لعبت السينما دوراً كبيراً في تنمية المخيال الثقافي لدى الشعب المغربي، منذ الاستقلال إلى اليوم، رغم الجدل المخيف الذي رافق هذا الفنّ في المغرب، وقبله مفهوم الصورة، من فقهاء مغاربة أصدروا فتاوى كثيرة تُحرّم تداول الصورة في المجتمع، بكافة متخيلها. عندها، بدا المغرب أقرب إلى دولة محافظة تحرّم الصورة.
للسلطان المغربي مولاي عبد العزيز (1878 ـ 1943)، حاكم البلد، شغفٌ مذهل بالصورة وعوالمها، رسماً وتصويراً فوتوغرافياً، ما جعله يبحث عن معلّمٍ متمكّن من الفنّ الفوتوغرافي وتقنياته، فعَلِم المصوّر الفرنسي غابريال فير بالأمر، وأصبح مصوّر السلطان اليافع المندفع إلى الصورة ومكنوناتها الجمالية. تمّ إرساء وبلورة معالم حداثة بصرية باكرة حينها. لكن النقاش المحموم عند الفقهاء حول جدوى الصورة وتحريمها استمرّ لغاية الاستقلال، إذْ تمّ تكريسه من حركات سلفية آنذاك، ما أبرز تناقضاً كبيراً ظلّ يتأرجح حوله المغرب، بين عشق السلطان للتصوير الفوتوغرافيّ والسينماتوغراف، وفتنة مخرجين أجانب كبار بهذا البلد، جاعلين إياه فضاءً متخيّلاً في أعمالهم السينمائية؛ وبين مجتمع رعوي وفقهي متقهقر البنية الفكرية والتخييلية.
نقاش كهذا لم يعمر طويلاً بعد الاستقلال، إذْ تلاشت هذه الصورة بمساهمة كتّاب ستينيات القرن الـ20 وسبعينياته في دحضه والتغلّب عليه، لحظة بداية نشوء سينما مغربية وطنية متحرّرة من الرؤية الكولونيالية، فأطلق العنان للجسد ومتخيّله وكافة مكبوتاته، خاصة أنّ ملامح الهوية السينمائية المغربية تبدّت، شيئاً فشيئاً، مقارنة بأعمال السينما الكولونيالية أو الاستعمارية، العاملة على تسويغ أفكار جيش الاحتلال، والدفاع عن حقوقه ومطالبه في المغرب، مقابل إظهار الآخر (المغربي) متوحّشاً وجاهلاً ومنتمياً إلى ثقافة المغلوب على أمرهم، وغيرها من توصيفات القدح، والتي لجأت إليها أفلامٌ لتعزيز وإذكاء الدور الذي تلعبه فرنسا للمغرب على خلفية الأطروحة الرائجة، التي حاولت أدبيات ماركسية فرضها، في كون الاستعمار شكلاً من أشكال تحديث الشعوب.
مع ذلك، ظلّ المغرب منذ مطلع القرن العشرين، أفقاً تخييلياً لمخرجين أجانب، أحبّ بعضهم البلد وأهله ومؤسّساته السينمائية، بسبب الدعم المقدّم إليه، وأيضاً بحكم جغرافيته المتنوّعة، وثرواته الطبيعية الساحرة، التي جعلته "إكسسواراً" للقطات ومَشاهد، خاصة للأفلام الجديدة، المتحرّرة، إلى حدّ ما، من الرؤية الاستشراقية، ومن أحكام القيمة تجاه المجتمع المغربي وأفراده، مقارنة بالأفلام الأجنبية الأولى، الصريحة في نقدها اللاذع للمجتمع، وإبراز ضعفه وغرائبيته لدى الأوروبيّ، بسبب القحط والمجاعة، وهشاشة البنى التحتية، وتقليدية المجتمع، ونمط عيشه.
لم يقتصر الأمر على المغرب فقط، لأنّه كان صورة مصغّرة عن سينما كولونيالية للدول المغاربية، بدرجات مختلفة من المعالجة السينمائية والنقد، فهي تلتقي حول صورة الـ"غرائبية"، التي حاولت حفرها في ذاكرة الإنسان الأوروبي منذ القرن التاسع عشر، مع رحلات فنانين وإثنوغرافيين أجانب، مهّدوا للاستيطان (شكل من أشكال الاستعمار) خطّته وأجنداته السياسية، ما جعل المخيّلة الغربية تنسج أفكاراً غريبة حول دول المغرب العربي، التي تتبدّى سريعاً في منجزات فيلموغرافية غربية، كالصحراء والرعاة والأمراض المعضلة والخيمة، وغيرها من الأشياء التي تضمر أبعاداً إثنوغرافية تختزنها الصورة السينمائية، وتتسرّب من دون وعي في مَشاهد وجمل، تؤكّد استمرار هذا البعد العجائبي في المخيال الغربي.
