عام على الانسحاب من الاتفاق النووي: حرب الاستراتيجيات الأميركية والإيرانية إلى أين؟

08 مايو 2019
أي مناوشة يمكن أن تشعل مواجهة (عطا كيناري/فرانس برس)
+ الخط -

بحلول اليوم الأربعاء، تكون قد مرت سنة كاملة على الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، المبرم بين إيران والمجموعة السداسية الدولية في يوليو/تموز 2015، والذي لم يكن مجرد إجراء اتخذه الرئيس الأميركي دونالد ترامب للخروج من اتفاق دولي ظل يهاجمه، أو لمحاربة ما يرتبط بتراث سلفه باراك أوباما، أو لتنفيذ أحد أهم وعوده الانتخابية. بل إنه تجاوز تلك الدلالات الظاهرية إلى ما هو أعمق، ليُعتبر بداية مرحلة جديدة من صراع عمره أربعة عقود بين بلاده وإيران، أغلقت بالشمع الأحمر ثغرة صغيرة، فتحتها دبلوماسية أوباما في الجدار السميك من انعدام الثقة والتوجس بين الجانبين، الأمر الذي جعل التصعيد عنواناً للمرحلة الجديدة من الصراع، تتكشف فصوله الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية والإعلامية، واحدة تلو الأخرى يوماً بعد آخر، مع تأكيد الجانبين، الأميركي والإيراني، أنهما بصدد الإعلان عن جملة قرارات وإجراءات، اليوم الأربعاء، في مواجهة الآخر، ما سيعقد الأمور أكثر، ويُنذر بجولة تصعيد خطيرة مع الدخول في العام الثاني للانسحاب الأميركي من الاتفاق.

واستبقت الإدارة الأميركية إعلان الرئيس الإيراني حسن روحاني عن جملة قرارات نووية، من دون الخروج من الاتفاق، بإرسال قوة بحرية ضخمة إلى مياه الخليج، بالإضافة إلى قاذفات إلى الشرق الأوسط، وسط تسريبات عن استعداد إيران لتوجيه ضربات إلى القوات الأميركية في المنطقة، فيما وصف المتحدث باسم المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني كيوان خسروي هذا الأمر بأنه "حرب نفسية مستهلكة".

وكان الظن الغالب في طهران، قبل أن ينفذ ترامب وعده بالانسحاب من الاتفاق النووي، أنه لن يفعل ذلك، باعتبار أنه اتفاق دولي مدعوم بالقرار الأممي رقم 2231. وكلما كانت تمر أسابيع وأشهر على توليه الرئاسة الأميركية، كلما تتعزز هذه القناعة لدى الإيرانيين. وحتى المتشددين المعارضين للاتفاق قبل المؤيدين له، كانوا يعلنون أن الرئيس الأميركي "لن ينسحب من الاتفاق النووي"، وهو مانشيت صحيفة "كيهان" المحافظة حينها. لذلك كانت طهران تعتبر تهديدات واشنطن في هذا الصدد، كمحاولة للضغط عليها وجّرها إلى تعديل الاتفاق، لإنقاذ ترامب نفسه من ورطة "وعد لا يطبق"، مهددة، في الوقت ذاته، بأنه في حال مزقت الإدارة الأميركية الاتفاق فإنها ستحرقه. لكن ترامب قرر، في مثل هذا اليوم من العام الماضي، تنفيذ تهديداته والخروج فعلاً من الاتفاق، من دون أن تحرقه إيران في المقابل.

وجد ترامب أن الاتفاق قد أفقد بلاده أدوات ضغط على إيران بشأن ملفات أخرى، وفي مقدمها دورها الإقليمي المتصاعد على حساب الدور الأميركي، ليُرجع الخطوة للسعي للوصول إلى اتفاق شامل معها، يغطي جميع تلك الملفات، منها ما يرتبط ببرنامجها الصاروخي أو ما يتعلق بنفوذها ودورها الإقليميين، بالإضافة إلى الملف النووي، مع اختصار الأهداف المبتغاة من كل ذلك في عنوان واحد رسمياً، وهو "تغيير سلوك إيران"، داعية الأخيرة إلى التفاوض تحت طائلة الشروط الـ 12 التي طرحها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، بعد أيام من الانسحاب من الاتفاق النووي، وهو ما اعتبرته طهران محاولة "خطيرة" لتغيير نظام حكمها السياسي، قبل أن تصفها بأنها "تعجيزية وغير قابلة للتطبيق".

