"نوتردام": رواية مكتوبة بصُوَر سينمائية

19 ابريل 2019
جينا لولوبريجيدا: أجمل أداء لأروع شخصية (فيسبوك)
+ الخط -
تمتلك رواية "نوتردام دو باري" (1831)، للكاتب الفرنسي فكتور هوغو (1802 ـ 1885)، مفرداتٍ سينمائية عديدة، تتمثّل في أوصافٍ تبدأ بالنفس البشرية وانفعالاتها وعلاقاتها وأحوالها ومساراتها، وتتجوّل في أروقة الكاتدرائية الأعرق والأجمل، المحتاجة إلى سنين مديدة لاكتمال تشييدها (1163 ـ 1345)، والمعرّضة، ليلة 15 ـ 16 إبريل/ نيسان 2019، لحريق يلتهم قبّتها، بسبب أعمال الترميم. أوصاف تعكس عينًا سينمائية لروائيّ منخرط في تشريح الذات الفردية، وارتباطاتها بمحيطين بها، وإقامتها في بيئات مرتبكة ومكافحة وعصيّة على الخراب المطلق. 

وإذْ تتوغّل "البؤساء" (1862)، إحدى أشهر روايات هوغو إلى جانب "نوتردام دو باري"، في بشاعة الحياة اليومية وتمزّقاتها وأهوالها، فإنّ قصّة الحبّ الرائعة بين الأحدب كوازيمودو والآسرة إسمِرالدا، بين أروقة الكاتدرائية وبهاء ديكوراتها وجمال دهاليزها وقسوة سطوتها وقوّة سلطتها، تبقى انعكاسًا بهيًّا لمعالم الخيبة والتسلّط والتحصّن بالمؤسّسة الدينية المسيحية لإخفاء شهواتٍ، لن تكون السلطة إحداها فقط، بل غرائز الجسد والروح أيضًا.

هذا كلّه دافعٌ إلى ابتكار أشكال سينمائية مختلفة، وأعمال فنية بعضها منتمٍ إلى الكوميديا الموسيقية. الفن السابع أقدر على التوافق مع النصّ الأصلي، لامتلاك النصّ مساحات واسعة من جماليات السرد، المتمكّنة من تحويل الكلمات إلى صُوَر، بعضها يُعمِّر في ذاكرة ووجدان. وإذْ يُخفي ترداد العناوين السينمائية جمالية بعضها، فإنّ "أحدب نوتردام" (1956) لجان دولانوا أبرز الأفلام المُعانِدة للقدر والنسيان، جاعلاً الأداء التمثيلي للثنائي أنتوني كوين وجينا لولوبريجيدا درسًا في تحويل تعقيدات الشخصية إلى سلاسة تمثيل يحمل في طياته رغباتٍ وخرابًا وتصدّيًا للانكسار. كما تبرز اللوحات الفنية المتنوّعة، التي تساهم في سرد الحكاية، كأنّ الحكاية نفسها غير قابلة للاكتمال من دون التمدّد الجماليّ في فنون وتصوّرات وهواجس.



لن تبقى قصّة الحبّ بين الأحدب والبهيّة مجرّد علاقة انفعالية بين بشعٍ بقلبٍ رقيق وكلمات ساحرة، وراقصة غجرية تُشعل قلوب رجال يتساقطون أمام جمالها القاتل، ويتصارعون من أجل اكتساب من لن يبلغوه أبدًا. فـ"أحدب نوتدرام" يُفكِّك بناءً بشريًا ومؤسّساتيًا، يظهر متينًا ومتماسكًا، لكنه ينكشف عن شهوات متأجّجة، وسلطات غير محدودة البطش والتسلّط، ورغبات مكبوتة. فالشهوة قابلة لتحطيم كلّ من يحول دون إتمام متطلباتها، من دون رحمة؛ والسلطات تتيح للشهوة تفجير مكبوتاتها في الاتّجاهات كلّها، لفشلها الذريع في الحصول على المُراد. أما الرغبات، فتقود الواقعين فيها إلى نهايات مفتوحة على المَواجع والتمزّقات. وهذا غير محصور في الكاتدرائية ورمزها الديني ومؤسّساتها الصلبة فقط.

هذا كلّه مكتوبٌ في رواية لها لغة تكشف المبطّن وتتحايل على المستور لفضحهما، بأسلوبٍ سلسٍ يُحرِّض على قراءة ممتعة رغم الأهوال والمصائب والتحدّيات. وهذا نفسه يبرز جلياً في النسخة السينمائية لجان دولانوا. كما أنه يتفلّت من قيود التمثيل والشخصيات الحقيقية والأمكنة الواقعية، كي ينسلّ على الشاشة الكبيرة في فيلمِ تحريكٍ، يحمل الرقم 34 في لائحة "أفلام كلاسيكيات التحريك"، الخاصّة بـ"استديو ديزني"، وهو لغاري تراوسدِل وكيرك وايز. الإضافة الجمالية منبثقة من ألوانٍ وفضاءات تختلف عن أفلام أخرى، كأنّ الحساسية الطفولية تتمدّد في مسارات الحبكة والشخصيات، من دون أن يُحاصَر الفيلم، المُنجز عام 1996، في نوعٍ واحد. فهنا أيضًا يُصبح لانفعالٍ ـ متأتٍ من صدام المشاعر والرغبات والأمزجة والسلطات ـ مناخ بصري يُساهم في بلورة التفاصيل والهوامش والمتن معًا.

يستحيل اختزال النسخ السينمائية، والموسيقية والاستعراضية العديدة، المستلّة من رواية فكتور هوغو. التنوّع كبير. الأساليب مختلفة. المعالجات مثيرة لبحثٍ يتجاوز تذكّر عناوين في مناسبة مأسوية، ستخرج الكاتدرائية منها بعزيمةٍ أقوى لاستعادة مكانتها في التاريخ والاجتماع والعمارة والرمز والمعنى. وإذْ تُبهر جينا لولوبريجيدا في مزيج السحر الغجريّ لإسمِرالدا بحضورها الأنثوي المتفجّر حبًّا ومواجهة وتحدّيًا؛ فإن سلمى حايك تحاول اللحاق بها في تأدية الدور نفسه، في فيلم تلفزيوني (نيوزيلندا، 1997) لبيتر مِداك. محاولة لن تتمكّن من أن تتساوى معها في التمثيل، فلولوبريجيدا أعمق سحرًا وأبهى حضورًا من حايك.
المساهمون