"خفض التصعيد".. استراتيجية روسيا في حسم الصراع السوري عسكريًّا

04 يوليو 2018

دخان قذائف النظام السوري على شرق درعا (30/6/2018/فرانس برس)

+ الخط -
بعد تسريباتٍ إعلامية عن تفاهمات روسية - إسرائيلية بشأن منطقة خفض التصعيد في جنوب غرب سورية، أطلق النظام السوري حملةً عسكريةً، تستهدف السيطرة عليها بالقوة أو عبر فرض اتفاقات استسلام على فصائل المعارضة الموجودة فيها، في استعادةٍ لسيناريو الغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي؛ ما أعاد طرح التساؤل ما إذا كانت مناطق خفض التصعيد التي ابتدعتها روسيا مجرّد خدعةٍ للقضاء على المعارضة المسلحة، وإعادة فرض سيطرة النظام على هذه المناطق بالتدريج.

إنشاء مناطق خفض التصعيد قبل الإجهاز عليها
بعد سقوط مدينة حلب بيد قوات النظام السوري في كانون الأول/ ديسمبر 2016، واتفاق روسي - تركي تضمّن سحب قوات المعارضة من جزء المدينة الشرقي، بعد معارك كبيرة، أطلقت موسكو مسار أستانة الذي أصبح ثلاثيًا بانضمام إيران إليه. وبعد جولاتٍ تفاوضية عديدة، توصلت "الدول الضامنة"، في 4 أيار/ مايو 2017، إلى اتفاقٍ لإنشاء أربع مناطق لخفض التصعيد: إدلب، وريف حمص الشمالي، والغوطة الشرقية، والمنطقة الجنوبية. ولاحتواء الدور الإيراني على ما يبدو، نسّق الروس مع أطرافٍ خارجيةٍ مختلفة تفاصيل تنفيذ اتفاقات خفض التصعيد في كل منطقةٍ من هذه المناطق، فتم على هامش قمة دول مجموعة العشرين في مدينة هامبورغ الألمانية في 7 تموز/ يوليو 2017، التوصل إلى اتفاقٍ مع واشنطن حول إقامة منطقة خفض تصعيد في جنوب غرب سورية، ووضعت تفاصيله بمشاركة الأردن، في اتفاقٍ لاحق في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017. وفي تموز/ يوليو 2017، أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن الاتفاق مع فصائل المعارضة السورية، عبر وساطة مصرية، على آليات خفض التصعيد في الغوطة الشرقية، وريفي حمص الشمالي وحماة الجنوبي. وخلال الجولة السادسة من مفاوضات أستانة، توصل الروس والإيرانيون والأتراك، في منتصف أيلول/ سبتمبر 2017، إلى اتفاقٍ على تفاصيل منطقة خفض تصعيد التوتر في إدلب، والتي شملت أجزاء من أرياف حماة، وحلب، واللاذقية. وجرى الاتفاق برعايةٍ مصريةٍ بين الروس وفصائل من المعارضة المسلحة، في 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2017 على ضم مناطق ريف دمشق الجنوبي إلى منطقة خفض التصعيد في الغوطة الشرقية.
وفي حين كانت روسيا تضع تفاصيل مناطق خفض التصعيد، دخلت في سباقٍ مع الأميركيين للسيطرة على الأراضي التي كان يحتلها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وفيما سيطرت 
واشنطن، عبر حلفائها الأكراد، على مناطق شرق الفرات، تمكّنت موسكو من انتزاع أكثر مناطق "داعش" في مناطق البادية السورية وغرب الفرات، وصولًا إلى دير الزور. سمح هذا التطور للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بأن يعلن من موسكو عن إيقاع "الهزيمة الكاملة" بمسلحي "داعش" على ضفتي نهر الفرات، وذلك قبل أن يصل إلى قاعدة حميميم الجوية، ليؤكد منها أن "المهمة الروسية ضد تنظيم داعش الإرهابي قد أنجزت تقريبًا"، وأمر بـ "بدء سحب القوات الروسية" من سورية (وهو تكتيك يستخدمه بوتين منذ بداية التدخل الروسي، إذ يعلن بعد كل مرة يحقق فيها أحد أهدافه في سورية عن بدء سحب قواته من دون تنفيذ الانسحاب فعلًا).
