه الثلاثيني أحمد إبراهيم شقة تحت الإنشاء في عام 2016.
ويؤكد أحمد لـ"العربي الجديد"، أنه عندما اطلع على رخصة المباني أثناء شراء شقته اكتشف أن العقار مرخص له بـ 5 طوابق فقط، بينما شقته في الدور العاشر، مضيفا "عندما سألت مالك العمارة، قال: كل الناس بتعمل كده وفي النهاية هنعمل تصالح".
بعد شهور من استلام أحمد شقته، وقبل البدء في أعمال التشطيبات، رصد شروخا في بعض الحوائط، واكتشف أن الوضع هو نفسه في أكثر من شقة في العقار نفسه.
وبلغ عدد العقارات المخالفة 2.8 مليون مبنى على مستوى الجمهورية، بينما عدد الطوابق المخالفة 396 ألفًا و87 طابقا، وفق بيانات تقرير حكومي مقدم إلى مجلس النواب في عام 2020، بينما يؤكد آخر إحصاء رسمي أعلنه الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في عام 2017، أن إجمالي العقارات في مصر 16 مليونا و185 ألفا و63 مبنى، منها 13 مليونا و467 ألفا و333 مبنى سكنيا، ومن بينها مليون و985 ألفا و458 مبنى في حاجة إلى ترميم بسيط، و820 ألفا و329 مبنى تحتاج إلى ترميم متوسط، و427 ألفا و848 مبنى تحتاج إلى ترميم كبير، و97 ألفا و535 مبنى غير قابلة للترميم ومطلوب هدمها.
لكن المهندس عز الدين يرى أن الأرقام على أرض الواقع أكبر، لافتا إلى أن نسبة العقارات المخالفة قد تصل إلى 50% من الثروة العقارية، وهو ما أعلنه رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي في مؤتمر صحافي في سبتمبر/ أيلول 2020، قائلا إن "البناء غير المخطط (المخالف) يمثل 50% من الكتلة العمرانية المصرية".
وأشار عز الدين إلى أن 25% من هذه العقارات على الأقل مهددة بالانهيار، في حال وقع زلزال قوي، بموجب عدد العقارات المصنفة رسميا بأنها تحتاج إلى ترميم كبير وترميم متوسط، والعقارات غير قابلة للترميم والمطلوب هدمها، وكذلك العقارات المخالفة والتي لم تراع أي عوامل للأمان والسلامة، ولفت إلى خطورة ما وصفه بـ"العمران الريفي شبه الحضري"، شارحا أنه مع توقف الدولة في فترات طويلة عن بناء المساكن المخططة، لم يكن أمام الناس سوى البناء العشوائي على أطراف المدن وفي الأراضي الزراعية، وبالتالي تكونت تجمعات سكنية كبيرة غير مخططة ولا تراعي السلامة الإنشائية.
ولا تتجاوز مساحة الشارع ثلاثة أمتار في مناطق كاملة مثل المطرية وفيصل وشبرا الخيمة بينما توجد فيه أبراج 12 أو 13 طابقا، كما رصد عز الدين لافتا إلى أن هذه الأبراج المخالفة تم تقنينها بموجب "رشاوى انتخابية"، وهو ما يؤكده تصريح رئيس الحكومة في المؤتمر الصحافي بأن الظروف الاقتصادية التي واجهتها الدولة في السنوات السابقة جعلتها تغض الطرف عن البناء المخالف، وأنه "في بعض المواسم الانتخابية تم توصيل المرافق لها، ما جعل البناء المخالف هو النمط الغالب".
من يراقب أعمال البناء؟
رصد معد التحقيق عبر بلاغات جهاز الدفاع المدني انهيار 14 مبنى سكنيا خلال أول شهرين فقط من العام الجاري (يناير/ كانون الثاني وفبراير/ شباط)، أدت إلى مقتل 19 شخصا وإصابة 31 آخرين، وتوزعت الانهيارات على خمس محافظات، على رأسها جاءت الإسكندرية ثم القاهرة والجيزة وأسيوط والبحيرة.
وتأتي هذه الانهيارات رغم وجود "جهاز التفتيش الفني على أعمال البناء"، والذي استحدثته الحكومة المصرية في عام 1993 كأحد خطوت ما بعد زلزال 1992، ويتبع لوزارة الإسكان ومهمته التفتيش والرقابة والمتابعة لأعمال الجهات الإدارية المختصة بشؤون التخطيط والتنظيم بالوحدات المحلية، ويراقب كل ما يتعلق بإصدار تراخيص إنشاء المباني أو صيانتها أو هدمها أو تدعميها، وبات "من المفترض أن كل ما تم بناؤه طبقا لكود البناء بعد زلزال 92 آمن، لكن الحقيقة أن مباني كثيرة لا تراعيه" كما يقول عز الدين.
