مطلع شهر مايو/أيّار الماضي كانت قناة HBO تستعد لعرض أولى حلقات مسلسلها القصير Chernobyl، الذي أعلنت عنه منذ فترة ويتناول أكبر كارثة نووية في تاريخ الإنسانية، أي انفجار مفاعل في محطة تشيرنوبيل للطاقة الذرية التابعة للاتحاد السوفييتي (أوكرانيا تحديداً) في إبريل/نيسان عام 1986.
لم يكن المسلسل القصير لافتاً بشكل كبير قبيل عرضه، خصوصاً مع انشغال العالم بالجدل والإحباط حول آخر مواسم Game of Thrones الذي تنتجه HBO أيضاً، وعرضت حلقته الرابعة قبل بداية عرض "تشيرنوبيل" بيوم واحد. لكن انطلاق عرض المسلسل أدى إلى مفاجأة غير متوقعة فحقق "تشيرنوبيل" دوياً أقرب للانفجار منذ الحلقة الأولى. وهو ما استمر بعد ذلك طيلة 5 أسابيع عُرضت فيها حلقاته، ونجحت في حصد المزيد من الجماهيرية والإعجاب الذي وصل لذروته مع عرض الحلقة الأخيرة في يونيو/حزيران الحالي. وقد وصل الأمر إلى احتلال العمل المركز الأول في قائمة موقع IMDB الشهيرة لأعظم المسلسلات في تاريخ التلفزيون. فكيف ولماذا حقق "تشيرنوبيل" كل هذا النجاح؟
أول أسباب فهم هذا النجاح، هو استيعاب الكارثة نفسها، وحقيقة أن الإشعاع النووي الذي صدر من المفاعِل المُنفجر قُدر بـ400 ضعف الإشعاع الذي خرج من قنبلتي هيروشيما وناغازاكي اللتين أسقطتهما الولايات المتحدة على اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية. لكن التعتيم الإعلامي الذي فرضه الاتحاد السوفييتي على المعلومات المحيطة بانفجار تشيرنوبيل، وأثره الطويل الأمد، جعل من وقع الكارثة على باقي دول العالم أخفّ وطأة. فجاء هذا المسلسل ليكون أول عمل ضخم عما حصل وقتها، مساهماً في اكتشاف المتفرجين لأبعاد الكارثة للمرة الأولى.
الأمر الثاني الذي ساهم في النجاح، هو الإخلاص الشديد من قبل كاتب وصانع المسلسل كريج مازن في نقل حقيقة ما حدث، معتمداً في كتابة الحلقات على مصدرين محددين أكثر من غيرهما: الأول هو شهادات الأشخاص الأحياء الذين عاشوا الكارثة، وهُجّروا من منازلهم وقراهم، أو تعرض ذووهم للأثر الإشعاعي، أو حتى شاركوا في عمليات الإنقاذ أو السيطرة على الانفجار. أما المصدر الثاني فهو الكتاب الشهير "أصوات من تشيرنوبيل" للكاتبة والصحافية البيلاروسية سفيتلانا ألكسيفيتش، الحاصلة على جائزة نوبل للآداب عام 2015، وجمعت فيه عشرات الشهادات للناجين في تحقيق طويل، وصاغتها بشكل أدبي دقيق ومعتنٍ بأصغر التفاصيل. وهي التفاصيل ذاتها التي راعاها مازن بشدة وهو يكتب مسلسله فجعله قريباً من نبض اللحظة والكارثة.
هكذا تابع المشاهد قصصاً عن زوجة رجل الإطفاء ليودميلا، أو المجندين الذين كانت مهمتهم قتل الحيوانات في نطاق الإشعاع، أو أهل المدينة وطريقة تلقيهم للانفجار في البداية. كل ما سبق حكايات مأخوذة ومبنية نصاً من الكتاب، بشكل منح المسلسل الكثير من الإنسانية والمصداقية في تناوله للمأساة، متجاوزاً الأرقام والتفاصيل العلمية الدقيقة إلى نقطة أكثر عاطفية عن التأثير المباشر لما حدث على حياة الناس.
وإلى جانب هذا وذاك، فالسبب الأكبر في نجاح وشهرة المسلسل هو "السينمائية" الشديدة التي اتسمت بها حلقاته الخمس في كل عناصرها: شريط الصوت المكتوم الموتّر الذي يجعل الانفجار دائماً في الخلفية، وتفاصيل الصورة ودقتها التاريخية في أبسط التفاصيل. ثم التصوير البديع في اختياراته الحادة أحياناً والشاعرية أحياناً. والأهم من كل شيء كان سينمائية الكتابة ذاتها؛ كريج مازِن يكتب كل حلقة كأنها فيلم من 50 دقيقة، يدور حول موضوع وحدث واحد أساسي ومحوري ويلتف من حوله عدد من الخطوط الفرعية.
