أفلام نهاية العالم... مدن تروي لحظاتها الأخيرة

18 ابريل 2020
من فيلم Bird Box إنتاج "نتفليكس" (Imdb)
+ الخط -
ما الذي يجعل من العمل الفني المرتكز على "نهاية العالم" رائجاً؟ يصعب الإتيان بإجابة عن سؤال كهذا إزاء التنوع الشديد في هذه الأعمال، وعوالمها التي تصل إلى لحظة الانهيار بشتى الطرق ولمختلف الأسباب، سواء كانت خارجة عن الإرادة، أو صنيعة جنسٍ يرى بعض أبنائه أنه يسير بثبات نحو الهاوية.

يحتمل أن تكمن الإجابة في كون العوالم الجديدة ميادينَ تُختبَر ضمنها النفس البشرية والعلاقات الاجتماعية وطرق تحولها ضمن معطياتٍ جديدة، وقد تكون نزعتنا للتطهر وبناء عالمٍ جديد على أنقاض الذي نعيش فيه دافعاً يجذبنا لرؤية أهم صروح عالمنا خاويةً ومدمرة، بعد أن أنهكنا الخوف من الأزمات النووية والبيئية وانعدام المساواة. إلا أن الانجذاب، نهاية الأمر، حقيقي كما تشير نجاحات الأعمال المنتمية إلى هذا النوع.

أقف عند هذا الحدّ من اقتباس مادةٍ سابقة، كنت أعمل عليها قبل اندلاع جائحة كورونا وتغيّر الكثير من الأمور وتحولها من مجرد الافتراض إلى مخاوف وهواجس حقيقية عند الكثيرين.
لا شيء يميز عالماً زائلاً مثل مشاهد المدن الخالية وقد خيّم عليها السكون، باستثناء بعض أوراق الصحف التي يعبث بها الهواء (وتخبرنا بشكلٍ مكثف عن أسباب الكارثة). في زمنٍ سابق، كان للمشاهد أن يفكر في الجانب التقني لتصوير مدينة خالية، ويتساءل عن الخدعة وراء هذه المشاهد، كتلك التي تحضر بداية فيلم Twenty Eight Days Later، وتقدم لنا لندن مدينةً ساكنةً تروي قصة لحظاتها الأخيرة. وبقدر ما كان لهذا المنظر، الذي يحضر في أعمال كثيرة، أن يثير الرعب أو القشعريرة حينها، فهو اليوم ليس واقعاً وحسب، بل ضرورة لا بد منها ضمن مجموعة الاحترازات التي اتخذتها البشرية لتحارب الشر المحدق بها اليوم.
أين البشر إذن؟ قد نسأل. وحالما يختفي الضجيج الذي يحرّك المدن، فإننا بقليل من الجهد سنعثر عليهم متبعين الإجراءات الوقائية في منازلهم (وسنترك لذلك جزءاً) أو تحت أحد السقوف يبتاعون الحاجات الأساسية (ولذلك بطبيعة الحال جزء آخر).

ما هو الرعب؟

عندما بدأت العمل على هذا المقال كانت مجموعة من الأفلام قد صدرت بتتالٍ زمنيٍ واضح وتتشارك بعض الخصائص الرئيسية، ونتحدث هنا عن أفلام مثل Bird box وA Quiet Place وThe Silence. حينها، وضمن سياق مغاير تماماً، كان المأخذ الرئيسي على هذه المجموعة من الأفلام ميلها السياسي المحافظ، وهو أمر شائع في أعمال هذا النوع (ولهذا السبب ربما كانت حملة دونالد ترامب الانتخابية عام 2016 تستهدف مشاهدي The Walking Dead). فمع غياب شكل المجتمع بمعناه الواسع، ومجمل الأعراف والقوانين التي نخضع لها بشكلٍ أو بآخر، تحضر - في أعمال هذا النوع على الأقل - انتماءات أضيق، كالأسرة، ويصبح الخلاص الفردي أباً لكل الفضائل، وهنا يمكن أن نذكر أن Bird box اعتُبِر فيلماً عن الأمومة.
تتشارك الأفلام ذاتها طريقة الهلاك، التي تعتمد على إحدى الحواس، وبالتالي سدّها للخلاص، كالبصر في Bird Box والسمع - أو إصدار الصوت لأجل الدقة - في A Quiet Place، وكأن هذه الأفلام تمجّد الانزواء وإغلاق الحواس في مواجهة العالم المرعب... أو هكذا بدا الأمر حينها.
يختلف النقاش كلياً اليوم، فبينما يرى البعض أننا نضحي بشيء من إنسانيتنا عبر ممارسة التباعد الفيزيائي (أو الاجتماعي)، يرى آخرون أن هذا التباعد قد يكون شكلاً ضرورياً من أشكال التعاضد اليوم، وعلى إثر ذلك يختلف تأويلنا بشكلٍ مطلق للوحدة اليوم أو التكاتف. وربما كان السجال الأخير بين سلافوي جيجيك وجيورجيو أغامبين أوضح دليل على ذلك. والأرجح أن "الطبيعي"، وبالتالي نقيضه، الذي نعتمد عليه لبناء هذه العوالم إزاء تغير نشهده اليوم ولا نستطيع تحديد آثاره مستقبلاً بدقة.

