منى أسعد "في ستوديو مصر": سينما تروي حكاية السينما

17 ديسمبر 2018
منى أسعد "في ستوديو مصر" (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
تُحيك المصرية منى أسعد (1956) فيلمها الوثائقي "في ستوديو مصر" (2018، 95 دقيقة) كمن يصنع تُحفةً فنية، تزخر بالتفاصيل الدقيقة ووفرة المعلومات والحكايات، من دون ملل أو ثرثرة أو تصنّع. السلاسة حاضرة. البساطة في سرد النصّ بصريًا جزءٌ أساسيّ من البناء الدراميّ لوثائقيّ يروي سيرة ستوديو وبلد وصناعة واقتصاد وثقافة وسلوك، عبر قصّة 4 مغامرين يريدون إعادة النبض الحياتي لستوديو يُعتبر الأعرق والأشهر والأبرز في تاريخ السينما المصرية، وفي تاريخ البلد وتحوّلاته. 4 مغامرين يمتلكون من شغفِ السينما ما يُعينهم على مواجهة أقسى التحدّيات والمواجع، رغم الاهتراء المخيف في البنى الرسمية لسلطة غير آبهة بالستوديو ومعناه (وبأمور كثيرة أخرى أيضًا)، وغير مُدركة حجم الموقع المصنوع بفضل الستوديو على مستوى الصناعة السينمائية، وغير عالِمةٍ بمقتنيات "مؤسّسة" مضمومة إليها بقرارات تأميم ناصرية. 

منى أسعد منضمّة إلى المغامرين الـ3 في تجربة تكشف حجم الفساد والبيروقراطية الراهنة (منذ عام 2000 تحديدًا، مع بداية المغامرة)، وتستعيد ألق تاريخ منصرم، وبهاء صناعة تعاني ارتباكات شتّى لكنها تُنجز جماليات راسخة في الوجدان والذاكرة العربيين. مع كريم جمال الدين وحاتم طه وعلي مراد (شركة "إلكسير")، تغوص أسعد في تأريخ المغامرة سينمائيًا، فتوثِّق ـ بمعلومات ووثائق وصُور وأفلام وتعليقات عاملين وعارفين ـ تاريخًا غنيًّا من الإنجازات، المعطَّلة بسبب جهلٍ يُصاب به منقلبون على حكم ملكيّ (1952)، أو ربما بسبب "فائض القوّة"، الشعبية والسياسية والعسكرية، المؤدّي إلى احتكار المسؤوليات من قبل غير فاهمين بها وغير متمكّنين من أدواتها.

4 مغامرين يواجهون صلابة الخلل والاهتراء، ويعمدون إلى إحياء ستوديو أعوامًا عديدة، رغم نكران السلطة لأهمية صناعة كهذه، كأن يقول الرئيس (المخلوع لاحقًا) حسني مبارك إنه يمكن مشاهدة الأفلام عبر الشاشة التلفزيونية، كنموذجٍ حيّ للخواء الثقافي والمعرفي والأخلاقي للسلطة، ولسخريتها من السينما وصناعتها.



كثرة المعلومات لن تحول دون متعة المُشاهدة. وفرة المعطيات لن تمنع جماليات السرد ـ رغم قسوة المضمون الحكائيّ ـ من متابعة "في ستوديو مصر" بدقائقه وحذافيره وهوامشه ومتنه وفضائه، هو المتجوّل بين أزمنة وأفلام، وهو الذي يلتقي عاملين فيه وعارفين به وبتاريخه وراهنه. متابعة مسكونة بعشق لن يمنع العاشقين من التنبّه إلى وقائع ومطبّات ومعوقات، إلى درجة أن حاتم طه سيُهاجر إلى نيوزيلاندا عام 2014، والآخرون عاجزون ـ بشكلٍ أو بآخر ـ عن الاستمرار في مهامهم، رغم حيوية العمل السابق لـ"ثورة 25 يناير" (2011)، التي تؤدّي إفرازاتها السلبية والانقلابات عليها إلى تعطيل الستوديو. حيوية متمثّلة بأرقام تُقدِّمها منى أسعد في سياق السرد: 181 فيلمًا في إطار خدمات التحميض والطبع في معمل "ستوديو مصر" بين عامي 2004 و2015؛ 170 فيلمًا في إطار أعمال الصوت بين عامي 2004 و2015؛ 96 فيلمًا في إطار المونتاج بين عامي 2003 و2014؛ 243 فيلمًا تمّ تصويرها في الستوديو بين عامي 2000 و2015؛ إنتاج الوثائقي "البنات دول" (2006) لتهاني راشد، المعروض خارج المسابقة الرسمية للدورة الـ59 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2006) لمهرجان "كانّ"، وهو بداية الانطلاقة الكبيرة للستوديو في مرحلة المغامرة الجديدة؛ وإنتاج فيلم روائي طويل واحد بعنوان "إحنا اتقابلنا قبل كده" (2008)، وهو أول إخراج لهشام الشافعي، وأول كتابة سينمائية لنادين شمس، وأول دور بطولة لآسر ياسين.