لكن روسيا كانت، في حقيقة الأمر، تحضر لبدء سلسلةٍ من العمليات العسكرية، للقضاء على المعارضة المسلحة في مناطق خفض التصعيد تباعًا. وما أن أنهى الرئيس بوتين زيارته الخاطفة إلى حميميم، حتى أطلق النظام السوري، بدعم جوي روسي كثيف، عمليةً عسكرية واسعة في منطقة خفض التصعيد المتفق عليها في إدلب. وبعد ثلاثة أيام على إطلاق العملية، أعلن رئيس هيئة الأركان الروسية الجنرال فاليري غيراسيموف أن مهمة قوات بلاده في عام 2018 ستكون "القضاء التام" على جبهة النصرة في مختلف مناطق خفض التصعيد.
تزامنت العملية العسكرية الروسية في إدلب مع دخول المفاوضات مع تركيا بشأن عفرين، وتحضيرات مؤتمر "الحوار الوطني السوري" في سوتشي مرحلةً حاسمة، انتهت بإعطاء موسكو الضوء الأخضر للأتراك لإطلاق عملية عسكرية ضد وحدات حماية الشعب في منطقة عفرين في ريف حلب الشمالي الغربي. في هذه الأثناء، تمكّنت قوات النظام من السيطرة نهائيًا على مطار أبو الضهور في ريف إدلب الشرقي بعد معارك طاحنة، تدخلت فيها تركيا عسكريًا لأول مرة في رد على انتهاك النظام ما سمي حينها اتفاق "سكة الحجاز" الذي تم التوصل إليه في أستانة في منتصف أيلول/ سبتمبر 2017 بين رعاة مناطق خفض التصعيد الثلاث، ونص على إنشاء منطقتين: الأولى بين سكة الحديد وطريق حلب - حمص، وهي منطقة عمليات عسكرية لروسيا ضد هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا)، بحيث تضم هذه المنطقة إلى مناطق النظام. والثانية بين الطريق وريف اللاذقية غربًا، وهي منطقة خفض التصعيد التي تسيطر عليها فصائل المعارضة المدعومة من تركيا.
أثمرت التوافقات التركية - الروسية التي سمحت لتركيا بدخول عفرين، في مقابل الضغط على فصائل في المعارضة للمشاركة في مؤتمر سوتشي الذي كان مهدّدًا بالفشل، عن توقف عملية إدلب، وتوجه قوات النظام إلى غوطة دمشق الشرقية.
أطلق وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، الهجوم على الغوطة بتصريحٍ قال فيه إن "تجربة تحرير حلب يمكن تطبيقها في الغوطة". وبعد أيام، شن النظام، مدعومًا بالروس، هجومًا متعدّد المحاور على مواقع فصائل المعارضة في الغوطة، انتهى إلى فرض اتفاقيات "مصالحة" هجّرت مسلحي المعارضة من مناطقهم وقراهم مع أسرهم إلى الشمال السوري الواقع تحت سيطرة فصائل معارضة قريبة من تركيا.
