بين المسرح والإذاعة والموسيقى قضى فارس يواكيم (1945 ــ مصر) عقوداً من حياته، مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات التي شهدها عالم الفنّ.
تنشر "العربي الجديد" كل يوم إثنين مذكّرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين العرب، مستعيداً محطات شخصية ولقاءاته مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس وغيرها من العواصم.
ولد في دمياط (1913) وعاش في القاهرة وتوفي في بيروت (1972). ومن يذكر اسم فطين عبد الوهاب يتذكر أجمل الأفلام الكوميدية في تاريخ السينما المصرية.
وقد ظهرت موهبته الكوميدية منذ ثاني أفلامه كمخرج "جوز الأربعة" وهو من بطولة كمال الشناوي ومديحة يسري. كتب القصة الصحافي علي أمين واشترك فطين عبد الوهاب معه في كتابة السيناريو والحوار. وملخص القصة أن الشاب الثري تزوج بناء على رغبة عمته لكي يفرح الأهل بأولاده. بيد أن الزوجة الأولى تمرض وتصاب بالشلل قبل أن تنجب. وأيضاً إزاء إلحاح عمته يتزوج ثانية، وتصاب الزوجة الجديدة بالشلل أيضاً. كذلك أقعد المرض الزوجتين الثالثة والرابعة. لكن غارة جوية مفاجئة تؤثر صدمتها إيجابياً في الزوجات الأربع فيشفين! وهنا يصبح الشاب في ورطة وهو متزوج من أربع نساء. ولكي يتخلص من المأزق يتظاهر هو بالمرض، فتطلب ثلاث زوجات الطلاق. وحدها الزوجة الأولى تظل وفيّة. وإضافة إلى المواقف الكوميدية تبنّى الفيلم الذي أنتج سنة 1950 فكرة الدفاع عن الزوجة الواحدة.
وفي رصيد المخرج فطين عبد الوهاب سلسلة من الأفلام الكوميدية نذكر منها: "الأستاذة فاطمة" (فاتن حمامة وكمال الشناوي)، و"إشاعة حب" (عمر الشريف وسعاد حسني)، و"الزوجة 13" (شادية ورشدي أباظة)، و"صاحب الجلالة" (فريد شوقي وسميرة أحمد)، و"عيلة زيزي" (سعاد حسني وأحمد رمزي)، و"مراتي مدير عام" (شادية وصلاح ذو الفقار)، و"أرض النفاق" (فؤاد المهندس وشويكار)... إضافة إلى مجموعة من الأفلام التي قام ببطولتها النجم الكوميدي إسماعيل يس، وبلغ عددها 16 فيلماً.
اقــرأ أيضاً
نشأ فطين منير عبد الوهاب في عائلة تهتم بالسينما. أخوه الأكبر سراج منير درس الإخراج في ميونيخ في ألمانيا، لكنه لم يكمل الدراسة وعاد إلى القاهرة واحترف التمثيل وصار النجم المشهور. وأخوه الأوسط حسن عبد الوهاب كان ناقداً سينمائياً ودرس الإخراج في باريس وأخرج أفلاماً روائية وتسجيلية. وكان يملك مكتبة فيها العديد من المؤلفات عن السينما استمتع بقراءتها الشاب فطين. بعد البكالوريا التحق بكلية الزراعة ثم هجرها بعد سنتين إلى كلية الفنون الجميلة ولم يكمل الدراسة فيها أيضاً لأنه كان يرغب في دراسة التصوير وألحقوه بقسم العمارة. عمل في إدارة الجوازات في وزارة الداخلية ثم التحق بالكلية الحربية وتخرج سنة 1939 ضابط احتياط، ثم استقال من الجيش وهو برتبة يوزباشي (نقيب) ليعمل في السينما.