حكايا السوبر ماركت
لا شك أن حالتنا "السويّة" تفرض تراتبية قوى معينة، نصنف وفقاً لها ضمن طبقات ومستويات معينة، إلا أننا لسببٍ ما نخشى غيابها وذهابنا نحو "الفلتان"، الذي يفرز بدوره تراتبية خاصةً بها وأقوياء وضعفاء أيضاً لكن أكثر وضوحاً أو مباشرةً ربما. وفي الواقع، فإن خشيتنا هذه، أو خشية عيش هذه الحالة، هي ما تجذبنا للفرجة عليها في ذات الوقت. وفقاً لهذه المعادلة، وغياب وسائل الإنتاج، يصبح المركز التجاري والسوبر ماركت وغيرها حلباتٍ حقيقية لمعارك النجاة.
وإزاء معادلة كهذه، نذكر Dawn of The Dead لجورج روميرو، الأب الروحي لأفلام الزومبي، ضمن سلسلة "ليلة الموتى الأحياء". ففي هذا الفيلم، يتحصّن الناجون داخل مركزٍ تجاري ويقرّرون البقاء فيه بشكلٍ دائم بعد أن اضطروا للهبوط على سطحه. ويستغل روميرو هذا الشرط متلاعباً بالناجين والزومبي على حدٍ سواء، إذ تسأل إحدى شخصيات الفيلم عن سبب تسكع الزومبي في المركز التجاري، لتجيبها شخصية أخرى بأنه فعل غريزي، أو ذكرى من حياتهم السابقة عن مكانٍ كان يعني لهم شيئاً.
وفي الواقع، فإن روميرو لا يكتفي بالمقارنة الأولية بين المستهلك والزومبي، بل يجعل من المركز نقطة صراع بين الأحياء ذاتهم الذين يعجزن، رغم قلة عددهم والخطر المحدق بهم، عن تقاسم موارد مكانٍ هائل كالمركز التجاري.
يحيلنا هذا الجزء اليوم إلى حروب الموارد الصغرى والكبرى. فبينما يعيد أحدنا التفكير في الطبيعة البشرية عند رفوف المتاجر وصناديق المحاسبين، يثار نقاش آخر متعلق بالسياسة الدولية بعيد اتهامات ألمانية للولايات المتحدة الأميركية بـ"قرصنة" شحنة من الأقنعة الطبية وأخرى شبيهة فرنسية، وقبلها محاولة احتكار لقاحٍ محتمل.
وإذا ما كانت عقلية النجاة وبطولات السوبر ماركت مفهومة ضمن السياق الذي تفترضه غالب أعمال النوع والنظرة السياسية التي تقوم عليها معظمها، فإنها على صعيدٍ دولي لا تحظى بالقبول ذاته، خصوصاً حين نعود ونتذكر أننا نعيش هذه المعركة ولا نتفرّج عليها.
وفي ظل الخوف من الفوضى، على الصعيدين السابقين، يقدم الفيلم البريطاني High-Rise نظرةً عن الطريق المؤدي إلى الحطام، رغم ابتعاده نسبياً عن نوع الأفلام السابقة واقترابه من ذاك الديستوبي؛ إذ ينحصر عالمه بمبنىً شاهق الارتفاع، مجهز بالكامل بمدرسة ومتجر ونادٍ رياضي ولا يخرج سكانه إلى لمزاولة أعمالهم. وتعمل الفوضى ضمن الفيلم عبر عدة مستويات، كالصراع الطبقي الدائر بين طوابق المبنى التي ترتفع جودة المعيشة فيها صعوداً، ويحرّك حالة العنف والفوضى داخل المبنى، وغريزة الموت أو التدمير الفرويدية التي تطغى على المبنى - أو الحضارة - بأكمله.
ما هو الواقع؟
ليست مسألة العودة إلى الوضع "الطبيعي" مجرد تلاعب على الألفاظ أو التعاريف، بل سؤال مشروع عندما نتذكر أن مدناً عديدة في العالم تركت احتجاجاتها في الشارع قبل أن تسكن، وبأن الجائحة الحالية تثبت لنا شرعية هذا الاحتجاج. وبينما يجمع الكثيرون، رغم اختلافاتهم، على أن العودة إلى الوضع الطبيعي مستحيلة في قطاعات عدة، فإن الأعمال أو الأفلام المتعلقة بهذا النوع يمكن أن تشهد هي الأخرى تغيراتٍ تصيبها، إذ لم تجد البشرية نفسها أمام مشاهد قريبة مما كانت تتابعه مثل اليوم، على الأقل بشكلٍ عالمي متزامن. وفي الواقع، فإن تجربة جورج روميرو مع الزومبي تثبت لنا علاقة واقعنا المباشر مع تلك العوالم التي نتخيل انتهاء صلاحيتها، سواء بالتعليق الاجتماعي الذي صاحب أفلامه أو بالصورة التي مهّدت خلالها حرب فيتنام للمشاهدين مناظر الجثث المكدسة وسواها.
في هذا الظرف، يتوقع لعوالمنا المتخيلة أن تتغير وتهتز هي الأخرى ويتغير معها تعريف "المخيف"، الذي يمكن لفيلمٍ مثل I, Daniel Blake أن يقدمه اليوم عندما يُقرأ بوصفه تسجيلاً لهشاشة استعداداتنا وكل الأشياء التي كان يمكن أن تجري بشكلٍ مختلف اليوم.
المساهمون