بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر)، عقوداً من حياته، مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ. تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءاته مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس وغيرها من العواصم.
في صيف 1964 استقال المخرج أحمد بدرخان من منصب عميد معهد السينما في القاهرة، فترقّب طلبة المعهد والأساتذة والسينمائيون عموماً اسم العميد الجديد. وكان أن اختارت وزارة الثقافة والإرشاد القومي المهندس حسن فهمي ليتولّى المهمّة. أثار الخبر دهشة الجميع نظراً إلى اختيار مهندس ليكون عميداً لمعهد السينما. وهذا خلاف لمبدأ "الرجل المناسب في المكان المناسب". خصوصاً أن العميدين السابقين كانا من أهل المهنة، وخصوصاً أيضاً أن الوسط السينمائي لا يخلو من أسماء جديرة بالمنصب. وكانت التوقعات تدور في فلك أسماء مثل المخرجين الشهيرين صلاح أبو سيف أو توفيق صالح أو موسى حقي، مدرس مادة الإنتاج السينمائي في المعهد. لكن المفاجأة وقعت.
كانت هناك محاولة لرفض القرار ولجمع تواقيع في عريضة ترفع إلى وزارة الثقافة. لكن وكيل الوزارة (الرجل الثاني بعد الوزير والأول إدارياً) كان يدعى المهندس صلاح عامر، وكان من تلامذة حسن فهمي، فأصرّ على القرار وأعلن بصراحة وحسم أن لا تراجع عنه. فتراجع المعترضون و"تأقلموا" مع العهد الجديد، فدفع المخرج حلمي حليم الثمن وأقيل من مهمة التدريس في المعهد، لأنه كان الناطق بلسانه ولسان الآخرين، فيما ذاب الآخرون كأن شيئاً لم يكن، كما هي العادة في حالات مشابهة.
أصبح وجود المهندس حسن فهمي في منصب العميد أمراً واقعاً. وبدأ تداول المعلومات عنه. ورحنا نحن الطلبة نتسقط الأخبار حتى ارتسمت لدينا صورة شخصية العميد الجديد. حسن فهمي درس الهندسة في جامعة القاهرة وفي بريطانيا، وتولى مهمة التدريس في كلية الهندسة، وأنشأ فيها قسم الهندسة الصناعية عام 1960. ترجم كتباً في هذا التخصص، وألّف كتابين: الأول عنوانه "هندسة التشغيل والإنتاج"، والثاني "المرجع في تعريب المصطلحات العلمية والفنية والهندسية" كتب له المقدمة الأديب العميد طه حسين. تزوج من إنكليزية أشهرت إسلامها وصارت تدعى خديجة، وأنجبا ابنتين: نديدة وفريدة. وحدث أن عدة وزراء، خصوصاً من الذين تولوا وزارة الصناعة كانوا من تلامذة حسن فهمي. ويوم تعيينه عميداً كان تلميذه المهندس عزيز صدقي وزير الصناعة (وبعد سنوات تولى عزيز صدقي منصب رئاسة الحكومة).
اقــرأ أيضاً
لكن ذلك المهندس لم يكن غريباً عن الوسط الفني. فهو والد فريدة فهمي التي أصبحت نجمة فرقة رضا للفنون الشعبية. وهو الداعم الأول لتلك الفرقة الراقية التي طوّرت الرقص الفولكلوري. وهي الفرقة التي نشأت من مصاهرة آل رضا وآل فهمي. الابنة الكبرى نديدة تزوجت محمود رضا والصغرى فريدة تزوجت أخاه الأكبر علي رضا. كان محمود رضا رياضياً شارك في دورة الألعاب الأولمبية في هلسنكي 1952. درس الاقتصاد السياسي وكان من هواة الرقص. وكان علي رضا قد نال جوائز في الرقص الغربي. أما نديدة وفريدة فهمي فتخرجتا في قسم الأدب الإنكليزي في كلية الآداب. تعرف محمود رضا على فريدة فهمي وكانت شريكته في الرقص في حفلات نادي هليوليدو الرياضي.
