عن كوميديا مصر.. الضحك أيضاً قضية

07 اغسطس 2014
إسماعيل ياسين (1912 - 1972)
+ الخط -
عرفت مصر أجيالاً من نجوم الكوميديا الكبار على مدار تاريخها الفنيّ المديد. فقد كانت الكوميديا هي الوسيلة المتاحة للتعبير عن الهمّ السياسي والمجتمعي، والطريق إلى انتقاد الحكّام. وربما كانت في بعض الفترات الوسيلة الوحيدة.

لكن هذا لا يمنع، ولا يجب أن يمنع أبداً، أن تكون الكوميديا في حدّ ذاتها هدفاً. فالضحك لمجرّد الضحك ليس أمراً مستهجناً، بل هو واحد من أسس الفنون، قبل الرسالة والهدف ونوايا تغيير المجتمع وغيرها. الضحك متعة للترويح عن الناس، والمتعة في حدّ ذاتها هدف نبيل.

ليس مطلوباً من الفنان أن يقدّم نصائح ومعلومات ويتشدّق بشعارات، ولا أن يناقش قضية مجتمعية أو أزمة سياسية في عمله. فإمتاع الجمهور وحده هدفٌ عظيم، إذا تمكّن الفنان من تحقيقه. لكن بعيداً عن التفاهة والابتذال وتشويه المجتمع، أو توجيه الحكّام والحكومات مثلما يحدث عادة خلال الأزمات والتحولات السياسية.

مدارس الكوميديا المصرية منذ بداية القرن الماضي شهدت كلّ المفارقات. فالراحل علي الكسار (1887 - 1957) قدّم الضحك لمجرّد الضحك في السينما، ولجأ في المسرح إلى تقديم عدد من القضايا المجتمعية المتعلّقة باللون والشكل واللهجة والتمييز. وفي الوقت ذاته كان نجيب الريحاني (1889 – 1949)، وهو أحد آباء الكوميديا المصرية الكبار، يقدّم كوميديا اجتماعية راقية، تنبّه إلى الكثير من مشكلات المجتمع المصري.

طبع الكسار والريحاني فترة مهمة من التاريخ المصري بحضورهما، وكانت البلاد حينها تعيش عصراً ديمقراطياً رغم الاحتلال والمَلَكية. فالأحزاب تتنافس وانتقاد الحكومة مباح وهجاء المحتلّ الإنجليزي على أشدّه، ومصر تضم خليطاً واسعاً من الجنسيات والديانات والثقافات.

بعد رحيل الريحاني والكسار، جاء إسماعيل ياسين (1912 - 1972) وتحول إلى ظاهرة. قدّم الكوميديا التي يُطلق عليها المتخصصون اسم "الفَرْص"، من خلال أعمال كلّ همّها الترويح عن الجمهور وإضحاكه، حتّى لو على نفسه، وإن غلّفت الأعمال كلّها بإطار اجتماعي، وركّز الكثير منها على دور الجيش والشرطة المتنامي في المجتمع بعد ثورة يوليو/تموز 1952.

عادة لا تصل الممثلات إلى مصاف نجوم الكوميديا، لكنّ شادية، التي شاركت إسماعيل ياسين بأكثر من عشرين فيلماً، كانت نموذج الفنانة خفيفة الظلّ، بينما زينات صدقي كانت نجمة فوق العادة، ولم تحظَ بالمكانة اللائقة بها، ومثلها أيضاً ماري منيب.

نجومية "سمعة" الطاغية وأفلامه التي انهمرت كالمطر على دور العرض كانت كفيلة بتواري مواهب بارزة، من بينها عبد الفتاح القصري، الذي اكتفى بدور "السنّيد"، ومحمود شكوكو الذي كان مؤهلّاً للنجومية. قدّم إسماعيل ياسين في أحد الأعوام 13 فيلماّ سينمائياً دفعة واحدة.

مع انحسار موجة إسماعيل ياسين في بداية الستينيّات، بزغ نجم جديد هو فؤاد المهندس (1924 – 2006)، الذي يمكن اعتباره أيضاً أحد آباء الكوميديا المصرية، إلى جوار الريحاني. وسار المهندس على درب إسماعيل ياسين في تقديم "الفَرْص" المُطعَّم بملامح مجتمعية. لكنّه أيضاً اعتمد على الصيغة الرائجة في منتصف الستينيّات. إذ كان النقاش محتدماً حول أجهزة المخابرات والجاسوسية، حتّى في السينما العالمية.

ومثلما كوّن "سمعة" ثنائياً فنياً شهيراً مع شادية، فإنّ المهندس كوّن ثنائياً أكثر شهرة مع شويكار، التي تزوّجها لاحقاً. وبزوغ نجم المهندس قضى على حظوظ نجم كبير آخر هو رفيق دربه عبد المنعم مدبولي (1921 – 2006) الذي لا شكّ في كونه مدرسة فنية كبيرة في الكوميديا. وربما كان تفرّغ مدبولي للإخراج والكتابة واكتشاف المواهب سبباً أبرز.

في الوقت ذاته، فجأة، بزغ نجم واعد هو عادل خيري (1931-1963). وهو ابن المسرحي الكبير بديع خيري رفيق درب الريحاني ومؤلّف معظم أعماله، لكنّ الموت اختطف عادل سريعاً مثلما ظهر سريعاً.