بدأ المشوار سنة 1945 مساعداً لأخيه المخرج حسن عبد الوهاب في فيلم "قلوب دامية" وفي الفيلم ذاته أدّى أخوه سراج منير الدور الرئيسي. ثم اشتغل كمساعد مع مخرجين آخرين: أحمد سالم، حسن الأمام، حسن حلمي، أحمد كامل مرسي.. إلى أن أخرج فطين عبد الوهاب أول أفلامه "نادية" سنة 1949.
روى لي فطين عبد الوهاب أنه كان معجباً بأفلام شارلي شابلن وإرنست لوبيتش وبيلي وايلدر، وهؤلاء هم أبرز مخرجي الأفلام الكوميدية في السينما العالمية. لكنه لم يخطط لنفسه أن يتخصص في هذا اللون. الذي حدث أن فيلمه الثاني كان كوميديا ونجح. وعند تهيئة فيلمه الثالث طلب منه المنتج جبرائيل تلحمي أن يخرج فيلماً يدرّ أرباحاً. ويتذكر فطين عبد الوهاب: "قال لي إذا نجحت فسيترك لي حرية اختيار أفلامي القادمة. أخرجت فيلم "اسماعيل يس في بيت الأشباح". أحضرنا للفيلم غوريلا من لندن. كلف الفيلم 12 ألف جنيه وحقق أرباحاً بلغت 50 ألف جنيه! وكان ذلك سبب إلحاح المنتجين عليّ لأخرج الأفلام الكوميدية". وبالفعل نجح فطين عبد الوهاب في هذا اللون، لكنه حرص على إخراج الكوميديات الراقية.
لقائي الأول بفطين عبد الوهاب كان سنة 1967. جمعني به الصحافي مأمون غريب المحرر في مجلة "آخر ساعة" القاهرية ونشر الحوار بعنوان "لقاء بين جيلين". جيل المخرجين المخضرمين وجيل الشباب من خريجي معهد السينما. بعدها تعززت العلاقة بين المخرج المشهور وبيني. وأخبرني أنه يجتمع مرة في الأسبوع مع ثلاثة سينمائيين في "بار الجمال" في شارع عدلي. قلت له: "اثنان منهم، المخرج حلمي حليم والسيناريست علي الزرقاني، من أساتذتي في معهد السينما وظلت علاقتي بهما جيدة بعد تخرجي، أما الثالث المخرج كمال الشيخ فأنا معجب بأفلامه ويسعدني أن أتعرف عليه". فقال فطين إنه يرحب بحضوري.
سعدت للغاية إذ كنت أجالس أربعة من مشاهير السينما المصرية وأنا في أول مشواري الفني. وفي إحدى الجلسات اكتشفت شخصية الرجل الشهم فطين عبد الوهاب. آنذاك سرى في الوسط السينمائي خبر مفاده أن بعض المنافقين طالبوا بطرد المخرجَيْن حسن الإمام وعلي رضا من نقابة السينمائيين، بذريعة أنهما انتقدا الرئيس عبد الناصر والحكومة. السينمائيون الأربعة استهجنوا مثل هذا الطلب، وعلّق فطين عبد الوهاب قائلاً: "ليس هناك ما يجمعني بحسن الإمام، ولا أنا من أصدقاء علي رضا المقربين، لكن تُقطع يدي ولا أوقع بها قراراً بفصل زميل من النقابة لأنه أبدى رأياً ولو قاسياً".