تقرر إنشاء الفرقة الفولكلورية وكانت في البداية "مؤسسة عائلية". حسن فهمي دعم المشروع فكرياً وعملياً. إذ هو سمح لابنته فريدة أن تكون الراقصة الأولى في الفرقة. وقد أدرك موهبتها عندما كانت في الثامنة من عمرها ورقصت في حفل في كلية الهندسة، بل إنه اشترى لها بدلة رقص. ولم تكن بنات العائلات يحترفن الرقص لأن نظرة المجتمع إلى هذه المهنة كانت سلبية. وكانت فريدة فهمي الأولى التي كسرت التقاليد، بل إنها حوّلت المهنة من "رقّاصة" إلى راقصة. الأم خديجة أخذت على عاتقها مهمة تصميم الملابس، تساعدها ابنتها نديدة. وكان أفراد الفرقة جميعاً ينادونها "مامي". تولّى محمود رضا مهمة الإخراج وتصميم الرقصات وكان الراقص الأول في الفرقة. أما علي فكان الإداري والمستشار الفني، ولاحقا تحوّل إلى الإخراج السينمائي، وكان فيلما "إجازة نص السنة" ثم "غرام في الكرنك" باكورة أفلامه وكلاهما من بطولة فريدة فهمي ومحمود رضا والفرقة الشعبية.
وبدأت فرقة رضا عروضها سنة 1959 وهي مكوّنة من ست راقصات وستة راقصين، وفرقة موسيقية من 12 عازفاً، بقيادة الموهوب علي إسماعيل الذي ألّف أيضا معظم المقطوعات الموسيقية في العروض. ومنذ البداية رحّب الجمهور بالفرقة الوليدة وأعجب بحداثتها وأناقتها وبحرفية الانطلاق من رقصات وأهازيج فولكلورية لتصير لوحات تشكيلية راقصة جميلة. وفي 1961 أصبحت الفرقة الرائدة تابعة لوزارة الثقافة، وكبر حجمها فأصبحت من 150 عنصراً من الراقصين والموسيقيين والفنيين والإداريين. وقدمت عروضها في أعرق مسارح العالم: في ألبرت هول (لندن) كارنيجي هول (نيويورك) الأولمبيا (باريس) كونغرس هول (برلين) مسرح ستانسلافسكي (موسكو). وفي لبنان أحيت فرقة رضا ليالي مهرجانات عنجر سنة 1974. توفيت نديدة سنة 1960 في عمر الشباب بعد معاناة من داء الروماتيزم في القلب. ظل محمود رضا الراقص الأول لغاية سنة 1972 ومخرج العروض لغاية تقاعده سنة 1990 وكان يرغب في مواصلة العمل لكن الروتين الرسمي لم يسمح بذلك. فريدة فهمي ظلت النجمة الأولى حتى اعتزالها سنة 1983 فسافرت إلى أميركا ونالت درجة الماجستير برسالة في موضوع الرقص الشعبي.
من باب تدريس الهندسة ورعاية فرقة رضا جاء حسن فهمي إلى عمادة المعهد العالي للسينما. ولم يأت خالي الوفاض بل حاملا لمشروع تطويري ومنهج ثوري في التعليم. وأشهد، وأنا تلميذه في السنتين اللتين أمضاهما عميدا، أن الرجل كان سابقا أقرانه في زمانه.
إضافة إلى مهمات العميد كان حسن فهمي أستاذا لمادتين: الترجمة، وهندسة الإنتاج. كانت الترجمة من الإنكليزية إلى العربية. لكن ما تعلمناه منه يصلح للتطبيق في مختلف اللغات. وهو منهج اتبعته في حياتي المهنية. قال لنا: "اقرأ وافهم ثم ابدأ الترجمة. ابحث عن ثلاثة: الفعل والفاعل والمفعول به. ضع خطا تحت كل منها. استوعب "مَنْ فعل ماذا". هكذا تمسك بزمام الجملة. لتكن مثلاً: الرجل أكل التفاحة. هذه العناصر الثلاثة ممكن أن تكون في جملة طويلة، تصل أحيانا إلى حدود فقرة، تتخللها أوصاف وجمل اعتراضية. قد يكون الرجل طويلا، قصيرا، عجوزا، شابا، عصبي المزاج، رائقا، مرتديا سروالا، ضيقا، فضفاضا، الخ، وقد تكون التفاحة حمراء، صفراء، طازجة، لذيذة، الخ…. وبعدما تستوعب المعنى الأساسي والتفاصيل ابدأ الصياغة، واحرص على أن تجعل القارئ يعيش النص كما لو أنه مكتوب أساساً باللغة العربية"!