ورغم أن آخر فيلمٍ يُصنع في "ستوديو مصر"، وهو "سكّر مر" لهاني خليفة، كان عام 2015، إلا أن تاريخه الحديث مليء باختبارات جمّة على مستوى صناعة الديكورات الداخلية: "عندما تكون في الستوديو، كلّ ركن فيه يُسفِّرك (إلى) بلاد"، تقول منى أسعد في تعليقها الصوتيّ، أثناء سرد أبرز الديكورات الداخلية: حارة "دم الغزال" (2005) لمحمد ياسين، مبنية على يديّ عادل المغربي. تقول أسعد إنها شاهدةٌ على "أكبر ديكور في الستوديو"، وهو عبارة عن حيّ كامل لـ"إبراهيم الأبيض" (2009) لمروان حامد، مصنوع بحرفية أنسي أبو سيف: "بنى المقطَّم داخل الستوديو". هناك أيضًا "هي فوضى" (2007) ليوسف شاهين وخالد يوسف، الذي يتضمّن ديكورًا كبيرًا للسجن لصانعه حامد حمدان.

رغم هذا كلّه، فإنّ المآزق كثيرة. البيروقراطية أحدها، والوضع العام أيضًا. لقطات مختلفة توثِّق لقاءات بين طرفين متناقضين: مغامرون يتعاملون بواقعية شديدة (وحماسة كبيرة للسينما) مع المسألة، وموظّفون رسميون يتعاملون بمنطق سلطوي مهترئ. لن تكون ملاحظة الناقد السينمائي الراحل سمير فريد عابرة، إذْ يقول إنّ هناك 200 ألف موظّف حكومي عام 1952، سيرتفع عددهم إلى 7 ملايين عام 2015: "هذا العبث نعيش نتائجه. هناك عجز وخوف من الخروج منه لا بعد ثورة ولا بعد ثورتين". وهذا منعكس في سلوك الإدارة الرسمية، التي تُعلن خصخصة مؤسّساتها، ما يدفع بالمغامرين الـ4 إلى اختيار "ستوديو مصر" عام 2000، والبدء بتلك المرحلة الجديدة التي يُفترض بها، رسميًا على الأقل، أن تنتهي بعد 20 عامًا بشرائه. لكن الخصخصة هاجس سلطة تريد تحطيم القطاع العام أيضًا.



التفاصيل كثيرة. "الكوارث" المخبّأة في الستوديو أثناء تولّي سلطات التأميم الناصرية وما بعدها "مسؤولياتها" إزاءه مخيفة: مخزنٌ يحتوي على نحو 700 فيلم، والـ"نيغاتيف" موضوعٌ فيه بعيدًا عن شروط المخازن وضروريات المحافظة عليها، والأسوأ أن السلطة الرسمية غير عارفة به وبما فيه، وعند اكتشافه تتنصّل من مسؤولياتها، فهو غير موجود رسميًا و"الدولة" مُهمِلةٌ إياه؛ ملحقات لوزارات أخرى لا علاقة لها بالسينما تمتلك مستودعات أو مخازن لها في قلب الستوديو (مخزن لوزارة التربية والتعليم مثلاً)؛ تحويل 8 فدادين من أصل 17 (المساحة الإجمالية للستوديو عند تشييده منتصف ثلاثينيات القرن الـ20) إلى أراضٍ زراعية، علمًا أن هذه تُستخدم سابقًا لإنشاء ديكورات خارجية. هناك أيضًا جدران آيلة إلى السقوط، وانعدام شبه مطلق للبنى التحتية الخاصة بالمباني، وإهمال فظيع يطول كلّ شيء.

المقتطفات المأخوذة من أفلام مصرية كثيرة هي أيضًا، وغالبيتها الساحقة تعكس أمورًا مرتبطة بالستوديو وحكاياته، أو بأحوال عامة، كأن منى أسعد ترغب في قول ضمني بأنّ الأفلام المتنوّعة تلك شاهدة على بؤس حاصل في أزمنة مصرية مختلفة. وهي، بهذا كلّه، تصنع شهادة سينمائية لن تتوانى عن الانتقاد الواضح والمباشر لقرارات التأميم، خصوصًا على لساني سمير فريد وكريم جمال الدين: هناك ضباط ممسكون بزمام الأمور كلّها لا علاقة لهم إطلاقًا بالسينما وصناعتها واقتصادها وفنّها. لكن اختزال "في ستوديو مصر" بانتقاد حاد كهذا مُسيء للفيلم، فهو (الفيلم) توثيق سينمائي جميل ومهمّ لتاريخ وحقبات وحكايات وأحوال وانفعالات واشتغالات وتحدّيات وجماليات ومسالك سلبية، ولبلدٍ يتخبّط في ارتباكاته وانقلاباته ومواجع ناسه. أما المباني التي ترتفع حول الستوديو، فإشارة مؤثّرة إلى الاختناق الذي يتعرّض له هذا الحيّز السينمائيّ، ولأحوال صناعة وفنّ وحياة.

"في ستوديو مصر" لمنى أسعد (إنتاج كريم جمال الدين وأسعد) وثيقة تتّخذ من السينما لغةً لسرد حكاية السينما في مصر، عبر ستوديو ينوء تحت وطأة الخديعة الرسمية، لكنه يكتشف بعض بهائه بفضل مغامرين يمتلكون، رغم كلّ التحدّيات، صدقًا في الحبّ وشغفًا في العلاقة بالفن السابع.
المساهمون