في الستينيّات أيضاً، ظهرت موجة كوميدية جديدة، تعتمد المجموعة صيغة للنجاح، خلافاً لصيغة النجم الأوحد الرائجة، فبرز الخواجة بيجو والدكتور شديد، وعمر الجيزاوي وعبد الرحيم كبير الرحيمية قبلي. لكنّ تلك المجموعات وغيرها توارت سريعاً أمام نجومية "ثلاثي أضواء المسرح" المكوّن من النجوم سمير غانم والضيف أحمد وجورج سيدهم. وسريعاً أحدث الثلاثي طفرة في الكوميديا باعتمادهم على الاسكتشات الغنائية والحركة. لكنّ وفاة الضيف أحمد عاجل المجموعة وأوقف قدرتها على الاستمرار، واستمرّ العضوان الباقيان (سمير وجورج) لاحقا لفترة قبل أن ينفصلا ويعمل كلّ منهما منفرداً.

في بداية السبعينيّات ظهر جيل جديد، يمكن اعتباره جيل "مدرسة المشاغبين"، نسبة إلى المسرحية الشهيرة التي بدأ عرضها في عام 1973. جيل المشاغبين ضمّ عادل إمام ويونس شلبي وسعيد صالح وأحمد زكي، والأخيران من خرّيجي مدرسة عبد المنعم مدبولي المسرحية، بينما عادل إمام يعود الفضل في شهرته إلى فؤاد المهندس ومسرحياته.

شقّ الثلاثي عادل وسعيد ويونس طريقهم بسرعة، وارتبط عادل وسعيد في ثنائي متميّز. وانضم إليهم سمير غانم وآخرون في تقديم مجموعة كبيرة من الأفلام تميّزت، نهاية السبعينيات، بصيغتها التافهة والساذجة، بينما كانت البلاد تغلي بسبب معاهدة "كامب ديفيد"، وربما كان الأمر مقصوداً.

وبينما توارى يونس شلبي شيئاً فشيئاً، ابتعد عادل إمام عن الكوميديا وقرّر اعتماد الأعمال الجادّة بفضل مخرجين أبرزهم محمد فاضل ومحمد خان، ولاحقاً شريف عرفة، ومثله فعل أحمد زكي الذي استفاد من فورة نشاط المخرج عاطف الطيب.

في النصف الثاني من ثمانينيّات القرن الماضي تدهور حال الكوميديا المصرية كثيراً، وانفضّ الاهتمام إلى الصراع السينمائي بين نادية الجندي ونبيلة عبيد، أو لنقل، احتسابا للدقّة "الصراع الإعلامي بين نجمة الجماهير ونجمة مصر الأولى". وهو الصراع الذي قضى على حظوظ مشاريع نجومٍ، بينهم محمد نجم وسيّد زيان، وإن أفلت منه على استحياء محمد صبحي.

مع اقتراب الألفية الثالثة، وخلال السنوات الخمس الأخيرة من الألفية الثانية، بدأ ما أُطلِقَ عليه اسم "موجة السينما الشبابية"، أو ما يحبّ البعض وصفه بـ"السينما النظيفة". وكانت الكوميديا مكوناً أساسياً في هذه الموجة، ومن أبرز نجومها محمد هنيدي وعلاء ولي الدين وهاني رمزي وأشرف عبد الباقي. وقد استمرّ هنيدي لسنوات وحقّق نجاحاً واسعاً لعقد كامل، بينما رحل علاء عن دنيانا سريعاً، وظلّ أشرف وهاني في الوسط، لا هما انتهيا ولا تفوّقا.

كانت أعمال هؤلاء، منفردين أو مجتمعين، خليطاً من كوميديا "الفَرْص" وكوميديا الموضوع. لكنّ اللافت أنّ كلّ الأفلام وقتها لعبت على موضوعات الساعة، سياسياً ومجتمعياً، فظهرت قصص التغريب، ومعاداة إسرائيل ومحاولات معارضة النظام وغيرها.

بعد نحو خمس سنوات فقط، ظهرت موجة جديدة تعتمد كوميديا "الفَرْص" بشكل مستفزّ. وكان نجم المرحلة الجديدة بلا منازع هو محمد سعد وشخصية "اللمبي" التي باتت أيقونة الألفية الجديدة. لكنّ تكرار سعد الشخصية نفسها في أفلام كثيرة، وتغيّر المجتمع سريعاً، وتطوّر السينما الواقعية، كلّها أسباب أدّت إلى تراجع شعبية "اللمبي"، وربما كان هذا من حظوظ نجم شاب آخر هو أحمد حلمي ونجمة شابة هي ياسمين عبد العزيز، اللذان انتشرت شهرتهما سريعاً، ثم تراجعا سريعاً، مثلما كان الحال مع محمد سعد.

لا يمكن الحديث عن الكوميديا ونجومها في مصر بمعزل عن الأوضاع السياسية والمجتمعية. كما يتجاهل كثيرون أوضاع صناعة السينما التي تؤثّر بلا شكّ على نجومية بعضهم، وعلى تطوّر الأعمال وتميّزها، لكن يظل الأهمّ أنّ الضحك، كإحدى غايات الكوميديا الفنية الأساسية، ليس عيباً، وأنّ اعتماد الكوميدي على الشعارات الرنّانة ليس هدفاً.

المساهمون