في مادة هندسة الإنتاج علّمنا كيف ننشئ مؤسسة إنتاجية، وكيف نضع خطة العمل فيها، وكيف نديرها. ما زلت أذكر تفصيلا طريفا يتعلق بالترقيم، وترقيم الغرف تحديدا. قال "إذا أعطاك موظف الاستقبال في الفندق مفتاح غرفتك وكان الرقم 819. فلا تسأل في أي طابق. غرفتك في الطابق الثامن ورقمها 19. ستجد الرقم على الباب 819. افتح وادخل على مسؤوليتي"!
لكن الأهم من هذا وذاك هو رؤية حسن فهمي التقدمية لقضية التعليم. كانت مواد التدريس في معهد السينما في معظمها مهنية: إخراج، ومونتاج، وسيناريو، وتمثيل، وتصوير، إلخ مع بعض المواد التثقيفية: دراما، موسيقى، علم النفس، علم الاجتماع. رفع حسن فهمي نسبة المواد التثقيفية وأضاف إليها أبوابا، على حساب المواد المهنية. قال "إذا أراد الطالب أن يتعلم المونتاج فبوسعه أن يشترك في دورات تدريبية في أحد الاستوديوهات مع مونتير محترف. سيتعلم القص واللصق وترتيب المشاهد حرفيا. وسيبدأ مساعد مونتير إلى أن يصبح المونتير. الطالب الأكاديمي ينبغي أن يعرف أكثر من ذلك. ينبغي أن تتسع مداركه لكي يصبح المونتاج عملية إبداع. قال: الطالب عندي هو فنان artist وليس مجرد حرفي artisan".
وقال حسن فهمي: "لا أريد طلبة يحفظون عن ظهر قلب. بل طلبة يفهمون ويبتكرون. الطالب ليس آلة تسجيل تختزن المعلومات وفي نهاية الموسم الدراسي نضغط على زر التشغيل لنسمع ماذا اختزن الجهاز"! لذلك فإن الامتحانات خصوصاً في السنة الأخيرة، سنة التخرج، ستجري في قاعة المكتبة". "ماذا؟" صاح الأساتذة في استنكار. "امتحان في المكتبة، يعني الكتب في متناول يد الطلبة، ينقلون منها براحتهم وعلى هواهم ؟" أجاب حسن فهمي: "لمَ لا؟.. وقت الامتحان محدد بساعتين. والطلبة نوعان: نوع قرأ وحلل وفهم مادة الدراسة، وطالب حفظ عن ظهر قلب لكنه لم يفهم ولم يقرأ كفاية. الطالب من النوع الأول سوف يستوعب السؤال، ولأنه قرأ طوال السنة، فهو يعرف أن الإجابة الوافية والصحيحة عن السؤال موجودة في المراجع التالية… ولسوف يتناول هذه المراجع من الرفوف ويبدأ في كتابة الجواب. أما الطالب من النوع الثاني، فلأنه خلال العام الدراسي لم يقرأ بما فيه الكفاية، فلسوف تنقضي الساعتان وهو ما زال يبحث عشوائياً عن المرجع المفيد وقد ينتهي الوقت وهو لم يهتدِ إلى المرجع". وأضاف حسن فهمي موجهاً كلامه إلى الأساتذة المعترضين: "العبرة في كيفية وضع السؤال. وهذا الأمر يتطلب منكم أيضاً براعة خاصة. تنتظرون إجابة مبدعة؟ يجب أن يكون السؤال مبدعاً. لعلمكم سوف أحذف الأسئلة التي من نوع: أذكر ما تعرفه عن…. ما هي العوامل التي أدت إلى …. عرّف ما يلي….. سأرفض كل الأسئلة التي تتطلب حفظاً ببغائيا عن ظهر قلب. يجب أن يكون السؤال به ابتكار. يحث على البحث. الامتحان ليس عملية تسميع محفوظات، بل اكتشاف مدى استيعاب الطالب للمادة ومدى قدرته على التحليل والابتكار". وقال أيضاً: "أنتم يا أساتذة حين تكتبون مقالاً أو بحثاً، ألا تضعون المراجع بجواركم؟ وعندما تستشهدون برأي لباحث آخر هل تتكلون على ذاكرتكم في الحفظ فقط فيرد الاستشهاد "بما معناه" بدلاً من أن يكون تضمينا أمينا؟ أم تنقلون من المرجع ما ترونه مناسباً لبحثكم ثم تذكرون في الهامش: اسم المؤلف وعنوان المرجع واسم الناشر وتاريخ الطبعة ورقم الصفحة التي اقتبس الاستشهاد منها؟ لماذا تبيحون لأنفسكم الاعتماد على المراجع وترفضون أن يلجأ الطلبة إلى الأمر ذاته؟".
واحتدم النقاش بين منطقين: التجديد والتقليد. رفض قدامى الأساتذة فكرة إجراء الامتحان في قاعة المكتبة بذريعة "أن دا ما حصلش قبل كدا". فردّ حسن فهمي قائلاً: "يحصل! ولمّا يحصل أول مرة ح يحصل بعد كدا. ولو ما حصلش ح نفضل نكرر اللي حصل قبل كدا ومش ح نتطور". وفي النهاية انتصرت الأكثرية على الرأي المنفرد، ولم تتحول المكتبة إلى قاعة امتحانات. لكن حسن فهمي تمكن من حذف الأسئلة التقليدية. ولم يكن بالإمكان أفضل مما كان.
غادر حسن فهمي معهد السينما وعاد إلى قواعده في كلية الهندسة حتى تقاعده. الرجل الذي أطلق أفكاراً طليعية في موضوع منهج التعليم في منتصف ستينيات القرن العشرين مات يوم الرابع من مايو/أيار سنة 1982 عن عمر ناهز الخامسة والسبعين. مات ولم يشهد تحقق مشروعه. بل إننا اليوم في سنة 2019 وما زلنا على خطى السلف نجترّ "اللي حصل قبل كدا".
كانت هناك محاولة لرفض القرار ولجمع تواقيع في عريضة ترفع إلى وزارة الثقافة. لكن وكيل الوزارة (الرجل الثاني بعد الوزير والأول إدارياً) كان يدعى المهندس صلاح عامر، وكان من تلامذة حسن فهمي، فأصرّ على القرار وأعلن بصراحة وحسم أن لا تراجع عنه. فتراجع المعترضون و"تأقلموا" مع العهد الجديد، فدفع المخرج حلمي حليم الثمن وأقيل من مهمة التدريس في المعهد، لأنه كان الناطق بلسانه ولسان الآخرين، فيما ذاب الآخرون كأن شيئاً لم يكن، كما هي العادة في حالات مشابهة.
أصبح وجود المهندس حسن فهمي في منصب العميد أمراً واقعاً. وبدأ تداول المعلومات عنه. ورحنا نحن الطلبة نتسقط الأخبار حتى ارتسمت لدينا صورة شخصية العميد الجديد. حسن فهمي درس الهندسة في جامعة القاهرة وفي بريطانيا، وتولى مهمة التدريس في كلية الهندسة، وأنشأ فيها قسم الهندسة الصناعية عام 1960. ترجم كتباً في هذا التخصص، وألّف كتابين: الأول عنوانه "هندسة التشغيل والإنتاج"، والثاني "المرجع في تعريب المصطلحات العلمية والفنية والهندسية" كتب له المقدمة الأديب العميد طه حسين. تزوج من إنكليزية أشهرت إسلامها وصارت تدعى خديجة، وأنجبا ابنتين: نديدة وفريدة. وحدث أن عدة وزراء، خصوصاً من الذين تولوا وزارة الصناعة كانوا من تلامذة حسن فهمي. ويوم تعيينه عميداً كان تلميذه المهندس عزيز صدقي وزير الصناعة (وبعد سنوات تولى عزيز صدقي منصب رئاسة الحكومة).