وكان لقائي المهني الأول مع فطين عبد الوهاب سنة 1971 في فيلم "فندق السعادة" الذي صوّر في بيروت، وهو من بطولة أحمد رمزي وشمس البارودي ونادية الجندي. في السيناريو الأصلي كان هناك دور صغير سوف يُسند إلى نجم الكوميديا اللبناني حسن علاء الدين الشهير بشوشو. وفي بيروت، شاهد المخرج القدير شوشو في مسرحه وأعجب للغاية بأدائه، وقال "حرام نجم زي شوشو يكون له دور صغير.. ده لازم يكون له دور رئيسي". (هنا أكد شهامته مجدداً). وعكف فطين عبد الوهاب على تعديل السيناريو مع جعل دور شوشو رئيسياً يتناسب مع موهبته. وجاء دور كتابة الحوار. كان المطلوب أن تسند المهمة إلى كاتب يتقن اللهجتين المصرية واللبنانية. قال فطين لشوشو: "في شاب درس عندنا في معهد السينما وأنا أعرفه جيداً وهو اللي يصلح لكتابة الحوار". وأجاب شوشو: "هو نفس الشخص اللي أنا فكرت فيه". لم أكن قد تعاونت بعد مع شوشو كاتباً لمسرحياته، لكننا كنا صديقين، نسهر كل ليلة في مقاهي الروشة التي لا تغلق أبوابها ليلاً ونهاراً. شوشو أخبرني بما دار بينه وبين فطين عبد الوهاب بشأن تكليفي كتابة الحوار. واجتمعت مع المخرج والنجم واتفقنا على الخطوط العريضة للعمل. وحجزوا لي غرفة في الفندق واحتجزوني إلى أن أنتهي من كتابة الحوار. وكان ذلك الفيلم مدخلاً للتعاون الدائم بين شوشو وبيني. كما أنه وطّد العلاقة بين فطين عبد الوهاب وشوشو.
بعد نجاح فيلم "فندق السعادة" قرر شوشو أن ينتج فيلما يتولّى فيه دور البطولة أمام نجمة سينمائية مصرية ويكون من إخراج فطين عبد الوهاب. ومن أجل التفاهم على كيفية تنفيذ هذا مشروع جاء فطين إلى بيروت في مطلع مايو/أيار 1972.
تقرر أن يعود فطين عبد الوهاب إلى القاهرة يوم 12 مايو/أيار. وكنت مزمعاً على السفر إلى القاهرة في اليوم ذاته. وكانت خدمة الطيران بين القاهرة وبيروت بمعدل ثلاث رحلات يومياً. كنت سأستقلّ طائرة الصباح وكان فطين سيسافر بالطائرة التي تقلع بعد الظهر. ثم اتفقنا على أن أعدّل موعد رحلتي ونسافر معاً.
جاءني سائق شوشو لكي يوصلني إلى المطار وتوجّه شوشو إلى "فندق مارتينيز" ليصطحب فطين عبد الوهاب. في المطار بحثت عنه فلم أجده بين المسافرين. قلت لعله سبقني فأتممت المعاملات وتوجهت إلى القاعة التي ينتظر فيها المسافرون قبل ركوب الطائرة. أيضا لم يكن فطين عبد الوهاب هناك. قلت إذاً لعله تأخّر، أو لعله يشتري شيئا من السوق الحرّة. نادوا على المسافرين وانتظرت وصوله بين لحظة وأخرى. صعد الجميع إلى الطائرة وأنا أنظر إلى وجوههم ولم أجد المخرج الشهير. تمهلت عند سلم الطائرة وكنت آخر من صعد. بحثت عنه بين ركاب الدرجة الأولى والدرجة السياحية وما وجدته.
في مطار القاهرة سمعت صوتاً منادياً "الأستاذ فطين عبد الوهاب".. اقتربت من الرجل وقلت له "لم يحضر". قال إنه سائق الممثلة الشهيرة نادية لطفي وهي جاءت لتستقبل الأستاذ فطين. أكدت له أنه تخلف عن ركوب الطائرة وأغلب الظن أنه سيأتي في طائرة المساء.
