دخل إلى الغوطة وخرج من التاريخ

15 ابريل 2018
+ الخط -
بالابتعاد قليلاً عن تفاصيل المشهد السوري المتغير بين صبح ومساء، ناهيك عما يكتنفه من عدم يقين يستبد بكل الأطراف المنخرطة في صراعٍ دخل عامه الثامن، والحبل على الجرّار، وفضلاً عما يعلو في فضائه من أدخنة وغبار ركام، ودوي طائرات، وسحابات موتٍ بالجملة، تشوّش الرؤية بالضرورة، وتحول دون إجراء تقدير موقفٍ واقعيٍّ لما قد ينجلي عنه هذا المشهد شديد الاضطراب، نقول؛ يقدم الابتعاد عن التفاصيل التي لا حصر لها برهةً لإعمال العقل، ويمنح الذهاب في الزمن إلى الأمام مسافة كافية، فرصة للتأمل في المألات المحتملة، والقيام من ثمّ بالمقاربات الأقل انفعالاً بمخاض هذه اللحظة المفتوحة على تطوراتٍ قد تخرج عن نطاق السيطرة لدى كل الأطراف.
قبل أن تقع الضربة العسكرية الزلزالية، المنسقة بين أقوى القوى الغربية (قد تنشب قبل نشر هذا المقال)، وتفضي نتائجها الأولية إلى إعادة خلط الأوراق بشدة، وتمد في عمر المأساة المروّعة إلى أجل أطول، وتزيد من تعقيداتها الهائلة، بدا اتجاه الرياح، العابقة بروائح الدم والدمار، يهب مؤاتياً لصالح أشرعة سفينة ما تبقى من نظام الأسد، ناهيك عن داعميه الروس، وحلفائه من المليشيات المذهبية الإيرانية. وفيما بدا وارث الحكم عن أبيه أبعد من أي وقت مضى عن السقوط الذي كان يقف على مشارفه قبل نحو عامين وأكثر، وفي منأى حتى عن المساءلة عما قارفه من جرائم مروّعة، بدت الكارثة المديدة، في المقابل، أبعد ما تكون عن خط النهاية المرجوة، إن لم نقل إنها صارت بعيدة المنال. فقد جاءت معركة الغوطة الشرقية التي 
بدأت قبل أكثر من ثلاثة أشهر دامية، وجرت فصولها الحزينة وسط ما يشبه حالة تخلٍ غير مفهومة من الجميع، بمن فيهم الفصائل المسلحة، عن مصير أهم قلاع الثورة السورية على الإطلاق، نقول جاءت هذه المعركة أشد هولاً من معركة حلب الفارقة في مسار ثورة الحرية والكرامة، وشكلت نقطة تحول أعمق وأوسع من كل ما عداها من انتكاساتٍ موجعة. كما بدا كل ما كانت تنذر به الحملة الجوية المركزة، وما تشي به تداعيات هذه الخسارة الباهظة، ناهيك عن سائر ما أخذ يلوح في الأفق القريب من مضاعفاتٍ ثقيلة الوطأة على حاضر ومستقبل أعظم ثورة عربية شعبية معاصرة، يصبّ القمح كله في الطاحونة الأسدية، ويعد في الوقت ذاته بانتصار إيراني على رؤوس الأشهاد.
غير أن سوء التقدير، المعطوف على عماء بصيرةٍ مزمنة، لدى الخائض حتى الرّكب في دماء شعبه، وحدث ولا حرج عن الغرور المؤدّي إلى التهلكة دائماً، إلى الدفع بالديكتاتور لتكرار مغامرةٍ سبق له أن أفلت من عقابيلها مراراً، حين قرّر أن ينهي حرب الإبادة على سكان الغوطة الشرقية بأسرع وقت ممكن، وتسوية الحساب المؤجل طويلاً مع تلك الكتلة السكانية التي أذاقته كؤوساً طافحات من الدم، وذلك بضربة كيميائية واحدة، تملي على آخر الفصائل المقاتلة الاستجابة لشروط الانسحاب من دوما بلا مساومة، وإثارة الذعر في المحيط الجغرافي الواسع من خطر السلاح الكيميائي، وبالتالي حمل السكان المنهكين على مغادرة حزام دمشق، تمهيداً لإعادة هندسة ديموغرافيا العاصمة على نحو طائفيٍّ، وإحداث حالة تماثل حزام بغداد، فكانت تلك هي الخطيئة التي لا يمكن إصلاحها.
