لن يتبدّل شيءٌ كثيرٌ، وإنْ تستحقّ المناسبة تبدّلاً، فـ"مهرجان السينما الأوروبية" ـ الذي تُفتتح دورته الـ25 مساء 24 يناير/ كانون الثاني 2019، في صالة سينما "متروبوليس ـ أمبير صوفيل" (الأشرفية ـ بيروت) ـ يُواظب على احتفالٍ سنوي بسينما أوروبية، بعضها يحضر دوليًا، وبعضها الآخر يبقى أسير المحليّ، ويجد في المهرجان الأوروبي هذا مكانًا للتواصل مع مشاهدين لبنانيين وغير لبنانيين مقيمين في بيروت.
والمناسبة متمثّلة في مرور ربع قرن على إطلاق هذا النشاط السينمائي الأوروبي في لبنان، ضمن إطار متواضع يستمرّ في التزام تقليد ثقافي وفني مرتكز على نتاجات بصرية تُصنع في دول الاتحاد الأوروبي. إطار واضح الهدف منذ البداية: إيجاد حيّز سنوي لتفعيل تقارب ثقافي وفني بين حركة الإنتاج السينمائي الأوروبي ولبنان. وهذا ثابتٌ، رغم إتاحة فرصٍ مختلفة لنشاطات مرافقة للجوهر، كأن تُقام مسابقة طالبية لأفلام جامعية لبنانية، أو كأن تُعرض أفلامٌ لبنانية قديمة بعد ترميمها، أو كأن يتم اختيار أفلام لبنانية أخرى مُنتجة بالاشتراك مع جهات أوروبية؛ بالإضافة إلى حفلة موسيقية تُقام مع عرض فيلم كلاسيكي قديم.
لذا، ورغم أهمية مرور 25 دورة، تبقى المناسبة "عادية" بـ"غناها البصري"، إذْ تُعرض أفلامٌ مُقدَّمة للعالم في عروض دولية للمرة الأولى ضمن مهرجانات سينمائية (فئة أولى)، وحاصلة على انتباه نقدي مُثير لمزيدٍ من النقاش. وإذْ تحافظ الدورة الـ25 هذه، المنتهية مساء 4 فبراير/ شباط 2019، على نمطها السنوي (هناك عروضٌ تُقام في مدن لبنانية موزّعة على المحافظات كلّها)، فإن للبنان حصّة أكبر هذا العام، باختيار 3 أفلام مُنتَجة مع ألمانيا والسويد وفرنسا في تسعينيات القرن الـ20، لعرضها في أوقاتٍ مختلفة، وبتنظيم معرض فني لأعمال شبابية لبنانية مستمدَّة من تصوّرات صانعيها لأفلام وملصقات أفلام أوروبية.
الأفلام الـ3 هي: "كان يا ما كان بيروت" (1995) للراحلة جوسلين صعب (10 مساء 27/ 1)، و"أشباح بيروت" (1998) لغسان سلهب (10 وربع مساء 29/ 1) و"الشيخة" (1994) لليلى عساف (10 وربع مساء 31/ 1) بحضور المُخرِجَين. وإذْ يتجوّل الأول في أنحاء بيروت والبلد عبر ذاكرته السينمائية وتاريخه المديد من التحوّلات والمسارات؛ فإن الثاني منشغلٌ بلحظة فاصلة بين حربٍ أهلية معلّقة وسلم داخلي معطّل، عبر عودة مقاتل من غياب مفاجئ قبل 10 أعوام، يُثير (الغياب المفاجئ) شعورًا لدى أصدقاء ورفاق سلاح بأن المقاتل السابق متوفّى، بينما العودة (المفاجئة هي أيضًا) دعوةٌ إلى رحلة في الذات المرتبكة والاضطراب الجماعي عبر حكايات أفرادٍ يحاولون فهم شيء من ذاكرة الحرب ونهايتها الملتبسة. بينما يرصد الثالث وقائع العيش في جحيم الفقر والخراب الروحي، من خلال مجموعة من الفتيات والفتيان بقيادة صبيّة (10 أعوام) ذكية وشجاعة ومتمرّدة، وهذا كلّه في أحياء المدينة وفضاءاتها الغامضة والملبّدة بتفاصيل الانشقاقات والانفعالات الموؤودة.
يكمن المشترك بين الأفلام الـ3 هذه، المختلفة تمامًا في أسلوب الاشتغال والنمط البصري المعتمد في إنجازها، في أنها تستند إلى ما يُشبه الرحلة الذاتية والروحية التي يقوم بها أناسٌ مشغولون بوقائع الخروج المهتزّ من تلك الحرب المنتهية فجأة، والدخول في سلمٍ ناقص ومشبوه. وإذْ يبدو اختيار "كان يا ما كان بيروت" كنوعٍ من تحية سينمائية لجوسلين صعب، الراحلة حديثًا (7 يناير/ كانون الثاني 2019)؛ فإن اختيار "أشباح بيروت" ينبِّه إلى ولادة مرحلة وحالة جديدتين في صناعة صورة سينمائية لبنانية بعد وقتٍ قليل على النهاية المزعومة للحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، تندرج في إطار البحث في الذاكرة الجماعية عبر حكايات فردية، وفي اعتماد لغة السينما (كتابة وتصويرًا وتقنيات وتمثيلاً، إلخ) كأداة أساسية لقولٍ أو بوحٍ. واستعادة "الشيخة" محاولة لتبيان تجربة مخرجة لبنانية مُقيمة في السويد، تعود إلى بلدها لتتوغّل في بعض تفاصيله المنبثقة من تلك اللحظة الغريبة والقاسية بين نهاية حرب وبداية سلم.