في الحلقة الأولى يكون الحدث المركزي هو ليلة الانفجار يوم 26 إبريل/نيسان 1986 وتدور الحلقة بالكامِل داخِل إطار زمني من ساعات عدة حول تفاعل الجميع مع حدث لا يفهمون حجمه بعد. ويكون من المرعب والمؤثر جداً رؤية الناس على الجسر (الذي سمي بعد ذلك جسر الموت) ينظرون إلى شكل الإشعاع الجميل ويتنفسون الغُبار القادِم منه من دون أن يعرفوا أن تلك اللحظة ستتسبب في قتلهم.
الحلقة الثانية تتمركز حول استيعاب السلطة السوفييتية لحجم الكارثة وبدء التخطيط لكيفية التعامل معها، إلى جانب قصص العمال الثلاثة الذي كُلفوا بغلق خزانات المياه حتى لا يؤدي تبخر المياه من أثر الحرارة لكارثة أكبر.
ثم تأتي الحلقة الثالثة ومركزها عمّال الفحم الذين حفروا نفقاً لوضع جهاز حراري يمنع تلويث الإشعاع للمياه الجوفية.بينما دارت أحداث الحلقة الرابعة حول إزالة التلوّث من المنطقة وقتل الحيوانات في نطاق ضخم جداً حول الانفجار وكذلك تنقية مكان الانفجار نفسه من الأحجار المُشبّعة، وهي العملية التي شارك فيها 3828 شخصاً. قبل الوصول للذروة مع الحلقة الخامسة.
في الحلقة الأخيرة، وبجرأة شديدة، اختار مازن أن تكون السردية أقرب لأفلام المحاكِم؛ ما أتاح له الكثير من عناصر القوة: أولاً هو يعود للحظة الانفجار ويتتبع الأحداث بالثانية أحياناً، وبشرح مصاحب ومنطقي من بطلي الأحداث أي ليغاسوف العالم النووي، وبوريس المسؤول الحكومي أمام المحكمة. وهو ما يجعل المشاهد يستوعب الجانب العِلمي من الكارثة. وقد أتاح له هذا الخيار الفنيّ خلق "دراما" حول الشخصيات داخل تلك الغرفة، سواء المتهمون، أو "بوريس" الذي تغير مع إدراكه البطيء لهول ما حدث، والأهم ليغاسوف الحائِر بين قول الحقيقة وخسارة حياته، أو إعادة الرواية الرسمية ما يعني احتمالية وقوع الكارثة مرة أخرى.
اقــرأ أيضاً
وأخيراً وبشكل ممتاز فعلاً يتجاوز المسلسل في مشاهده الأخيرة الكارثة ذاتها، على عمقها وفداحتها، لينتقل إلى الديكتاتوريات المُغلقة، والأفكار السلطوية، وكلفة الأكاذيب المتراكمة لدولة كاملة، انفجرت أخيراً في "تشيرنوبيل" وأدت لاحقاً لتفكك وانهيار الاتحاد السوفييتي. وقد كانت نتيجة كل هذه البنية الفنية، إنتاج واحد من أفضل المسلسلات القصيرة في تاريخ التلفزيون من دون مبالغة.
لم يكن المسلسل القصير لافتاً بشكل كبير قبيل عرضه، خصوصاً مع انشغال العالم بالجدل والإحباط حول آخر مواسم Game of Thrones الذي تنتجه HBO أيضاً، وعرضت حلقته الرابعة قبل بداية عرض "تشيرنوبيل" بيوم واحد. لكن انطلاق عرض المسلسل أدى إلى مفاجأة غير متوقعة فحقق "تشيرنوبيل" دوياً أقرب للانفجار منذ الحلقة الأولى. وهو ما استمر بعد ذلك طيلة 5 أسابيع عُرضت فيها حلقاته، ونجحت في حصد المزيد من الجماهيرية والإعجاب الذي وصل لذروته مع عرض الحلقة الأخيرة في يونيو/حزيران الحالي. وقد وصل الأمر إلى احتلال العمل المركز الأول في قائمة موقع IMDB الشهيرة لأعظم المسلسلات في تاريخ التلفزيون. فكيف ولماذا حقق "تشيرنوبيل" كل هذا النجاح؟
أول أسباب فهم هذا النجاح، هو استيعاب الكارثة نفسها، وحقيقة أن الإشعاع النووي الذي صدر من المفاعِل المُنفجر قُدر بـ400 ضعف الإشعاع الذي خرج من قنبلتي هيروشيما وناغازاكي اللتين أسقطتهما الولايات المتحدة على اليابان أثناء الحرب العالمية الثانية. لكن التعتيم الإعلامي الذي فرضه الاتحاد السوفييتي على المعلومات المحيطة بانفجار تشيرنوبيل، وأثره الطويل الأمد، جعل من وقع الكارثة على باقي دول العالم أخفّ وطأة. فجاء هذا المسلسل ليكون أول عمل ضخم عما حصل وقتها، مساهماً في اكتشاف المتفرجين لأبعاد الكارثة للمرة الأولى.