وهكذا اختار الأسد، ربما بتشجيع إيراني، استكمال عملية الدخول إلى الغوطة، ليس فقط تحت غطاء أسراب الطائرات الروسية المغيرة على دوما (250 غارة خلال 24 ساعة في اليوم الأخير قبل استخدام الكيميائي) وإنما أيضاً تحت غطاء سحابة ثقيلة من الغازات المميتة، الأمر الذي قوّض لديه إنجازاً عسكرياً بات في قبضة اليد، وأوقعه في المحظور كله، ثم فتح عليه ناراً حاميةً من جانب رئيس أميركي كان قد أشاع لدى الأسد طمأنينة مؤقتة، بقرب انسحاب الدولة العظمى الوحيدة من شرق سورية، ناهيك عن التطمينات المجانية من جانب من ليس بيدهم الحل والربط، القائلة إن الأسد باقٍ في سدة الحكم إلى ما شاء الله، وهو ما بدا أنه تسليم بحقائق الأمر الواقع في حينه.
ليس بالتحليل السياسي وحده يمكن استنتاج أن الأسد قد دخل الغوطة كي يخرج من التاريخ، ولو على نحو تدريجي، ولا بالدفاع عن صحة هذه الفرضية بالكلام المرسل على عواهنه أيضاً، وإنما بحكم هذه العاصفة النارية المرتقبة التي استجرّها الفعل الكيميائي الطائش بكل المعايير، وبفعل كل هذه المضاعفات المترتبة على الاصطدام بقوى غربية مدجّجة بالقوة الكاسحة والمزاعم الأخلاقية الباهتة، وهي قوى لم يسبق لها أن توافقت هكذا (أميركا وبريطانيا وفرنسا) على خصم لها إلا في مرات نادرة، كما لم يسبق لها أيضاً أن حاربت عدواً مشتركاً من دون أن تطيحه في نهاية مطافٍ قد لا يطول كثيراً، على نحو ما يخبرنا به التاريخ الحديث، منذ أدولف هتلر وحتى صدام حسين ومولوسيفتش ومعمر القذافي، وها هو الأسد الذي يبدو أنه لا يرى أبعد من أرنبة أنفه، قد وقع في الفخ نفسه.
ولعل السؤال هو، ما معنى مفهوم خروج الأسد من التاريخ، مجللاً بعار ارتكاب جرائم حربٍ 
موصوفةٍ، وجرائم أخرى ضد الإنسانية، ناهيك عن لقب "حيوان"؟. وهل يفسح الابتعاد عن المشهد الراهن قليلاً، والتقدّم في مسار الزمن إلى الأمام مسافة كافية، وفق ما اقترحته بداية هذه المطالعة، للابتعاد عن فيضٍ متلاطمٍ من التفاصيل المتدفقة بلا انقطاع في كل لحظة، وللقيام من ثمّة بمقاربةٍ نظريةٍ متماسكة، تقود إلى الاستنتاج القابل للنقاش الهادئ، وهو أن بداية النهاية لحكم آل الأسد المتواصل منذ نحو نصف قرن، قد كُتب مبتدأها في درعا في مارس/ آذار 2011، فيما كتبت الغوطة الشرقية خبرها اليقين في إبريل/ نيسان 2018؟.
إذ على يديّ بشار الأسد، القابض على حكم الأقلية الأكثرية بالقمع والاستبداد، وجرّاء تمسكه بالسلطة المطلقة مهما كان الثمن (الأسد أو نحرق البلد) انتهت سورية التي كنا نعرفها إلى غير رجعة، وذهبت معها السيادة ووحدة البلاد الجغرافية والاجتماعية، وتشرّد من بيوتهم نحو نصف السكان، وتم إفقارهم بشدة، وضاعت حيوات مئات الألوف من الناس تحت القصف وفي أقبية التعذيب، ولا يتسع المقام لوصف ما آلت إليه أحوال أهم بلد عربي في شرق المتوسط، الأمر الذي يطرح السؤال الذي لا مفر من طرحه؛ هل كانت هذه النتيجة الكارثية تستحق كل هذا الثمن الباهظ؟ وهل بقي هناك، في غمرة هذا الركام والضياع والأوجاع، ما يجيز لأيٍّ كان الحديث عن انتصار، أو الادعاء بكسب الحرب التي تلد كل جولة ضارية فيها جولةً أشد ضراوةً من سابقتها؟
وهكذا، فإنه إذا بقي لبشار الأسد مكان ما في التاريخ، وانتزع لنفسه سطراً في مدونة الطغاة الكبار، فإنه سيحتفظ لعهده الأسود بالمكانة الوضيعة، المخصصة حصراً لقلةٍ قليلةٍ من الحكام العابرين في زمنٍ عابر.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي