"أيام القاهرة السينمائية 2": معنى "الفيلم العربي"

02 مايو 2018
من "عندي صورة" لمحمد زيدان (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
قديمًا، كان التلفزيون الرسمي في مصر ـ عندما يعلن عن الأفلام التي سيعرضها على شاشته، والتي تكون مصرية دائمًا ـ يكتب، أو يقول مذيعوه ما يلي: "تلتقون مع الفيلم العربي...". مع مرور أعوام طويلة، ترسّخ في أذهان المصريين أن تعبير "الفيلم العربي" متعلّقٌ بهم، وأنه لا توجد "سينما عربية" بعيدًا عن "السينما المصرية". 

مع الانفتاح النسبي في الأعوام الأخيرة، اهتزّت قليلاً تلك الفكرة الشوفينية، خصوصًا مع نجاحات مختلفة للسينما العربية في المهرجانات الدولية، وتحقيق بعضها قدرًا عاليًا من الجماهيرية، ووصول نتاجات عديدة منها إلى الترشيحات النهائية لجوائز "أوسكار" الهوليوودية.

مع ذلك، ظلّت العلاقة فاترة بين المصريين والأفلام الناطقة بلهجة عربية أخرى غير لهجتهم، لأكثر من سبب، أبرزها عدم إتاحة الفرصة للمصريّ لمُشاهدة تلك الأفلام، حتى إنْ أراد ذلك.
من هنا تحديدًا، تأتي أهمية "أيام القاهرة السينمائية"، التي تتبنّاها سينما "زاوية" (المعنية بعرض الأفلام الأوروبية والمستقلّة في مصر) و"شركة مصر العالمية"، والتي بدأت عام 2017، بهدف عرض إنتاجات السينما العربية المميّزة أمام الجمهور المصري.

في دورتها الثانية (23 ـ 30 إبريل/ نيسان 2018)، قدَّمت الـ"أيام" مزيجًا من الأفلام الروائية والوثائقية، الطويلة والقصيرة، من 7 دول عربية، مع رؤى سينمائية مختلفة ومتباينة، رغم أن الهموم والمواضيع تبدو، أحيانًا كثيرة، واحدة.




أحد تلك المواضيع كامنٌ في علاقة صنّاع الأفلام بمدنهم: حنينًا أو غضبًا أو خوفًا، أو محاولة فهم.
الوثائقي اللبناني "بانوبتيك" للمخرجة ومهندسة الصوت رنا عيد، أحد تلك الأفلام التي تدمج علاقة صانعتها بمدينتها بيروت، وبأماكنها الخفية، بما تحمله من تواريخ وأحداث وذكريات مرتبطة بوالدها الراحل، الذي كان ضابطًا في الجيش اللبناني. قبل أسابيع عديدة، لم ينل الفيلم إجازة عرض في "ملتقى بيروت السينمائي"، من قِبَل "جهاز الرقابة على المصنّفات الفنية" (التابع لجهاز أمني لبناني هو "المديرية العامة للأمن العام")، بسبب رفضها حذف مشاهد يظهر فيها رجال أمن، ومحتجزين أجانب في مركز لـ"الأمن العام". غير أن عرضه في "أيام القاهرة السينمائية" لافتٌ للانتباه، ومثيرٌ للجدل والحوار، حول المدينة والذكريات.

منحى مختلف يتخذه الفيلم المصري "سوف تطاردك المدينة" لأحمد نبيل، حيث لا تكون الذكريات الشخصية العنصر المؤسِّس للحكاية، بل شوارع الإسكندرية وجدرانها، في فيلم يحكي عن المباني القديمة التي تتعرّض للهدم، ويتمّ بناء عمارات عالية مكانها، تغيّر في تكوين المكان وشكله إلى الأبد. هذا كلّه عبر شخصيات عديدة يجمع بينها ارتباطها بـ"المكان". يحاول أحمد نبيل تقديم مرثية لمدينة تقترب من الفناء، ساعيًا إلى إبقائها حاضرة في شريطٍ سينمائي.