وعلى أرض الواقع من المستحيل أن يؤدي الجهاز عمله، بحسب إفادة مسؤول قيادي سابق في الجهاز طلب عدم ذكر اسمه للموافقة على الحديث، كاشفا أن عدد العاملين لا يتجاوز 100 موظف، وهم مسؤولون عن التفتيش على مستوى الجمهورية، مشيرا إلى أن هناك مطالبات كثيرة بزيادة عدد الموظفين لكن لا تتم الاستجابة لها، وبالتالي يتعذر عليه القيام بمهامه.
وللحصول على رخصة البناء يشترط قانون البناء الموحد 119 في المواد أرقام (40 و41 و42) أن يكون المتقدم بالطلب مهندسا أو مكتبا هندسيا معتمدا، وتلزم المادة 53 من القانون ذاته المالك بأن يعهد إلى مهندس نقابي أو مكتب هندسي بالإشراف على تنفيذ الأعمال المرخص بها. بينما يقول المقاول رمضان عمار (اسم مستعار بناء على طلبه خوفا من المساءلة القانونية)، والذي يمتلك مجموعة من الأبراج في مناطق عين شمس والمطرية والزيتون، إنه يلجأ إلى المهندسين على الورق فقط، وتابع "هذا عرف بين كل المقاولين.. الحكومة عايزة تظبط ورقها وأنا عايز أوفر كلفة المهندس".
ويرى عمار أنه يمتلك خبرة أكبر من تلك التي لدى المهندسين، لافتا إلى أنه أنشأ 9 أبراج خلال الفترة ما بين 2014 وحتى 2020، وجميعها بحالة جيدة، وهو ما يرفضه حسن علام، أستاذ الإنشاءات الخرسانية وترميم المنشآت بالمركز القومي لبحوث البناء، إذ يؤكد في حديث مع "العربي الجديد"، أن الأمر ليس بالبساطة التي يطرحها بعض المقاولين، ويوضح أن هناك نوعين من المخالفات؛ الأولى هندسية أو فنية والثانية مخالفة قانون المحليات، "الأخطر بالتأكيد هي المخالفات الهندسية والتي تتعلق بالاشتراطات الفنية للمباني"، مشيرا إلى أن كود البناء يضم 9 أبواب تشمل الكثير من التفاصيل، كالمواد المستخدمة في الخرسانات وطريقة خلطها وخواصها وطرق التصميم والاختبارات والأحمال وغيرها، وأضاف أن كل دول العالم تجري تغييرات في أكواد البناء مثل أميركا، والتي تقوم بذلك كل 3 أعوام، ودول أخرى مثل مصر تغيرها كل 5 سنوات، ويتفق علام وعز الدين على أن الأكواد المصرية تعد من بين الأفضل في العالم لكن المشكلة في عدم التنفيذ على أرض الواقع.
غياب المجالس المحلية المنتخبة
تقدم المهندس وعضو مجلس النواب إيهاب منصور بسؤال إلى الحكومة سائلا عن مدى التزام الإدارات المحلية بأعمال مراجعة حالة المباني والآليات التى يتم على أساسها الأمر، وقدرة تحمل المباني ومدى الالتزام بتطبيق أكواد البناء، لكن بدون رد، ويرى إبراهيم جاد، خبير الإدارة المحلية وعضو المجلس المحلي لمحافظة القاهرة سابقا، أن غياب المجالس المحلية المنتخبة ساعد في انتشار فساد المحليات ومخالفات البناء.
وأجريت آخر انتخابات للمجالس المحلية في عام 2008، وصدر قرار بحل تلك المجالس عقب ثورة يناير 2011، ورغم النص في دستور 2014 على بدء تطبيق نظام جديد للإدارة المحلية بشكل تدريجي خلال خمس سنوات من إقرار الدستور، لكن ذلك لم يحدث، ويؤكد جاد أن موظفي الإدارات المحلية ويصل عددهم إلى 2.9 مليون موظف، يمثلون النسبة الأكبر من العاملين بالجهاز الإداري بالدولة، وأكثر فئة تتعامل مع المواطن بشكل مباشر، لكن عددهم الهائل يحول دون فعالية أنظمة الرقابة ومن ثم تتفاقم المشكلة.