استقبلني الدكتور طريف علاء الدين، شقيق شوشو، وكان مقيماً في القاهرة يدرس الطب. ومن المطار توجهنا مباشرة إلى منزل عائلة جبر وكنا مدعوين لشرب القهوة. كانت الممثلة ناهد جبر موجودة والممثل صلاح ذو الفقار. ثم وصلت الإعلامية والممثلة منى جبر أخت ناهد. قالت: "هناك خبر سيئ. فطين عبد الوهاب مات في بيروت!". قلت: "مستحيل"، قالت: "أنا آتية من جريدة الأهرام، وقد وصل الخبر عند كمال الملاخ أنه مات على سلم الطائرة". رفضت الخبر مجدداً وأكدت لها أنني آخر من صعد إلى الطائرة ولم يكن فطين عبد الوهاب في مطار بيروت. تخلّف عن الحضور. قالت: "إذاً لنذهب إلى كمال الملاخ لأنه سيجعل نبأ وفاة فطين عبد الوهاب الموضوع الرئيسي في صفحته".
كررت القول ذاته في مكتب كمال الملاخ، ونفيت نفياً قاطعاً نبأ وفاته عند سلم الطائرة. وكان أن اتصلنا، بشوشو في بيروت نستطلع منه الخبر اليقين. وكانت المفاجأة: نعم مات فطين عبد الوهاب! لكن في غرفته في الفندق. توفي من جرّاء سكتة قلبية. كان شوشو التقى به وشربا القهوة في بهو الفندق. ثم صعد فطين عبد الوهاب إلى غرفته ليحضر حقيبة يده. وتأخرت عودته. وشعر شوشو بالقلق وصعد إلى الغرفة ومعه مدير الاستقبال مزوداً بالمفتاح العام. وصُعق الاثنان، إذ وجدا المخرج الكبير جثة هامدة بعدما داهمته السكتة ولم تمهل (وما زالت مواقع عدة في شبكة الإنترنت تتناقل نبأ وفاته عند سلم الطائرة).
هزّني النبأ وتملكني الحزن الشديد. أحببت ذلك الفنان القدير والإنسان النبيل، وتأسفت لأن أمير الكوميديا مات ميتة محزنة. ولا أنسى تفصيلاً مذهلاً: رافقت فطين عبد الوهاب إلى "بوتيك" ملابس نسائية في شارع الحمرا في بيروت قبل يومين من رحيله. كان يريد أن يشتري فستاناً يهديه إلى ليلى مراد، زوجته السابقة وأم ولده زكي. المذهل أنه أعجب بفستان أسود، واشتراه.. قال إنه في منتهى "الشياكة" ولم يكن يدري أنها سوف ترتديه حداداً عليه.
سرت مع جموع غفيرة في جنازة فطين عبد الوهاب في القاهرة. والتفتّ فإذا بين المشيعين النجم الكوميدي إسماعيل يس. كان يبكي بحرقة ويولول. صديق العمر ورفيق الدرب قد رحل. مات فطين عبد الوهاب وخلف سبعة وخمسين فيلماً. مات عن عمر ناهز التاسعة والخمسين. ويبدو أن الموت المبكر وراثي في العائلة، فأخوه الممثل سراج منير توفي عن ثلاثة وخمسين عاماً.
وفي رصيد المخرج فطين عبد الوهاب سلسلة من الأفلام الكوميدية نذكر منها: "الأستاذة فاطمة" (فاتن حمامة وكمال الشناوي)، و"إشاعة حب" (عمر الشريف وسعاد حسني)، و"الزوجة 13" (شادية ورشدي أباظة)، و"صاحب الجلالة" (فريد شوقي وسميرة أحمد)، و"عيلة زيزي" (سعاد حسني وأحمد رمزي)، و"مراتي مدير عام" (شادية وصلاح ذو الفقار)، و"أرض النفاق" (فؤاد المهندس وشويكار)... إضافة إلى مجموعة من الأفلام التي قام ببطولتها النجم الكوميدي إسماعيل يس، وبلغ عددها 16 فيلماً.