استراتيجية "الضغوط القصوى"

بصرف النظر عن أن الهدف هو "تغيير سلوك إيران"، أو تغيير نظامها عبر تحريض الشارع الإيراني على ذلك، كما يقول قادتها، بدأت إدارة ترامب تمارس، في سبيل تحقيقه، استراتيجية "الضغوط القصوى"، عبر سلاحها الرئيسي، "العقوبات الاقتصادية" المرفوعة أساساً بموجب الاتفاق نفسه، والمشفوعة بحرب نفسية وإعلامية كبيرة، لتهدم عودتها ركناً أساسياً من ركني الاتفاق، المتمثلين في تعهدات نووية إيرانية من جهة، ورفع العقوبات الاقتصادية عن طهران من جهة أخرى، ما حوّل عملياً الاتفاق النووي إلى اتفاق من جانب واحد، لتلتزم إيران بتعهداتها طيلة العام الذي مضى على الانسحاب الأميركي منه، وهو ما أكدته الوكالة الدولية للطاقة الذرية في 14 تقريراً أصدرته منذ بدء سريان الاتفاق في يناير/كانون الثاني العام 2016 إلى يومنا هذا. لكن مع انتفاء المقابل، بعدما صفّرت العقوبات الأميركية، بحسب مسؤولين إيرانيين، المنافع الاقتصادية التي كانت تتوخى طهران أن تجنيها من الصفقة النووية. وربما أحد دوافع ترامب "التاجر" في هذا الخصوص، وفقاً لمحللين إيرانيين، أن بلاده، التي أنجزت الصفقة، لم تكتسب منها أي منفعة اقتصادية لعدم وجود علاقات سياسية بين الجانبين، وأنها كانت تذهب إلى بقية الشركاء، أي إيران وأوروبا والصين وروسيا، يهدف إلى أن تكون المنافع صفرية للجميع.



وأتت العقوبات على مرحلتين رئيسيتين، في أغسطس/آب ونوفمبر/تشرين الثاني العام 2018، لحقتها عقوبات مشددة أخرى، آخرها وقف تجديد الاستثناءات الممنوحة لثماني دول من مشتري النفط الإيراني، في خطوة تستهدف تصفير الصادرات النفطية الإيرانية لحرمان طهران من مواردها بالعملة الصعبة، بحسب تصريح للرئيس الإيراني حسن روحاني، قبل أيام. وأثقلت العقوبات كاهل الاقتصاد الإيراني لتصبح مؤشراته سلبية، إذ فقد الريال (كل دولار يساوي نحو 42100 دينار) أكثر من 150 في المائة من قيمته خلال عام واحد، مع تسجيل نمو اقتصادي سلبي بنسبة 3.8 في المائة، الأمر الذي تسبب في تضخم بنسبة 30 في المائة بحسب الإحصائيات الرسمية، وارتفاع هائل في أسعار السلع الضرورية وغير الضرورية. واستهداف واشنطن الخاصرة الأضعف لطهران، أي اقتصادها، وإعادة العقوبات من جديد بشكل أوسع وأكثر شمولاً من قبل، جاء في وقت لم يتعاف فيه بعد من الشلل جراء العقوبات الأميركية والأوروبية والأممية قبل التوصل إلى الاتفاق النووي في 2015. صحيح أن العقوبات المفروضة اليوم، أميركية نظرياً، وليست أوروبية أو أممية، لكن سيطرة الولايات المتحدة الأميركية على الاقتصاد العالمي، جعلتها عقوبات عالمية بامتياز، ترضخ لها الدول والقوى الإقليمية والدولية، خوفاً على مصالحها التجارية والاقتصادية مع واشنطن، والتعرض لعقوبات مماثلة. وحال هذا الأمر دون ترجمة الدعم السياسي والحقوقي الذي حصلت عليه طهران من الأمم المتحدة وبقية شركاء الاتفاق النووي وغالبية دول العالم في مواجهة الموقف الأميركي من الاتفاق إلى دعم اقتصادي لها. أي أن العزلة السياسية والقانونية، التي تقول إيران إن الإدارة الأميركية وضعت نفسها فيها بهذا الموقف، لم يكن لها مردود عملي لها، ما جعلتها وحيدة إلى حد كبير في مواجهة صعوبات مرحلة ما بعد خروج واشنطن من الصفقة النووية.