المتتبع للفيلموغرافيا الأجنبية، المُصوّرة في المغرب، ينبهر أمام فتنة المغرب التي يمارسها على مخرجين أجانب لتصوير أعمالٍ لهم فيه، مقارنة ببلدان مغاربية أخرى، كفضاء للتخييل والمغامرة السينمائية. لكن العملية لا تخلو من براءة، لأنها تتطلّب فحصاً دقيقاً ومعاينة دائمة.
لذا، يمكن تقسيم المغرب في المنتوج السينمائي الأجنبي إلى ثلاثة أنماط مختلفة ومتباينة من التصوير:
أولاً، أفلامٌ شكّل المغرب تصويراً وموضوعاً وخلفية واقعية وتاريخية بشكل كامل، كـ"كازابلانكا" (1942) للأميركي مايكل كورتيز مثلاً.
ثانياً: المغرب باعتباره مجرّد لقطات عابرة صغيرة ومركّزة، كما في Spy Game، الذي أخرجه توني سكوت عام 2001 (تمثيل روبرت ريدفورد وبراد بيت)، الذي صُوِّر في المغرب صدفة، بعد الانتقال من حيفا إثر اندلاع الانتفاضة الفلسطينية إلى الدار البيضاء، كبديل عن بيروت ثمانينيات القرن الـ20؛ و"ألكسندر" (2004) لأوليفر ستون (تمثيل كولن فاريل وجاريد ليتو وأنجيلينا جولي)، والجزء الخامس من "مهمة: مستحيلة"، بعنوان Rogue Nation الذي أخرجه كريستوفر ماك كاري عام 2015 (تمثيل توم كروز وريبيكا فيرغسون)، الذي وضع الحدث في المغرب ولدى وسائل الإعلام، متسبّباً في إغلاق الطريق السريعة نحو مراكش نصف شهر، بإيعاز من جهات رسمية (هناك أفلام أجنبية أخرى أيضاً تندرج في هذا السياق).
اقــرأ أيضاً
للسلطان المغربي مولاي عبد العزيز (1878 ـ 1943)، حاكم البلد، شغفٌ مذهل بالصورة وعوالمها، رسماً وتصويراً فوتوغرافياً، ما جعله يبحث عن معلّمٍ متمكّن من الفنّ الفوتوغرافي وتقنياته، فعَلِم المصوّر الفرنسي غابريال فير بالأمر، وأصبح مصوّر السلطان اليافع المندفع إلى الصورة ومكنوناتها الجمالية. تمّ إرساء وبلورة معالم حداثة بصرية باكرة حينها. لكن النقاش المحموم عند الفقهاء حول جدوى الصورة وتحريمها استمرّ لغاية الاستقلال، إذْ تمّ تكريسه من حركات سلفية آنذاك، ما أبرز تناقضاً كبيراً ظلّ يتأرجح حوله المغرب، بين عشق السلطان للتصوير الفوتوغرافيّ والسينماتوغراف، وفتنة مخرجين أجانب كبار بهذا البلد، جاعلين إياه فضاءً متخيّلاً في أعمالهم السينمائية؛ وبين مجتمع رعوي وفقهي متقهقر البنية الفكرية والتخييلية.
نقاش كهذا لم يعمر طويلاً بعد الاستقلال، إذْ تلاشت هذه الصورة بمساهمة كتّاب ستينيات القرن الـ20 وسبعينياته في دحضه والتغلّب عليه، لحظة بداية نشوء سينما مغربية وطنية متحرّرة من الرؤية الكولونيالية، فأطلق العنان للجسد ومتخيّله وكافة مكبوتاته، خاصة أنّ ملامح الهوية السينمائية المغربية تبدّت، شيئاً فشيئاً، مقارنة بأعمال السينما الكولونيالية أو الاستعمارية، العاملة على تسويغ أفكار جيش الاحتلال، والدفاع عن حقوقه ومطالبه في المغرب، مقابل إظهار الآخر (المغربي) متوحّشاً وجاهلاً ومنتمياً إلى ثقافة المغلوب على أمرهم، وغيرها من توصيفات القدح، والتي لجأت إليها أفلامٌ لتعزيز وإذكاء الدور الذي تلعبه فرنسا للمغرب على خلفية الأطروحة الرائجة، التي حاولت أدبيات ماركسية فرضها، في كون الاستعمار شكلاً من أشكال تحديث الشعوب.
مع ذلك، ظلّ المغرب منذ مطلع القرن العشرين، أفقاً تخييلياً لمخرجين أجانب، أحبّ بعضهم البلد وأهله ومؤسّساته السينمائية، بسبب الدعم المقدّم إليه، وأيضاً بحكم جغرافيته المتنوّعة، وثرواته الطبيعية الساحرة، التي جعلته "إكسسواراً" للقطات ومَشاهد، خاصة للأفلام الجديدة، المتحرّرة، إلى حدّ ما، من الرؤية الاستشراقية، ومن أحكام القيمة تجاه المجتمع المغربي وأفراده، مقارنة بالأفلام الأجنبية الأولى، الصريحة في نقدها اللاذع للمجتمع، وإبراز ضعفه وغرائبيته لدى الأوروبيّ، بسبب القحط والمجاعة، وهشاشة البنى التحتية، وتقليدية المجتمع، ونمط عيشه.