خلال أيام، لاقت المصير نفسه الفصائل المعارضة في قرى القلمون الشرقي وبلداته، وأحياء القدم والعسالي في جنوب العاصمة، إضافة إلى بلدات بيت سحم، وببيلا، ويلدا في الريف الجنوبي لدمشق، ومدن ريفي حمص الشمالي وحماة الجنوبي وبلداتهما. ولم يتبق سوى مجموعة صغيرة من تنظيم داعش في حي الحجر الأسود، جرى التفاوض معها على الخروج بعد معارك شرسة. واكتسى اتفاق إجلاء هيئة تحرير الشام من مخيم اليرموك في جنوب دمشق أهمية خاصة؛ لأنه جاء ضمن صفقة شملت أيضًا إخلاء سكان بلدتي كفريا والفوعة، اللتين تقطنهما أغلبية شيعية وترعاهما إيران، في ريف إدلب الغربي.

توزع مناطق السيطرة ومستقبلها
ومع اقتراب النظام من تطهير مناطق سيطرته، في ما تسمى "سورية المفيدة"، من أي وجود 
مسلح سمحت به اتفاقات خفض التصعيد التي جرى التوصل إليها عبر القاهرة، لم يتبق سوى منطقتي خفض التصعيد في جنوب غرب سورية (درعا والقنيطرة) التي تخضع لتفاهمات روسية – أميركية - أردنية، ومنطقة إدلب التي تخضع لتفاهمات تركية – إيرانية - روسية. وقبل أن يبدأ النظام الهجوم أخيرا على منطقة خفض التصعيد في الجنوب، برزت في سورية أربع مناطق نفوذ رئيسة، تحكمها تفاهماتٌ مختلفة، كما يلي:
• ما تسمى سورية المفيدة؛ وهي أكبر تلك المناطق، يسيطر عليها النظام وتخضع لاتفاقات تنظم علاقة النظام بكل من الإيرانيين والروس، فضلًا عن تفاهمات بين موسكو وطهران، يتخللها تنافس خفي. وقد أصدر رئيس النظام السوري، بشار الأسد، قوانين تستكمل تهجير أعدائه، بسلب حقوقهم المالية والعينية، كان أهمها المرسوم رقم 10 الذي يفوّض البلديات صلاحيات إقامة مناطق تنظيمية في الوحدات الإدارية.
• منطقة شرق نهر الفرات، إضافة إلى جيبي التنف والركبان، والتي يحكمها جميعًا اتفاقا هامبورغ ودا نانغ، بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، وكرّسا اتفاق عدم التصادم الروسي - الأميركي لعام 2015. وقد استخدمت واشنطن في مناسباتٍ عديدة القوة الساحقة ضد محاولات النظام والروس والإيرانيين اختبار التزامها تجاه استقرار هذه المناطق. وتشترك فرنسا والسعودية في تفاهماتٍ مع الجانب الأميركي بشأن الترتيبات الخاصة بشرق الفرات، في حين تعبر تصريحات مسؤولين أتراك عن اهتمامهم بمصير هذه المناطق، خصوصًا الرقة والقامشلي في محافظة الحسكة.
• الشريط الحدودي بين مدينة جرابلس على الضفة الغربية لنهر الفرات في شمال شرق محافظة حلب، وحتى أقصى شمال غرب محافظة اللاذقية، تشرف عليه تركيا. وقد ضم الجيش التركي إلى الشريط منطقة عفرين، وسمح اتفاق سكة الحجاز لتركيا بنشر نقاط مراقبةٍ في مواقع عديدة في أرياف إدلب، وحماة، واللاذقية وحلب، إحداها في عمق الأراضي السورية على مسافة 200 كم من خط الحدود التركية - السورية. وتُحكم هذه المنطقة بتفاهمات روسية – تركية، تسعى إيران إلى تعطيلها أو اللحاق بركبها. وتكثر في هذا الشريط المجموعات العسكرية الفاعلة؛ إذ باتت مدنه وقراه المحطة النهائية لمجموعات المعارضة المسلحة المهجّرة من مناطقها السابقة.