وما يجعل العقوبات الأميركية أكثر "قسوة" و"تأثيراً" من سابقاتها، أنه خلال العقوبات التي سبقت التوقيع على الاتفاق النووي، كانت الإدارات الأميركية السابقة تعلن أنها ستعاقب الشركات والكيانات التي لها علاقات اقتصادية مع واشنطن فحسب من دون غيرها، في حال انتهاكها للعقوبات على طهران، لكن الإدارة الأميركية الحالية أكدت رسمياً أن عقوباتها ستطاول جميع تلك الكيانات، بالإضافة إلى تلك التي لا تربطها علاقات بالولايات المتحدة، إذا أرادت التعاون مع إيران، ما خلق صعوبات ومشاكل جمة لها للالتفاف على العقوبات المفروضة عليها. وحتى الصين، التي كانت أسست خلال عقوبات ما قبل الاتفاق النووي، بنكاً تجارياً خاصاً، عُرف بـ"كونلون"، لمواصلة التجارة مع إيران، لا ترغب خلال المرحلة الراهنة في تفعيله أو تأسيس بنك مماثل له للغرض نفسه.

وفي موازاة العقوبات الاقتصادية المفروضة طيلة عام انسحاب أميركا من الاتفاق النووي، وبغية تسريع مفاعيلها، لجأت إدارة ترامب إلى قرارات وخطوات غير اقتصادية أيضاً، منها عقد مؤتمر وارسو الدولي في 13 و14 فبراير/شباط الماضي، الذي هدف بالأساس إلى إيجاد إجماع عالمي ضد إيران. لكن لم يتحقق ذلك على ضوء ضعف المشاركة الأوروبية ورفض قوى دولية، كالصين وروسيا المشاركة فيه. ولعل أهم ما منع تشكيل هذا الإجماع خلال الفترة الماضية، هو بقاء طهران في الاتفاق النووي، ليؤكد مسؤولون ومحللون إيرانيون أنه بالرغم من أنه لم يعد يترتب على الاتفاق نفع اقتصادي يُذكر، إلا أن له منافع سياسية لطهران، في مقدمتها الحؤول دون تشكيل هذا الإجماع العالمي الذي تسعى واشنطن إلى تحقيقه بشكل جاد.

لكن أخطر ما أقدمت عليه إدارة ترامب حيال إيران، خلال العام الأخير، هو تصنيف "الحرس الثوري" الإيراني "جماعة إرهابية" في الثامن من إبريل/نيسان الماضي، لتعطي "نكهة عسكرية" لمفاعيل ضغوطها المتواصلة تجاهها. وكما اعتبرته الإدارة نفسها، كان القرار بمثابة خطوة "غير مسبوقة"، ليس في تاريخ أميركا فحسب، وإنما في تاريخ العلاقات الدولية، إذ لم يسبق أن تصنف دولة ما جيشاً نظامياً لدولة أخرى على أنه "إرهابي". وردت إيران عليها بالمثل، من خلال اعتبار القوات الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، والمعروفة بـ"سنتكوم"، "إرهابية"، وذلك قبل أن تتراجع واشنطن قليلاً عن خطوتها تجاه "الحرس الثوري"، بمنح استثناءات لدول لها علاقات مع هذه المؤسسة العسكرية الإيرانية.