لم يقتصر الأمر على المغرب فقط، لأنّه كان صورة مصغّرة عن سينما كولونيالية للدول المغاربية، بدرجات مختلفة من المعالجة السينمائية والنقد، فهي تلتقي حول صورة الـ"غرائبية"، التي حاولت حفرها في ذاكرة الإنسان الأوروبي منذ القرن التاسع عشر، مع رحلات فنانين وإثنوغرافيين أجانب، مهّدوا للاستيطان (شكل من أشكال الاستعمار) خطّته وأجنداته السياسية، ما جعل المخيّلة الغربية تنسج أفكاراً غريبة حول دول المغرب العربي، التي تتبدّى سريعاً في منجزات فيلموغرافية غربية، كالصحراء والرعاة والأمراض المعضلة والخيمة، وغيرها من الأشياء التي تضمر أبعاداً إثنوغرافية تختزنها الصورة السينمائية، وتتسرّب من دون وعي في مَشاهد وجمل، تؤكّد استمرار هذا البعد العجائبي في المخيال الغربي.
المتتبع للفيلموغرافيا الأجنبية، المُصوّرة في المغرب، ينبهر أمام فتنة المغرب التي يمارسها على مخرجين أجانب لتصوير أعمالٍ لهم فيه، مقارنة ببلدان مغاربية أخرى، كفضاء للتخييل والمغامرة السينمائية. لكن العملية لا تخلو من براءة، لأنها تتطلّب فحصاً دقيقاً ومعاينة دائمة.
لذا، يمكن تقسيم المغرب في المنتوج السينمائي الأجنبي إلى ثلاثة أنماط مختلفة ومتباينة من التصوير:
أولاً، أفلامٌ شكّل المغرب تصويراً وموضوعاً وخلفية واقعية وتاريخية بشكل كامل، كـ"كازابلانكا" (1942) للأميركي مايكل كورتيز مثلاً.
ثانياً: المغرب باعتباره مجرّد لقطات عابرة صغيرة ومركّزة، كما في Spy Game، الذي أخرجه توني سكوت عام 2001 (تمثيل روبرت ريدفورد وبراد بيت)، الذي صُوِّر في المغرب صدفة، بعد الانتقال من حيفا إثر اندلاع الانتفاضة الفلسطينية إلى الدار البيضاء، كبديل عن بيروت ثمانينيات القرن الـ20؛ و"ألكسندر" (2004) لأوليفر ستون (تمثيل كولن فاريل وجاريد ليتو وأنجيلينا جولي)، والجزء الخامس من "مهمة: مستحيلة"، بعنوان Rogue Nation الذي أخرجه كريستوفر ماك كاري عام 2015 (تمثيل توم كروز وريبيكا فيرغسون)، الذي وضع الحدث في المغرب ولدى وسائل الإعلام، متسبّباً في إغلاق الطريق السريعة نحو مراكش نصف شهر، بإيعاز من جهات رسمية (هناك أفلام أجنبية أخرى أيضاً تندرج في هذا السياق).
ثالثاً: إكسسوار طبيعي، وهذا استفحل كثيراً في المنجز الأجنبي، متمثّلاً في مدينة ورزازات، التي شكّلت ثرواتها الطبيعية ومناخها الصحراوي الجاف أفقاً سينمائياً للعديد من الأفلام، كـ"لورانس العرب" (1962) لديفيد لين (تمثيل بيتر أوتول وعمر الشريف)، و"المومياء" (1999) لستيفن سومرز (تمثيل براندن فريرز ورايتشل وايز)، و"غلادييتور" (2000) لريدلي سكوت، الحائز على 5 جوائز "أوسكار"، بينها أفضل فيلم وأفضل ممثل لراسل كرو. هذا نمط استثمر المغرب فيه كثيراً، بإنجاز ما سُمّي بـ"قرية السينما" في "ورزازات"، على مساحة 200 هكتار، كاستراتيجية للنهوض بالشأن السينمائي في المنطقة الواقعة في تخوم الجبال، التي تشهد بؤساً وتردّي الحال الاقتصادية، ما انعكس سلباً على اليد العاملة لسكان المنطقة، التي تنتظر يومياً قافلات سينمائية أجنبية، تمنح المدينة رواجاً اقتصادياً، بسبب هذه الأفلام، إذْ يشتغل كثيرون ككومبارس، بالإضافة إلى عدة استديوهات لتصوير أفلام أجنبية.