الأمر الثاني الذي ساهم في النجاح، هو الإخلاص الشديد من قبل كاتب وصانع المسلسل كريج مازن في نقل حقيقة ما حدث، معتمداً في كتابة الحلقات على مصدرين محددين أكثر من غيرهما: الأول هو شهادات الأشخاص الأحياء الذين عاشوا الكارثة، وهُجّروا من منازلهم وقراهم، أو تعرض ذووهم للأثر الإشعاعي، أو حتى شاركوا في عمليات الإنقاذ أو السيطرة على الانفجار. أما المصدر الثاني فهو الكتاب الشهير "أصوات من تشيرنوبيل" للكاتبة والصحافية البيلاروسية سفيتلانا ألكسيفيتش، الحاصلة على جائزة نوبل للآداب عام 2015، وجمعت فيه عشرات الشهادات للناجين في تحقيق طويل، وصاغتها بشكل أدبي دقيق ومعتنٍ بأصغر التفاصيل. وهي التفاصيل ذاتها التي راعاها مازن بشدة وهو يكتب مسلسله فجعله قريباً من نبض اللحظة والكارثة.
هكذا تابع المشاهد قصصاً عن زوجة رجل الإطفاء ليودميلا، أو المجندين الذين كانت مهمتهم قتل الحيوانات في نطاق الإشعاع، أو أهل المدينة وطريقة تلقيهم للانفجار في البداية. كل ما سبق حكايات مأخوذة ومبنية نصاً من الكتاب، بشكل منح المسلسل الكثير من الإنسانية والمصداقية في تناوله للمأساة، متجاوزاً الأرقام والتفاصيل العلمية الدقيقة إلى نقطة أكثر عاطفية عن التأثير المباشر لما حدث على حياة الناس.
وإلى جانب هذا وذاك، فالسبب الأكبر في نجاح وشهرة المسلسل هو "السينمائية" الشديدة التي اتسمت بها حلقاته الخمس في كل عناصرها: شريط الصوت المكتوم الموتّر الذي يجعل الانفجار دائماً في الخلفية، وتفاصيل الصورة ودقتها التاريخية في أبسط التفاصيل. ثم التصوير البديع في اختياراته الحادة أحياناً والشاعرية أحياناً. والأهم من كل شيء كان سينمائية الكتابة ذاتها؛ كريج مازِن يكتب كل حلقة كأنها فيلم من 50 دقيقة، يدور حول موضوع وحدث واحد أساسي ومحوري ويلتف من حوله عدد من الخطوط الفرعية.
في الحلقة الأولى يكون الحدث المركزي هو ليلة الانفجار يوم 26 إبريل/نيسان 1986 وتدور الحلقة بالكامِل داخِل إطار زمني من ساعات عدة حول تفاعل الجميع مع حدث لا يفهمون حجمه بعد. ويكون من المرعب والمؤثر جداً رؤية الناس على الجسر (الذي سمي بعد ذلك جسر الموت) ينظرون إلى شكل الإشعاع الجميل ويتنفسون الغُبار القادِم منه من دون أن يعرفوا أن تلك اللحظة ستتسبب في قتلهم.
الحلقة الثانية تتمركز حول استيعاب السلطة السوفييتية لحجم الكارثة وبدء التخطيط لكيفية التعامل معها، إلى جانب قصص العمال الثلاثة الذي كُلفوا بغلق خزانات المياه حتى لا يؤدي تبخر المياه من أثر الحرارة لكارثة أكبر.
ثم تأتي الحلقة الثالثة ومركزها عمّال الفحم الذين حفروا نفقاً لوضع جهاز حراري يمنع تلويث الإشعاع للمياه الجوفية.بينما دارت أحداث الحلقة الرابعة حول إزالة التلوّث من المنطقة وقتل الحيوانات في نطاق ضخم جداً حول الانفجار وكذلك تنقية مكان الانفجار نفسه من الأحجار المُشبّعة، وهي العملية التي شارك فيها 3828 شخصاً. قبل الوصول للذروة مع الحلقة الخامسة.
في الحلقة الأخيرة، وبجرأة شديدة، اختار مازن أن تكون السردية أقرب لأفلام المحاكِم؛ ما أتاح له الكثير من عناصر القوة: أولاً هو يعود للحظة الانفجار ويتتبع الأحداث بالثانية أحياناً، وبشرح مصاحب ومنطقي من بطلي الأحداث أي ليغاسوف العالم النووي، وبوريس المسؤول الحكومي أمام المحكمة. وهو ما يجعل المشاهد يستوعب الجانب العِلمي من الكارثة. وقد أتاح له هذا الخيار الفنيّ خلق "دراما" حول الشخصيات داخل تلك الغرفة، سواء المتهمون، أو "بوريس" الذي تغير مع إدراكه البطيء لهول ما حدث، والأهم ليغاسوف الحائِر بين قول الحقيقة وخسارة حياته، أو إعادة الرواية الرسمية ما يعني احتمالية وقوع الكارثة مرة أخرى.