في غضون ذلك، وفي تطور لافت وللمرة الأولى بعد انسحابها من الاتفاق النووي، فرضت الإدارة الأميركية عقوبات نووية على إيران، من خلال وقف إعفاءات للتعاون النووي معها اعتباراً من السبت الماضي، في تعارض صريح مع نصوص الاتفاق، لتطاول بذلك أبعاده الفنية بغية تعطيلها، بعدما ركزت طيلة الفترة الماضية على البعد الاقتصادي. وبموجب هذه العقوبات، ألغت إعفاءين لنقل المياه الثقيلة الإيرانية إلى سلطنة عمان ومبادلة اليورانيوم المخصب بالكعكة الصفراء، وكذلك حظر تطوير مفاعل بوشهر النووي، مع تمديد إعفاءات أخرى تشمل مجالات بحوث علمية ونووية، ليست ذات قيمة كبيرة بالنسبة لإيران بالمقارنة مع تلك التي ألغيت. ويتضح من طبيعة العقوبات النووية أنها تستهدف بالأساس إنتاج إيران من اليورانيوم، لترد عليها الأخيرة على لسان رئيس البرلمان علي لاريجاني أن البلاد ستواصل التخصيب.

إيران و"الصبر الاستراتيجي"

أما فيما يتصل بالسياسة الإيرانية في مواجهة مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، والقرارات والإجراءات والضغوط المتلاحقة بعده طيلة العام الأخير، فمن الواضح أنها ترتكز على "الصبر الاستراتيجي" القائم على قاعدتين أساسيتين، هما "التأقلم مع الواقع الجديد" و"لا تفاوض ولا حرب"، بغية كسب مزيد من الوقت، بانتظار ما ستؤول إليه الأوضاع الداخلية الأميركية ونتائج الانتخابات الرئاسية في العام 2020. وتأمل طهران من خلال ممارسة هذه الاستراتيجية إفشال الضغوط الأميركية، عبر امتصاصها، من دون أن تبدي تراجعاً عن مواقفها وسياساتها حيال هذه الضغوط "الهائلة" التي عزا إليها روحاني معظم مشاكل بلاده، أو أن تنفذ تهديداتها المتكررة السابقة، لتداعياتها الخطيرة للغاية، مثل الانسحاب من الاتفاق النووي، أو إغلاق مضيق هرمز. كما أنها لم تتمكن من الرد بالمثل على العقوبات الأميركية، التي تصفها بالحرب الاقتصادية "الشعواء"، لأن حجم اقتصادها لا يكاد يذكر مقارنة بالاقتصاد الأميركي، الأمر الذي يجعلها في موضع المتأثر وليس المؤثر من هذه الناحية.

وفي إطار هذه الاستراتيجية، شهدت السياسة الخارجية لإيران خلال الفترة الماضية، استدارة نحو الشرق بعد اليأس من الغرب وبالذات الأوروبيين، مع التركيز على الدول الجارة لها، مثل العراق، وتركيا، باكستان، وبعض الجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفييتي، بحثاً عن منافذ للالتفاف على العقوبات الأميركية. إلى جانب ذلك، وبالرغم من قسوة لجهتها أحياناً تجاه الأوروبيين، لما تصفها بتقاعسهم عن تنفيذ التعهدات الواردة في الاتفاق النووي، خصوصاً بعد فرضهم عقوبات هي الأولى من نوعها بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، شملت شركات طيران ورجال أمن لـ"أسباب أمنية"، إلا أن طهران حاولت، في الوقت ذاته، أن تحافظ على علاقاتها مع دول الاتحاد الأوروبي، مع السعي لتطويرها، على أمل أن تنجح في إقناعها بالعمل بمقتضى تلك الالتزامات، أو على الأقل لتحول دون مسايرة أوروبية كاملة للسياسات الأميركية، بما يشدد عليها الضغوط وهي بغنى عن ذلك.

وفي السياق، أسست طهران أخيراً نظيراً للآلية الأوروبية لدعم المبادلات التجارية معها، والمعروفة بـ"إنستكس"، التي أنشأتها الترويكا الأوروبية (ألمانيا وبريطانيا وفرنسا) في يناير/كانون الثاني الماضي، مع إبدائها امتعاضاً شديداً من بطء عمل الأخيرة. لكنْ شيءٌ أفضل من لا شيء بالنسبة لإيران، خصوصاً في ظل الأزمة الاقتصادية الصعبة التي تواجهها بفعل العقوبات الأميركية، والتي قال رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني حشمت الله فلاحت بيشه، الأحد الماضي، إنها بلغت 8 آلاف عقوبة.

