منذ ستينيات القرن الماضي لغاية اليوم، تستحوذ السينما الهندية على العالم البصري للمغاربة، بمسلسلات وأفلام هندية كبيرة، لا تزال تحفر مجراها عميقاً في الذاكرة الجماعية. بقيت السينما الهندية تتربّع على عرش العالم، بفضل أسماء مخرجين، كـ يَاش راج شوبرا (1932 ـ 2012) مثلا، الذي تتّسم أعماله بتعددية المواضيع والأصوات والأجناس الفيلمية، وبتناولها الصراع بين الهند والباكستان في قوالب سينمائية، تمزج بين الحب والتسامح والنضال الوطني.
أفلام كهذه طبعت خاصيّة التجريب، بهدف تمرير رسائل اجتماعية وسياسية، لها علاقة بالتشنّج والـ"بلوكاج" السياسيين، اللذين تشهدهما الهند والباكستان في صراعهما حول منطقة كشمير، منذ عام 1947، بما يُعرف في بعض الأدبيات التاريخية بـ"التقسيم".
أفلام شوبرا طوّعت لغة سياسية ورموزاً اجتماعية متوارثة، في عمل سينمائي متفرّد، يتأسّس في شعريته على لذّة الحكي. هكذا استطاع النفاذ بإنتاجه السينمائي الطويل إلى وجدان المُشاهد العربي، بمواضيع لم تخلُ مما كانت تشهده البلدان العربية من فوران وحراك سياسي ـ اجتماعي بعد الاستقلال. وما زاد من أهمية أفلام شوبرا أن الاستعمار في العالم العربي وَجَد في الفن السابع آلية لدعم وتكريس نفوذه السياسي وهيمنته الاستعمارية على البلد المحتل، كما في المغرب. إذ عثر المغاربة في السينما على ضالتهم وملاذهم الآمن، للتخفيف من حدّة الاستعمار والغربة والتوحّد، فتمّ إنشاء "المركز السينمائي المغربي" عام 1944.
لاحقا، فُتح المجال أمام السينما الهندية والمصرية، في عدد محدود من القاعات السينمائية، ليتعرّف المُشاهد المغربي، للمرة الأولى، على أفلام مصرية تعبِّر عن حسّه الوطني. هذا ساهم في تثوير مخيلة الفرد المغربي فيما بعد، وتعطّشه إلى الحرية والتحرّر، اللذين كانت تنادي بهما بعض أفلام مصرية، كـ"الوفاء العظيم" (1974) لحلمي رفلة، و"الرصاصة لا تزال في جيبي" (1974) لحسام الدين مصطفى، و"حتى آخر العمر" (1975) لأشرف فهمي، وغيرها من الأفلام ذات البعد السياسي والوعي القومي العربي. أفلامٌ احتفت بصرياً بأحداث مهمّة في التاريخ السياسي لمصر، خصوصاً "حرب أكتوبر" (1973).
ومع بداية ثمانينيات القرن الـ20، شهدت الأفلام السينمائية المصرية انفجاراً مذهلاً في القاعات المغربية، وحرص الجمهور المغربي على متابعة هذه الأفلام الجديدة، ومعرفة أخبار النجوم وحياتهم اليومية.
هذه المرحلة نفسها صنعت الوعي الحقيقي للمغربيّ بالسينما المصرية، لأنّها شهدت هيمنة نجوم، كعادل إمام ونور الشريف وإلهام شاهين وليلى علوي وأحمد زكي، وغيرهم من صانعي مجد السينما المصرية، داخل مصر وفي العالم العربي.