لكن ذلك المهندس لم يكن غريباً عن الوسط الفني. فهو والد فريدة فهمي التي أصبحت نجمة فرقة رضا للفنون الشعبية. وهو الداعم الأول لتلك الفرقة الراقية التي طوّرت الرقص الفولكلوري. وهي الفرقة التي نشأت من مصاهرة آل رضا وآل فهمي. الابنة الكبرى نديدة تزوجت محمود رضا والصغرى فريدة تزوجت أخاه الأكبر علي رضا. كان محمود رضا رياضياً شارك في دورة الألعاب الأولمبية في هلسنكي 1952. درس الاقتصاد السياسي وكان من هواة الرقص. وكان علي رضا قد نال جوائز في الرقص الغربي. أما نديدة وفريدة فهمي فتخرجتا في قسم الأدب الإنكليزي في كلية الآداب. تعرف محمود رضا على فريدة فهمي وكانت شريكته في الرقص في حفلات نادي هليوليدو الرياضي.
تقرر إنشاء الفرقة الفولكلورية وكانت في البداية "مؤسسة عائلية". حسن فهمي دعم المشروع فكرياً وعملياً. إذ هو سمح لابنته فريدة أن تكون الراقصة الأولى في الفرقة. وقد أدرك موهبتها عندما كانت في الثامنة من عمرها ورقصت في حفل في كلية الهندسة، بل إنه اشترى لها بدلة رقص. ولم تكن بنات العائلات يحترفن الرقص لأن نظرة المجتمع إلى هذه المهنة كانت سلبية. وكانت فريدة فهمي الأولى التي كسرت التقاليد، بل إنها حوّلت المهنة من "رقّاصة" إلى راقصة. الأم خديجة أخذت على عاتقها مهمة تصميم الملابس، تساعدها ابنتها نديدة. وكان أفراد الفرقة جميعاً ينادونها "مامي". تولّى محمود رضا مهمة الإخراج وتصميم الرقصات وكان الراقص الأول في الفرقة. أما علي فكان الإداري والمستشار الفني، ولاحقا تحوّل إلى الإخراج السينمائي، وكان فيلما "إجازة نص السنة" ثم "غرام في الكرنك" باكورة أفلامه وكلاهما من بطولة فريدة فهمي ومحمود رضا والفرقة الشعبية.
وبدأت فرقة رضا عروضها سنة 1959 وهي مكوّنة من ست راقصات وستة راقصين، وفرقة موسيقية من 12 عازفاً، بقيادة الموهوب علي إسماعيل الذي ألّف أيضا معظم المقطوعات الموسيقية في العروض. ومنذ البداية رحّب الجمهور بالفرقة الوليدة وأعجب بحداثتها وأناقتها وبحرفية الانطلاق من رقصات وأهازيج فولكلورية لتصير لوحات تشكيلية راقصة جميلة. وفي 1961 أصبحت الفرقة الرائدة تابعة لوزارة الثقافة، وكبر حجمها فأصبحت من 150 عنصراً من الراقصين والموسيقيين والفنيين والإداريين. وقدمت عروضها في أعرق مسارح العالم: في ألبرت هول (لندن) كارنيجي هول (نيويورك) الأولمبيا (باريس) كونغرس هول (برلين) مسرح ستانسلافسكي (موسكو). وفي لبنان أحيت فرقة رضا ليالي مهرجانات عنجر سنة 1974. توفيت نديدة سنة 1960 في عمر الشباب بعد معاناة من داء الروماتيزم في القلب. ظل محمود رضا الراقص الأول لغاية سنة 1972 ومخرج العروض لغاية تقاعده سنة 1990 وكان يرغب في مواصلة العمل لكن الروتين الرسمي لم يسمح بذلك. فريدة فهمي ظلت النجمة الأولى حتى اعتزالها سنة 1983 فسافرت إلى أميركا ونالت درجة الماجستير برسالة في موضوع الرقص الشعبي.
