الرقابة السورية... عقيدة النظام الأسدي الأمنيَّة

28 مايو 2018
شدد نجدت أنزور على "ضرورة الحسم العسكري" ضد المعارضة(Getty)
+ الخط -
رغم أنَّ المشكلة مع النظام السوريّ الأسدي ليست مشكلة رقابة سينمائيّة أو دراميّة بالدرجة الأولى، فهو نظام يستخدم السلاح الكيميائي ويقتل أناسًا تحت التعذيب وقتل أكثر من نصف مليون إنسان في سورية، إلا أنّنا سنلقي الضوء على تفصيل هام في الحياة الفنيَّة السورية، على هامشيّته، وهو مسألة الرقابة. 

اكتسب المواطن السوري مرونة للتعاطي مع مختلف أشكال الرقابة، وذكريات متنوعة للاحتيال عليها. فالرقابة الفكرية على المنشورات والمطبوعات وعلى المواد البصرية السينمائية أو الدرامية، وحتى على الموسيقى، هي من المسلّمات في حياة السوري. حتى غدا الحصول على كتاب منعته الرقابة، ورفضت الاستحواذ عليه، مغامرة لا تخلو من الخصوصية التي تكسبها طابعاً جمالياً يذكره السوريون. كتغليف الكتاب بورق جرائد، أو وضع غلاف جديد له.


مشكلة الرقابة السورية ليست بجديدة، ولكن التصعيد الشعبي والإعلامي ضدها اليوم، في قضية منع مسلسل "ترجمان الأشواق" من العرض هو الجديد. امتلأت خلال الأسبوعين الماضيين مواقع التواصل الاجتماعي وصفحات المجلات والنشرات الفنية بقرار منع مسلسل "ترجمان الأشواق" قبل ساعات من الموعد المحدد لعرضه، من قبل المؤسسة العامة للإنتاج والتوزيع التلفزيوني، لتبدأ حملة كبيرة للاعتراض على هكذا قرار مجحف بحق عمل من إنتاج ذات المؤسسة التي قررت منع عرضه، بعد موافقتها على نصه.

الحملة بدأت من طاقم العمل ومن جمهور العمل الذي يترقب العمل منذ عام. فالعمل كما خطط له، كان يجب الانتهاء منه في رمضان الماضي، ولكنه استمر فترة أطول، وانتهى تصويره ومونتاجه منذ ثمانية أشهر، وصدر "البرومو" والشارة، إضافة إلى أنّه العمل الدرامي التلفزيوني الأول للمخرج، محمد عبد العزيز، المخرج السينمائي السوري الذي خاض جولات عدة ضد الرقابة السورية في عملهِ كسينمائيّ.



خلال أيام، أصبحت المؤسَّسة بحاجةٍ للردّ والتصريح عن أسباب منع العمل. وصرَّحت على صفحات فيسبوك عبر موقعها الرسمي، وكان كاتب العمل، بشار عباس، يطالب المؤسسة ببيان مفصل توضح فيه قرارها. بداية تم التصريح، بأن العمل توقف بسبب شخصية مسؤول أمني فاسد، فالعمل غدا غير مقبول سياسيّاً وفكريّاً. وأوردت أن العمل بحاجة لتعديلات، كحذف ثماني حلقات وعدة مشاهد، وكما صرح الكاتب، بشار عباس، أنّ الرقابة تريد حذف شخصية الدكتور زهير بهذا القرار. ولاحقاً، في 17 أيار/ مايو نشرت المؤسسة بياناً آخر بعد رفع العمل إلى الوزير، وإحالته إلى لجنةٍ رقابيّة أخرى، توضح فيه أن العمل لم يُمنَع، بل تم تأجيله لوقت آخر يناسب عرض عمل فني متميز. أخطاء وعثرات المؤسسة كانت كما تجري العادة من تأخير وتقصير وعدم القدرة على اتخاذ قرار وركاكة أدائية، إلا أنَّها هذه المرة كانت مكشوفةً ومفضوحةً ومتداولة للنقاش. فهنالك سخط شعبي وسخرية من أداء المؤسّسة البدائي، وكأنّه مساحة جديدة لنقد ما لا يمكن مسَّه سابقاً، فبيانات المؤسسة الضعيفة حتى لغوياً تم انتقادها، ومناقضتها لذاتها وفشل إيضاح وجهة نظرها، ولكن بنية المؤسسة وكيانها ليس بغريبٍ على أحد.

كل عام يتعرَّضُ عملٌ تلفزيونيّ وأعمال سينمائية للمنع بفعل الرقابة، أو يُعرَض بشكل محدود، أو يجمَّد ليعرَض لاحقاً. سبق أن مُنِع فيلم "الليل الطويل" للمخرج هيثم حقي، بعد أن وافقت الرقابة على نصه. ومسلسل "خان الحرير" جُمّد لسنتين في مستودعات مؤسسة الإنتاج قبل أن تسمح الرقابة بتصويره عام 1996. حتّى أنّ بعض المخرجين المؤيدين بشكل مباشر لنظام بشار الأسد المجرم، عانوا من إشكاليات الرقابة، ومنهم نجدت أنزور الذي صرح في عام 2006، أن طريق الهرب من الرقابة السورية هو التوجه للفانتازيا، وتعرّض هو لمنعٍ مع مسلسله "المارقون" الذي يعالج الإرهاب من وجهة نظر أسديَّة، رغم أنّ نجدت أنزور يعتبر جزءاً من آلة النظام الدعائيَّة.

بعد التسعينيات، كان الهرب من الرقيب السوري أمراً سهلاً عن طريق التوجه للمحطّات الخارجية، وتأمين عروض للعمل ووارد مادي أفضل من المؤسسة السورية التي تسمح بتجاوز المحظور وفق عقيدة النظام السوري الأمنيَّة. فبإمكان العمل السوري تجاوز الثالوث المحرم "الدين، الجنس، السياسة"، شرط ألا يمسّ أسئلة السلطة والثروة الأساسية. شللية الدراما السورية والمؤسسة، وكيفية تحوير العمل وتوريته يبقى خياراً أسهل من الوصول للشركات العربية، ولكن يترتب على هذه المغامرة تبعات أخرى، فكثير من الأعمال تمنع بشكل فكاهي وبلا مبررات وتعود للظهور بسبب يأس المؤسسة.

فمسلسل "رياح الخماسين" منع عام 2008. ولكن بسبب عرضه على قنوات سورية خاصة، وهي قناة "الدنيا"، تم التراجع عن قرار المنع بعد أيام. ومسلسل "لعنة الطين" الذي حقق صدمة عندما عرض على القنوات السورية، فهو عمل حساس يتناول فترة الثمانينيات وصولاً للألفية الثانية، ولكنه لم يُعرَض كاملاً، إذْ عرض كسيحاً بعد حذف الرقابة أكثر من مئة مشهد، إذ لم تستطع منعه بسبب عرضه على قناة الدنيا كاملاً. وتكثر القائمة بالمسلسلات التي خلقت إشكاليات عند ظهورها كـ"غزلان في غابة الذئاب" و "ولادة من الخاصرة"، وغيرها الكثير. وفي هذا العام، أيضاً، تمَّ منع مسلسل "هارون الرشيد" إلى جانب "ترجمان الأشواق"، ولكن الأول لم يحظَ بتلك الضجة الإعلامية.
المساهمون