وفي موازاة ذلك، حاولت طهران أيضاً لملمة أوراقها الإقليمية وتثبيتها في ساحات إقليمية حساسة، خصوصاً في سورية والعراق، والتي أصبح نفوذها فيها مستهدفاً، وهي ساحات تشهد اليوم صراعاً محتدماً ومتصاعداً على النفوذ بينها وبين أميركا وحلفائها، أو حتى غيرها، مثل روسيا في سورية. وفي السياق، جاءت زيارة رئيس النظام السوري بشار الأسد إلى طهران في 25 فبراير/شباط الماضي، وكذلك السعي الحثيث إلى تثبيت موطئ قدم في سورية في مرحلة "إعادة الإعمار" عبر التوقيع على اتفاقيات متعددة في مختلف المجالات. وفي الإطار ذاته، جاءت زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني، إلى العراق، بعد خمس سنوات من توليه الرئاسة، في مارس/آذار الماضي، والتي توصّل الجانبان خلالها إلى "اتفاقيات هامة" بحسب المسؤولين الإيرانيين والعراقيين. لكن تنفيذ الشق الاقتصادي منها يواجه تحدياً كبيراً بفعل الضغوط الكبيرة التي تمارسها الولايات المتحدة على العراق لدفعه نحو التراجع عن علاقاته الاقتصادية وتلك الاتفاقيات مع إيران. في غضون ذلك، أجرت طهران خلال الشهور الأربعة الماضية، أربع مناورات عسكرية ضخمة، معظمها في مياه الخليج، لترسل رسائل معينة في هذه الظروف، تحسباً لأي طارئ، أو تحذيراً وإعلاناً مسبقاً للولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين، أو رسالة طمأنة للداخل الإيراني بأن قواتها المسلحة جاهزة للتصدي لأي حرب محتملة.



لكن ثمة خلافات داخلية في إيران حول إدارة هذه المرحلة ومواجهة تحدياتها، بين الحكومة وأنصارها الإصلاحيين والمعتدلين وبين المحافظين والمؤسسات السيادية المحافظة، سواء ما يتعلق بالسياسة الداخلية أو ما يرتبط بالسياسة الخارجية. فعلى صعيد الأخيرة، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، فإنه وبينما ترى الحكومة ومعسكرها السياسي أنه من الضروري الانضمام إلى مجموعة العمل المالي الدولية "فاتف" واتفاقيتي مكافحة تمويل الإرهاب "CFT" والجرائم المنظمة العابرة للحدود "بالرمو"، وأعدت اللوائح اللازمة لذلك لتخفيف العقوبات، يعتقد المحافظون والمؤسسات الخاضعة لسيطرتهم، أن هذا الالتحاق يعرّض البلاد لمزيد من العقوبات، ويستهدف تجفيف، أو معرفة الدعم الإيراني للحلفاء الإقليميين وحركات المقاومة ضد إسرائيل.

إلى أين؟

على وقع حرب الاستراتيجيات الأميركية والإيرانية، وإفرازاتها وتمظهراتها خلال عام ولى منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، ثمة تساؤلات ملحة عن مآلاتها وفصولها المستقبلية مع الذكرى السنوية الأولى للانسحاب. وتطرح تلك التساؤلات على وقع تسريع الإدارة الأميركية وتيرة قراراتها التصعيدية على أعتاب هذه الذكرى، بغية تحقيق أهداف لم تتحقق خلال العام الأول من انسحابها من الاتفاق النووي، لتدشن واشنطن مرحلة جديدة من الضغط على طهران، مع بداية العام الثاني من خلال رسائل عسكرية مشفرة عبر الإعلان عن إرسال حاملة الطائرات "يو إس إس أبراهام لينكولن" إلى الخليج، بالإضافة إلى قاذفات أرسلت إلى الشرق الأوسط، وسط تسريبات لصحيفة "وول ستريت جورنال" عن أن هذا الأمر تم بعد أن أظهرت تقارير استخباراتية وجود تهديدات إيرانية حديثة للقوات الأميركية الموجودة في منطقة الشرق الأوسط. وأظهرت تقارير الاستخبارات الأميركية، وفق الصحيفة، أن إيران أعدت خططاً لاستهداف القوات الأميركية في العراق، وأمكنة أخرى في الشرق الأوسط، ما دفع إلى تعزيز هذه القوات في المنطقة في محاولة لردع أي تحركات إيرانية، بحسب مسؤولين أميركيين. كما يفترض بحسب مصادر أميركية أن يستكمل ترامب ضغوطه اليوم الأربعاء من خلال الكشف عن جملة قرارات وعقوبات جديدة.