نشأ فطين منير عبد الوهاب في عائلة تهتم بالسينما. أخوه الأكبر سراج منير درس الإخراج في ميونيخ في ألمانيا، لكنه لم يكمل الدراسة وعاد إلى القاهرة واحترف التمثيل وصار النجم المشهور. وأخوه الأوسط حسن عبد الوهاب كان ناقداً سينمائياً ودرس الإخراج في باريس وأخرج أفلاماً روائية وتسجيلية. وكان يملك مكتبة فيها العديد من المؤلفات عن السينما استمتع بقراءتها الشاب فطين. بعد البكالوريا التحق بكلية الزراعة ثم هجرها بعد سنتين إلى كلية الفنون الجميلة ولم يكمل الدراسة فيها أيضاً لأنه كان يرغب في دراسة التصوير وألحقوه بقسم العمارة. عمل في إدارة الجوازات في وزارة الداخلية ثم التحق بالكلية الحربية وتخرج سنة 1939 ضابط احتياط، ثم استقال من الجيش وهو برتبة يوزباشي (نقيب) ليعمل في السينما.
بدأ المشوار سنة 1945 مساعداً لأخيه المخرج حسن عبد الوهاب في فيلم "قلوب دامية" وفي الفيلم ذاته أدّى أخوه سراج منير الدور الرئيسي. ثم اشتغل كمساعد مع مخرجين آخرين: أحمد سالم، حسن الأمام، حسن حلمي، أحمد كامل مرسي.. إلى أن أخرج فطين عبد الوهاب أول أفلامه "نادية" سنة 1949.
روى لي فطين عبد الوهاب أنه كان معجباً بأفلام شارلي شابلن وإرنست لوبيتش وبيلي وايلدر، وهؤلاء هم أبرز مخرجي الأفلام الكوميدية في السينما العالمية. لكنه لم يخطط لنفسه أن يتخصص في هذا اللون. الذي حدث أن فيلمه الثاني كان كوميديا ونجح. وعند تهيئة فيلمه الثالث طلب منه المنتج جبرائيل تلحمي أن يخرج فيلماً يدرّ أرباحاً. ويتذكر فطين عبد الوهاب: "قال لي إذا نجحت فسيترك لي حرية اختيار أفلامي القادمة. أخرجت فيلم "اسماعيل يس في بيت الأشباح". أحضرنا للفيلم غوريلا من لندن. كلف الفيلم 12 ألف جنيه وحقق أرباحاً بلغت 50 ألف جنيه! وكان ذلك سبب إلحاح المنتجين عليّ لأخرج الأفلام الكوميدية". وبالفعل نجح فطين عبد الوهاب في هذا اللون، لكنه حرص على إخراج الكوميديات الراقية.
لقائي الأول بفطين عبد الوهاب كان سنة 1967. جمعني به الصحافي مأمون غريب المحرر في مجلة "آخر ساعة" القاهرية ونشر الحوار بعنوان "لقاء بين جيلين". جيل المخرجين المخضرمين وجيل الشباب من خريجي معهد السينما. بعدها تعززت العلاقة بين المخرج المشهور وبيني. وأخبرني أنه يجتمع مرة في الأسبوع مع ثلاثة سينمائيين في "بار الجمال" في شارع عدلي. قلت له: "اثنان منهم، المخرج حلمي حليم والسيناريست علي الزرقاني، من أساتذتي في معهد السينما وظلت علاقتي بهما جيدة بعد تخرجي، أما الثالث المخرج كمال الشيخ فأنا معجب بأفلامه ويسعدني أن أتعرف عليه". فقال فطين إنه يرحب بحضوري.
سعدت للغاية إذ كنت أجالس أربعة من مشاهير السينما المصرية وأنا في أول مشواري الفني. وفي إحدى الجلسات اكتشفت شخصية الرجل الشهم فطين عبد الوهاب. آنذاك سرى في الوسط السينمائي خبر مفاده أن بعض المنافقين طالبوا بطرد المخرجَيْن حسن الإمام وعلي رضا من نقابة السينمائيين، بذريعة أنهما انتقدا الرئيس عبد الناصر والحكومة. السينمائيون الأربعة استهجنوا مثل هذا الطلب، وعلّق فطين عبد الوهاب قائلاً: "ليس هناك ما يجمعني بحسن الإمام، ولا أنا من أصدقاء علي رضا المقربين، لكن تُقطع يدي ولا أوقع بها قراراً بفصل زميل من النقابة لأنه أبدى رأياً ولو قاسياً".