لكن، وفي لحظة ما، بدأت شرارة اللغة المصرية تخفت، إذ لم يعد الرهان القومي والسياسي مطلباً ملحّاً على الجمهور المغربي، الذي وجد نفسه أمام قضايا متشابكة ومواضيع جديدة، تراهن على الذات، وتحاول القطع مع التاريخ، والتملّص من سلطة الإيديولوجيا والنموذج الغربي. فكانت السينما الهندية، في هذه المرحلة، "أرض الأحلام" للجمهور المغربي، المنتمي إلى الطبقتين الفقيرة والمتوسطة، إلى درجة يصعب معها تصوّر حجم الجماهير المتردّدة على دور السينما، خاصة في الدار البيضاء. هناك كانت تُعرض يومياً 3 أفلام هندية في صالة واحدة. ورغم أنّ القاعات متواضعة تقنياً، لكنّها تستقطب مئات المتفرّجين، مزيّنة مداخلها بـ"أفيشات" الأفلام الهندية لراج كابور، وأميتاب باتشان، وشاه روخان، وكاجول، وكارينا كابور، وأكشاي كومار، وكاترينا كييف، وغيرهم من ممثلي بوليوود، ممن صنعوا مخيّلة الإنسان المغربي في سبعينيات القرن الـ20 وثمانينياته وتسعينياته.
تضمّنت السينما الهندية، مقارنة مع السينما المصرية والمغربية، وضوح الفكرة والرقص والتغنّي بالحبيبة، بالإضافة إلى الفضاء الملوّن للصورة، والبطل الأسطوري الفقير الذين ينقذ حبيبته، ذات الجمال الساحر والجسد الأسمر، في نهاية الفيلم. كما تضمّنت تلك الأفلام قصصاً مسلية ومثيرة، جعلت المُشاهد المغربي يحلّق في عالم من الخيال مع "بطله"، ويحلم هو الآخر بالفوز بقلب حبيبته.
هذه الصور ربما تبدو اليوم ساذجة لدى بعضهم، لكنها في الحقيقة صنعت جيلاً بكامله، ووسمته بنَفَسٍ ميلودرامي، مستهدفة عنصر التشويق داخل قصّة، تكاد لا تخلو من عنف ومطاردات عرقية وقبلية وعائلية للحبيبة، وتضارب قوى الخير والشر، كما عبّرت عنه أطروحة زرادشت حول أصل الحياة.
يتأسّس مفهوم الصورة في الفيلموغرافيا الهندية على أسس ومرتكزات محدّدة، تكاد لا تستوعبها قوالب الأفلام الأميركية والفرنسية والعربية وطوبوغرافياتها، أوّلها خاصية البطل الأسطوري الخارق، الغائب في الأفلام العربية. فوَجَد المشاهد المغربي نفسه أمام بطل خارق، يحقّق له أحلامه المجهضة جراء واقع مُنهَك ومأزوم. بطل جميل ومميز، له فتاة جميلة تحبّه. ولأنّها ستتزوّج، يخوض صراعات عائلية، ويقتل الأشرار، ساعياً إلى الانتقام ونشر العدالة والسلم على الأرض.
تتخلّل هذه المشاهد أربع مقاطع موسيقية ورقصات، تُعيد غالباً بناء مَشَاهد الفيلم ولقطاته، ولها غالباً علاقة بالحدث، إما تجسيداً لحبّ أو لحزن أو لقوة أو لفرح أو لانتصار، وفي النهاية الفوز بالحبيبة، وفق لغة سينمائية واحدة، يشيّد سردُها على حكاية خطية ذات بداية وحبكة وعقدة ونهاية، ضمن خطّة فنية تقوم على اختيار دقيق لنجمٍ، يسهل عليه تأدية الدور، والتماهي مع جمهوره.
أما على مستوى الصورة، فإنّ فضاءات الأفلام الهندية لا تخلو من الألوان والمَشاهد السياحية في مدنٍ هندية مختلفة، تقع في الشمال. أحياناً، يضطر المخرج إلى تصوير هذه المَشاهد في كندا أو أستراليا، أو على ضفاف جبال الهمالايا. فضلاً عن الملابس المزركشة، التي تؤثّث فضاء الصورة بألوان مختلفة، مع موسيقى تصويرية مقتطفة من الموسيقى الرئيسية للفيلم.
هذه الخصائص والمميزات كلّها تؤثّر، عادة، على المتلقّي، لإعطاء انطباع إيجابي عن الأفلام، من دون تناسي الخصائص الشعبوية للمجتمَعين الهندي والمغربي، بحكم المأثورات الشعبية والعادات والتقاليد القبلية، التي تطبع مسارها التاريخي والحضاري، مقارنة مع مجتمعات غربية أخرى.