من باب تدريس الهندسة ورعاية فرقة رضا جاء حسن فهمي إلى عمادة المعهد العالي للسينما. ولم يأت خالي الوفاض بل حاملا لمشروع تطويري ومنهج ثوري في التعليم. وأشهد، وأنا تلميذه في السنتين اللتين أمضاهما عميدا، أن الرجل كان سابقا أقرانه في زمانه.
إضافة إلى مهمات العميد كان حسن فهمي أستاذا لمادتين: الترجمة، وهندسة الإنتاج. كانت الترجمة من الإنكليزية إلى العربية. لكن ما تعلمناه منه يصلح للتطبيق في مختلف اللغات. وهو منهج اتبعته في حياتي المهنية. قال لنا: "اقرأ وافهم ثم ابدأ الترجمة. ابحث عن ثلاثة: الفعل والفاعل والمفعول به. ضع خطا تحت كل منها. استوعب "مَنْ فعل ماذا". هكذا تمسك بزمام الجملة. لتكن مثلاً: الرجل أكل التفاحة. هذه العناصر الثلاثة ممكن أن تكون في جملة طويلة، تصل أحيانا إلى حدود فقرة، تتخللها أوصاف وجمل اعتراضية. قد يكون الرجل طويلا، قصيرا، عجوزا، شابا، عصبي المزاج، رائقا، مرتديا سروالا، ضيقا، فضفاضا، الخ، وقد تكون التفاحة حمراء، صفراء، طازجة، لذيذة، الخ…. وبعدما تستوعب المعنى الأساسي والتفاصيل ابدأ الصياغة، واحرص على أن تجعل القارئ يعيش النص كما لو أنه مكتوب أساساً باللغة العربية"!
في مادة هندسة الإنتاج علّمنا كيف ننشئ مؤسسة إنتاجية، وكيف نضع خطة العمل فيها، وكيف نديرها. ما زلت أذكر تفصيلا طريفا يتعلق بالترقيم، وترقيم الغرف تحديدا. قال "إذا أعطاك موظف الاستقبال في الفندق مفتاح غرفتك وكان الرقم 819. فلا تسأل في أي طابق. غرفتك في الطابق الثامن ورقمها 19. ستجد الرقم على الباب 819. افتح وادخل على مسؤوليتي"!
لكن الأهم من هذا وذاك هو رؤية حسن فهمي التقدمية لقضية التعليم. كانت مواد التدريس في معهد السينما في معظمها مهنية: إخراج، ومونتاج، وسيناريو، وتمثيل، وتصوير، إلخ مع بعض المواد التثقيفية: دراما، موسيقى، علم النفس، علم الاجتماع. رفع حسن فهمي نسبة المواد التثقيفية وأضاف إليها أبوابا، على حساب المواد المهنية. قال "إذا أراد الطالب أن يتعلم المونتاج فبوسعه أن يشترك في دورات تدريبية في أحد الاستوديوهات مع مونتير محترف. سيتعلم القص واللصق وترتيب المشاهد حرفيا. وسيبدأ مساعد مونتير إلى أن يصبح المونتير. الطالب الأكاديمي ينبغي أن يعرف أكثر من ذلك. ينبغي أن تتسع مداركه لكي يصبح المونتاج عملية إبداع. قال: الطالب عندي هو فنان artist وليس مجرد حرفي artisan".