وكان لقائي المهني الأول مع فطين عبد الوهاب سنة 1971 في فيلم "فندق السعادة" الذي صوّر في بيروت، وهو من بطولة أحمد رمزي وشمس البارودي ونادية الجندي. في السيناريو الأصلي كان هناك دور صغير سوف يُسند إلى نجم الكوميديا اللبناني حسن علاء الدين الشهير بشوشو. وفي بيروت، شاهد المخرج القدير شوشو في مسرحه وأعجب للغاية بأدائه، وقال "حرام نجم زي شوشو يكون له دور صغير.. ده لازم يكون له دور رئيسي". (هنا أكد شهامته مجدداً). وعكف فطين عبد الوهاب على تعديل السيناريو مع جعل دور شوشو رئيسياً يتناسب مع موهبته. وجاء دور كتابة الحوار. كان المطلوب أن تسند المهمة إلى كاتب يتقن اللهجتين المصرية واللبنانية. قال فطين لشوشو: "في شاب درس عندنا في معهد السينما وأنا أعرفه جيداً وهو اللي يصلح لكتابة الحوار". وأجاب شوشو: "هو نفس الشخص اللي أنا فكرت فيه". لم أكن قد تعاونت بعد مع شوشو كاتباً لمسرحياته، لكننا كنا صديقين، نسهر كل ليلة في مقاهي الروشة التي لا تغلق أبوابها ليلاً ونهاراً. شوشو أخبرني بما دار بينه وبين فطين عبد الوهاب بشأن تكليفي كتابة الحوار. واجتمعت مع المخرج والنجم واتفقنا على الخطوط العريضة للعمل. وحجزوا لي غرفة في الفندق واحتجزوني إلى أن أنتهي من كتابة الحوار. وكان ذلك الفيلم مدخلاً للتعاون الدائم بين شوشو وبيني. كما أنه وطّد العلاقة بين فطين عبد الوهاب وشوشو.
بعد نجاح فيلم "فندق السعادة" قرر شوشو أن ينتج فيلما يتولّى فيه دور البطولة أمام نجمة سينمائية مصرية ويكون من إخراج فطين عبد الوهاب. ومن أجل التفاهم على كيفية تنفيذ هذا مشروع جاء فطين إلى بيروت في مطلع مايو/أيار 1972.
تقرر أن يعود فطين عبد الوهاب إلى القاهرة يوم 12 مايو/أيار. وكنت مزمعاً على السفر إلى القاهرة في اليوم ذاته. وكانت خدمة الطيران بين القاهرة وبيروت بمعدل ثلاث رحلات يومياً. كنت سأستقلّ طائرة الصباح وكان فطين سيسافر بالطائرة التي تقلع بعد الظهر. ثم اتفقنا على أن أعدّل موعد رحلتي ونسافر معاً.
جاءني سائق شوشو لكي يوصلني إلى المطار وتوجّه شوشو إلى "فندق مارتينيز" ليصطحب فطين عبد الوهاب. في المطار بحثت عنه فلم أجده بين المسافرين. قلت لعله سبقني فأتممت المعاملات وتوجهت إلى القاعة التي ينتظر فيها المسافرون قبل ركوب الطائرة. أيضا لم يكن فطين عبد الوهاب هناك. قلت إذاً لعله تأخّر، أو لعله يشتري شيئا من السوق الحرّة. نادوا على المسافرين وانتظرت وصوله بين لحظة وأخرى. صعد الجميع إلى الطائرة وأنا أنظر إلى وجوههم ولم أجد المخرج الشهير. تمهلت عند سلم الطائرة وكنت آخر من صعد. بحثت عنه بين ركاب الدرجة الأولى والدرجة السياحية وما وجدته.