• منطقة جنوب غرب سورية؛ وهي منطقة أسسها اتفاق روسي – أميركي – أردني، جرى التوصل إليه على مرحلتين في صيف وخريف 2017، لكنها تتعرّض حاليًا لهجوم كبير من النظام، في محاولة استعادة السيطرة عليها، وضمها إلى مناطق سيطرته. وقد حاول الأردن التوصل إلى تفاهم مع روسيا لالتزام اتفاق خفض التصعيد بالمنطقة، لكن موسكو رفضت ذلك. وأبلغ لافروف وزيرَ الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، الذي سعى إلى انتزاع ضمانة روسية لتجنيب درعا مخاطر مواجهة عسكرية، أن "مناطق خفض التصعيد لا تشمل الجماعات الإرهابية، التي يجب القضاء عليها"، في إشارة إلى المنطقة الجنوبية.
في المقابل، كانت روسيا قد توصلت إلى اتفاق مع إسرائيل، يسمح للنظام باستعادة السيطرة على المنطقة الجنوبية، شريطة إبعاد إيران ومليشياتها عن الحدود بين سورية والجولان المحتل. ويبدو أن هذا الاتفاق جزء من اتفاق روسي - أميركي أشمل (بالتفاهم مع إسرائيل)، يتضمن إخراج إيران كليًّا من سورية، في مقابل إعادة تأهيل النظام، والسماح له ببسط سلطته على أكثر أجزاء البلاد؛ ما يعني قبول إسرائيل النظام السوري مع روسيا ومن دون إيران، ويفتح احتمالات متعدّدة مستقبلًا.

خاتمة
تبيّن، بمرور الوقت، أن مناطق خفض التصعيد لم تكن سوى خدعة روسية، هدفها الأساسي
حسم الصراع في سورية عسكريًّا لمصلحة النظام، والقضاء بالقوة على فصائل المعارضة، بعيدًا عن أي حل يتضمن انتقالًا سياسيًا للسلطة. وبعد الإنجازات العسكرية أخيرا، أصبح النظام أشدّ تصلبًا تجاه استئناف مفاوضات جنيف؛ إذ فشلت الجولة الثامنة منها التي عُقدت في كانون الأول/ ديسمبر 2017، في تحقيق أي تقدم؛ بسبب رفض وفد النظام بحث أي موضوع، قبل "إعادة سلطة الدولة على جميع الأراضي السورية وتحريرها من الإرهاب"، على حد قول رئيسه.
بالمثل، بات الروس أكثر تشددًا في رفضهم مسار جنيف، بعد فوز بوتين بولاية رئاسية جديدة. كما غدت أكثر وضوحًا نياتهم المبيتة في تصفية منطقتي خفض التصعيد في جنوب غرب سورية (درعا والقنيطرة) وشمالها الغربي (إدلب)، بالتوازي مع مساعٍ لاستبدال مسار أستانة ونتائج مؤتمر سوتشي بمسار جنيف. ويسعى الروس إلى التحكم في نتائج أي عملية سياسية محتملة، عبر إعادة فرض وقائع على الأرض بالقوة، أو من خلال مصالحات محلية في المناطق التي يصلها جيش النظام، وتقليصها إلى مجرد مفاوضاتٍ على حدود صلاحيات المركز والأطراف في الدستور، وتعديل عدد من القوانين، كمرسوم الإدارة المحلية رقم 107، ومرسوم إحداث مناطق تنظيمية رقم 10.
تتطلب هذه الاحتمالات من المعارضة العمل على وضع إستراتيجية سياسية جديدة، تتعلق بمجمل سورية، وليس بهذه المنطقة أو تلك، تستهدف إفشال المخطط الروسي الساعي إلى إعادة تأهيل النظام، بالتواطؤ مع إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول العربية والأوروبية. كما أن المعارضة مدعوةٌ إلى التمسّك برفض إصباغ الشرعية على الأمر الواقع، مع التركيز على مقاضاة النظام، وكل من يسانده أمام المحاكم الدولية والوطنية التي تقبل دعاوى متعلقة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، راح ضحيتها مئات الآلاف من السوريين.