وقال حسن فهمي: "لا أريد طلبة يحفظون عن ظهر قلب. بل طلبة يفهمون ويبتكرون. الطالب ليس آلة تسجيل تختزن المعلومات وفي نهاية الموسم الدراسي نضغط على زر التشغيل لنسمع ماذا اختزن الجهاز"! لذلك فإن الامتحانات خصوصاً في السنة الأخيرة، سنة التخرج، ستجري في قاعة المكتبة". "ماذا؟" صاح الأساتذة في استنكار. "امتحان في المكتبة، يعني الكتب في متناول يد الطلبة، ينقلون منها براحتهم وعلى هواهم ؟" أجاب حسن فهمي: "لمَ لا؟.. وقت الامتحان محدد بساعتين. والطلبة نوعان: نوع قرأ وحلل وفهم مادة الدراسة، وطالب حفظ عن ظهر قلب لكنه لم يفهم ولم يقرأ كفاية. الطالب من النوع الأول سوف يستوعب السؤال، ولأنه قرأ طوال السنة، فهو يعرف أن الإجابة الوافية والصحيحة عن السؤال موجودة في المراجع التالية… ولسوف يتناول هذه المراجع من الرفوف ويبدأ في كتابة الجواب. أما الطالب من النوع الثاني، فلأنه خلال العام الدراسي لم يقرأ بما فيه الكفاية، فلسوف تنقضي الساعتان وهو ما زال يبحث عشوائياً عن المرجع المفيد وقد ينتهي الوقت وهو لم يهتدِ إلى المرجع". وأضاف حسن فهمي موجهاً كلامه إلى الأساتذة المعترضين: "العبرة في كيفية وضع السؤال. وهذا الأمر يتطلب منكم أيضاً براعة خاصة. تنتظرون إجابة مبدعة؟ يجب أن يكون السؤال مبدعاً. لعلمكم سوف أحذف الأسئلة التي من نوع: أذكر ما تعرفه عن…. ما هي العوامل التي أدت إلى …. عرّف ما يلي….. سأرفض كل الأسئلة التي تتطلب حفظاً ببغائيا عن ظهر قلب. يجب أن يكون السؤال به ابتكار. يحث على البحث. الامتحان ليس عملية تسميع محفوظات، بل اكتشاف مدى استيعاب الطالب للمادة ومدى قدرته على التحليل والابتكار". وقال أيضاً: "أنتم يا أساتذة حين تكتبون مقالاً أو بحثاً، ألا تضعون المراجع بجواركم؟ وعندما تستشهدون برأي لباحث آخر هل تتكلون على ذاكرتكم في الحفظ فقط فيرد الاستشهاد "بما معناه" بدلاً من أن يكون تضمينا أمينا؟ أم تنقلون من المرجع ما ترونه مناسباً لبحثكم ثم تذكرون في الهامش: اسم المؤلف وعنوان المرجع واسم الناشر وتاريخ الطبعة ورقم الصفحة التي اقتبس الاستشهاد منها؟ لماذا تبيحون لأنفسكم الاعتماد على المراجع وترفضون أن يلجأ الطلبة إلى الأمر ذاته؟".
واحتدم النقاش بين منطقين: التجديد والتقليد. رفض قدامى الأساتذة فكرة إجراء الامتحان في قاعة المكتبة بذريعة "أن دا ما حصلش قبل كدا". فردّ حسن فهمي قائلاً: "يحصل! ولمّا يحصل أول مرة ح يحصل بعد كدا. ولو ما حصلش ح نفضل نكرر اللي حصل قبل كدا ومش ح نتطور". وفي النهاية انتصرت الأكثرية على الرأي المنفرد، ولم تتحول المكتبة إلى قاعة امتحانات. لكن حسن فهمي تمكن من حذف الأسئلة التقليدية. ولم يكن بالإمكان أفضل مما كان.
غادر حسن فهمي معهد السينما وعاد إلى قواعده في كلية الهندسة حتى تقاعده. الرجل الذي أطلق أفكاراً طليعية في موضوع منهج التعليم في منتصف ستينيات القرن العشرين مات يوم الرابع من مايو/أيار سنة 1982 عن عمر ناهز الخامسة والسبعين. مات ولم يشهد تحقق مشروعه. بل إننا اليوم في سنة 2019 وما زلنا على خطى السلف نجترّ "اللي حصل قبل كدا".