في مطار القاهرة سمعت صوتاً منادياً "الأستاذ فطين عبد الوهاب".. اقتربت من الرجل وقلت له "لم يحضر". قال إنه سائق الممثلة الشهيرة نادية لطفي وهي جاءت لتستقبل الأستاذ فطين. أكدت له أنه تخلف عن ركوب الطائرة وأغلب الظن أنه سيأتي في طائرة المساء.
استقبلني الدكتور طريف علاء الدين، شقيق شوشو، وكان مقيماً في القاهرة يدرس الطب. ومن المطار توجهنا مباشرة إلى منزل عائلة جبر وكنا مدعوين لشرب القهوة. كانت الممثلة ناهد جبر موجودة والممثل صلاح ذو الفقار. ثم وصلت الإعلامية والممثلة منى جبر أخت ناهد. قالت: "هناك خبر سيئ. فطين عبد الوهاب مات في بيروت!". قلت: "مستحيل"، قالت: "أنا آتية من جريدة الأهرام، وقد وصل الخبر عند كمال الملاخ أنه مات على سلم الطائرة". رفضت الخبر مجدداً وأكدت لها أنني آخر من صعد إلى الطائرة ولم يكن فطين عبد الوهاب في مطار بيروت. تخلّف عن الحضور. قالت: "إذاً لنذهب إلى كمال الملاخ لأنه سيجعل نبأ وفاة فطين عبد الوهاب الموضوع الرئيسي في صفحته".
كررت القول ذاته في مكتب كمال الملاخ، ونفيت نفياً قاطعاً نبأ وفاته عند سلم الطائرة. وكان أن اتصلنا، بشوشو في بيروت نستطلع منه الخبر اليقين. وكانت المفاجأة: نعم مات فطين عبد الوهاب! لكن في غرفته في الفندق. توفي من جرّاء سكتة قلبية. كان شوشو التقى به وشربا القهوة في بهو الفندق. ثم صعد فطين عبد الوهاب إلى غرفته ليحضر حقيبة يده. وتأخرت عودته. وشعر شوشو بالقلق وصعد إلى الغرفة ومعه مدير الاستقبال مزوداً بالمفتاح العام. وصُعق الاثنان، إذ وجدا المخرج الكبير جثة هامدة بعدما داهمته السكتة ولم تمهل (وما زالت مواقع عدة في شبكة الإنترنت تتناقل نبأ وفاته عند سلم الطائرة).
هزّني النبأ وتملكني الحزن الشديد. أحببت ذلك الفنان القدير والإنسان النبيل، وتأسفت لأن أمير الكوميديا مات ميتة محزنة. ولا أنسى تفصيلاً مذهلاً: رافقت فطين عبد الوهاب إلى "بوتيك" ملابس نسائية في شارع الحمرا في بيروت قبل يومين من رحيله. كان يريد أن يشتري فستاناً يهديه إلى ليلى مراد، زوجته السابقة وأم ولده زكي. المذهل أنه أعجب بفستان أسود، واشتراه.. قال إنه في منتهى "الشياكة" ولم يكن يدري أنها سوف ترتديه حداداً عليه.
سرت مع جموع غفيرة في جنازة فطين عبد الوهاب في القاهرة. والتفتّ فإذا بين المشيعين النجم الكوميدي إسماعيل يس. كان يبكي بحرقة ويولول. صديق العمر ورفيق الدرب قد رحل. مات فطين عبد الوهاب وخلف سبعة وخمسين فيلماً. مات عن عمر ناهز التاسعة والخمسين. ويبدو أن الموت المبكر وراثي في العائلة، فأخوه الممثل سراج منير توفي عن ثلاثة وخمسين عاماً.