وبناءً عليه، يبدو أن المشهد الراهن يتجه، تحت ضغط الرسائل العسكرية، نحو فرض حصار اقتصادي، إقليمي ودولي، "غير مسبوق" على إيران، يكون أشد مما شهده العراق في تسعينيات القرن الماضي، إذ إن الأخير تمكن من تصدير نفطه عبر برنامج "النفط مقابل الغذاء"، لكن حتى مثل هذا البرنامج أصبح غير ممكن بالنسبة إلى إيران على ضوء الحظر الشامل لصادراتها النفطية. ومع ذلك، فإنها تعلن أن لديها طرقها "الالتفافية" لتصدير نفطها بما يمرر أمورها.

وأمام هذا الوضع والضغوط الأميركية المتصاعدة، ترى طهران أن عدم قيامها برد فيما يتعلق بالاتفاق النووي، جرّأ الإدارة الأميركية على الاستمرار في هذه الضغوط بلا هوادة، والأوروبيين على مواصلة تقاعسهم في ترجمة وعودهم لها، لتعلن عبر مصادرها، خلال الأيام الماضية، أنها بصدد الرد تدريجياً على الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي وتداعياته الكبيرة خلال الفترة الماضية، عبر اتخاذ سلسلة إجراءات "مرحلية" اعتباراً من اليوم الأربعاء مع الدخول في العام الثاني من الانسحاب. وفي السياق، كشف مصدر إيراني مسؤول، لوكالة "إيسنا" الإيرانية الإثنين الماضي، أن الرئيس حسن روحاني سيعلن اليوم عن "برامج مرحلية في إطار البندين 26 و36 من الاتفاق النووي، وأن الانسحاب من الاتفاق ليس مطروحاً في الوقت الحاضر"، لافتاً إلى أن "تقليصاً جزئياً وكلياً لبعض التعهدات الإيرانية، والبدء بنشاطات نووية توقفت عنها البلاد بموجب الاتفاق النووي، يمثلان الخطوة الإيرانية الأولى للرد على الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي وتقاعس الدول الأوروبية عن تنفيذ التزاماتها".

لا شك أن هذه القرارات الثنائية "المحتملة" سترفع حرارة الأزمة المتصاعدة بين الجانبين إلى مستويات خطيرة، وتجعل المرحلة المقبلة حبلى بتطورات جسام. لكن في الرد على سؤال ما إذا كانت الأمور ستتجه إلى مواجهة عسكرية بينهما أم لا؟ فإن أحداً لا يملك إجابة شافية عليه الآن، مع تزايد الحديث لدى مراقبين ومراكز بحثية وإعلامية، خلال الآونة الأخيرة، عن احتمال وقوعها. كذلك، وإن لم تكن لدى الإدارة الأميركية خطة مسبقة لشن هجوم عسكري على إيران، ورغم تأكيد رسمي من قبل الطرفين، على أنهما لا يريدان الحرب، إلا أن حادث أو مناوشة صغيرة، براً أو بحراً، يمكنها أن تشعل مثل هذه المواجهة، وخصوصاً على ضوء انعدام شبه كامل لفرص الدبلوماسية والتفاوض في الوقت الراهن. وأعلنت طهران، خلال الفترة القصيرة الماضية، على لسان أكثر من مسؤول أن مجرد التفكير بالتفاوض مع الإدارة الأميركية في الظروف الراهنة "خطأ استراتيجي" وأنه "استسلام بالكامل ومذلة وهوان"، محددة جملة شروط للعودة إلى طاولة التفاوض مجدداً، تتمثل في تراجع واشنطن عن ضغوطها وتقديم الاعتذار عن "تصرفاتها غير القانونية"، وهي شروط من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن تقبلها الإدارة الأميركية. كما أن شروط الأخيرة الـ 12 أيضاً تعجيزية، وقد رفضتها طهران.