علاقة ثالثة بالمدينة تتشكّل، في صورة مختلفة، في "طعم الأسمنت" للسوري زياد كلثوم: عمّال سوريون يقومون ببناء ناطحات سحاب في بيروت، ويتابعهم كلثوم، الذي أنجز "الرقيب الخالد" (2014) عن تجربته في الخدمة العسكرية الإلزامية، في بدايات "الثورة السورية". في "طعم الأسمنت"، هناك مدينتان: واحدة تظهر من داخل المباني العالية التي يُحاصَر العمّال فيها، ولا يُسمَح لهم بمغادرتها إلا في أوقات محددة، تبعًا لقانون اللاجئين الذي وضعته الحكومة اللبنانية؛ وأخرى تتابعها كاميرا المخرج وعيون العمّال على شاشات التلفزيون ليلاً، في نشرات إخبارية، بحثًا عن أخبار وطنهم الأم.

أفلام القسم الروائي شملت السؤال المتعلق بالمدينة والمكان أيضًا: مدينة الجزائر في "السعداء" لصوفيا جامة، عن رجل وامرأة يحتفلان بعيد زواجهما الـ20. في طريقهما إلى مكان الاحتفال، يتذكّر كلّ واحد منهما ما يعنيه له هذا المكان. فيلم جزائري روائي آخر هو "طبيعة الحال" لكريم موساوي، يستعرض 3 قصص تدور وتتفاعل في المكان ومعه.

الصلة بالماضي وإعادة تشكيل الذاكرة يُعتبران، هما أيضًا، من المواضيع المتكررة في أفلام "أيام القاهرة السينمائية". مثلٌ أول: "عندي صورة" للمصري محمد زيدان يبحث في سيرة "كومبارس" مصري يُدعى مطاوع عويس، يُقال إنه ظهر في نحو 1000 فيلم سينمائي. من خلال فيلم جديد، يمنح المخرج لمطاوع عويس "دور البطولة الأولى"، وفي الوقت نفسه، هناك بحثٌ آخر موازٍ في الأفلام والشخصيات الهامشية التي قدّمها دائمًا في آخر الـ"كادر" خلف النجوم. في المحصّلة النهائية، يكون المُنتَجُ تجربةً لافتة للانتباه.

في موضوع يتعلّق بالسينما أيضًا، يتجوّل المخرج اللبناني سيسكا "بين هياكل استديو بعلبك" (عنوان الفيلم وحكايته)، حيث يبحث في الأرشيف المفقود أو المُدمَّر للاستديو السينمائي، المؤسَّس عام 1962، وكان الأكبر في المنطقة قبل أن تدمِّره الحرب الأهلية اللبنانية.
أما رائد أنضوني، صانع الأفلام الفلسطيني الذي تعرّض لتجربة الاعتقال في مركز تحقيق تابع للمخابرات الإسرائيلية، فيُعيد خلق ذاكرته الشخصية عن الحدث، في الوثائقي الجديد له "اصطياد أشباح"، مع سرد ذكريات معتقلين سابقين في سجن "المسكوبية" في القدس المحتلّة، جعلهم هم أنفسهم صنّاع الفيلم، محرّضًا إياهم على إعادة "تمثيل" قصصهم وذكرياتهم.

هواجس الأرشيف والذكريات وصلتنا بها تظهر في أفلام روائية مختلفة، كـ"البحث عن أم كلثوم" للإيرانية شيرين نشاط: سرد قصة حياة المطربة المصرية الأشهر، من خلال نقاط التماس التي تجمعها بها هي نفسها، والمتمركزة على كونهما امرأتين في عالمٍ يتحكّم به الرجال.

بتلك الأفلام، وبعشرات أخرى غيرها، بالإضافة إلى الندوات والمحاضرات والنقاشات، تحاول "أيام القاهرة السينمائية" خلق معنى جديد لكلمة "فيلم عربي"، والمساهمة في ربط خبرات صنّاع سينما المنطقة بعضها ببعض، وبتراكمها، وهو أمر سيترك أثرًا كبيرًا في الأعوام المقبلة، مع استمرار المشروع بشكل ناجح.
المساهمون