مفردات مطاطة تلطّت خلفها الإدارات المتعاقبة، لتأمين غطاء مموّه يسمح لإسرائيل بمواصلة خلق الواقع الإلحاقي على الأرض من دون محاسبة ولا كلفة. موقف أجوف، لا يدين ولا يعتبر المستوطنات غير قانونية، ولم تترتب عليه أي معاقبة أو أي إجراء رادع لإسرائيل. وبذلك، كان هناك على الدوام ضوء أخضر خافت أو برتقالي، بما سمح بالتمدد الاستيطاني الزاحف الذي انتهت إدارة ترامب إلى اعتباره في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018 بأنه "غير مخالف للقانون الدولي". هكذا بكل صراحة ووقاحة. فقط الرئيس جيمي كارتر صنّف المستوطنات في 1983 بأنها "غير قانونية". لا أحد غيره تلفظ بهذه العبارة. وزير الخارجية جون كيري في إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، وصف المستوطنات بأنها "غير شرعية" وليس غير قانونية. التعبير الأخير تترتب عليه آثار لم تكن الإدارة مستعدة لمواجهتها. استعاضت عن ذلك بتمرير قرار في مجلس الأمن في آخر أيامها 23 -12 -2016، من دون أن تصوّت عليه، نصّ على أن المستوطنات هي "مخالفة صارخة للقانون الدولي... ولا صلاحية قانونية لها". التفاف دبلوماسي للنأي عن تصنيفها صراحة بأنها غير قانونية. وبهذا، فهو إدانة خجولة تعكس سياسة المواقف الباهتة التي اعتمدتها إدارة أوباما إجمالاً في السياسة الخارجية. وللتعويض على هذا "التجرؤ الهشّ"، أقرّت إدارته مشروع مساعدات لإسرائيل بمعدل 3,8 مليارات دولار لمدة عشر سنوات!
على هذه الخلفية، أتت مسألة البحث في واشنطن بضم 30% من الضفة مع الأغوار في يوليو/ تموز المقبل. الضم أباحته إدارة ترامب من خلال "صفقة القرن". الجدل يجري حول كيفية وتوقيت ترجمته. هل يجب أن يحصل من ضمن الصفقة أي برضى الجانب الفلسطيني، أم من خارجها لو رفض الفلسطيني المشروع؟
حسب التسريبات، فإن صهر الرئيس ترامب، ومستشاره جاريد كوشنر، والمبعوث الخاص آفي بيركوفيتش، يستمهلان لحسابات خليجية، وإن السفير فريدمان، والسفير الإسرائيلي لدى واشنطن رون دارمر، يستعجلان كما نتنياهو. اليهود الأميركيون وبغالبية ساحقة، كمنظمات وهيئات وأعضاء كونغرس، يدفعون بقوة ضد الضمّ من جانب واحد. ليس من حيث المبدأ، بل من حيث التداعيات وعواقبها، على اعتبار أن هذه الخطوة محكومة بالقضاء على صيغة الدولتين، وبالتالي بالتحول إلى دولة "أبرتهايد" واحدة على غرار ما كانت عليه جنوب أفريقيا. وهذا كابوس بالنسبة لليهود الأميركيين، لأنه يستحيل عليهم تسويقه في أميركا، وهم الذين شاركوا في الحملة لمقاطعة جنوب أفريقيا البيضاء.
يقف إلى جانبهم فريق واسع من أهل الرأي ونخب السياسة الخارجية، إضافة إلى وجوه سياسية إسرائيلية (مثل رئيس الحكومة السابق إيهود أولمرت ووزيرة الخارجية السابقة تسيبي ليفني)، استعانت بالإعلام الأميركي لتعزيز الضغوط على الإدارة لصرف النظر عن موعد أول يوليو/ تموز. وبذلك، يدور الجدل حول الموعد وليس حول "صفقة القرن". التضامن مع حقوق الشعب الفلسطيني غير وارد من خارج هذه الزاوية، فالتوقيت مسألة تقنية تتحكم به حسابات إقليمية وإلى حدّ ما انتخابية. الضمّ صار مسألة محسومة وبأضواء خضراء أميركية فاقعة. مساعد وزير الخارجية ديفيد شينكر قال، في الرابع من الشهر الحالي، إنّ "بإمكان إسرائيل ضمّ الأراضي الخارجة عن نطاق الدولة الفلسطينية حسب الصفقة".
وزير الخارجية مايك بومبيو لطالما ردّد أنّ قرار "الضمّ هو إسرائيلي"، مؤيداً ضمناً نتنياهو، تحت شعار أنّ الإدارة "تتعامل مع الأمر الواقع على الأرض"، حتى ولو كان احتلالاً. وفي الواقع ليس في ذلك من جديد غير المجاهرة. ذلك أنّ هذا الضم ليس سوى "جزء من عملية الاحتلال المتواصلة وفق الأغراض التي حدّدها المشروع الصهيوني من بدايته والتي لم تتغيّر"، على حدّ تعبير الأستاذ في جامعة كولومبيا في نيويورك، رشيد الخالدي.
المطروح الآن هو إخراج صيغة هذا الاحتلال التي رسمها ترامب في "صفقة القرن". نتنياهو مستعجل لئلا تفوته الفرصة بهزيمة ترامب في الانتخابات الرئاسية، في نوفمبر/ تشرين الثاني، وهو يتطلع إلى الترجمة المئوية لقرارات مؤتمر "التحالف الأوروبي من أجل إسرائيل" في سان ريمو عام 1920، والذي تمّت المصادقة فيه على قرارات "مؤتمر باريس للسلام" في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ومنها المصادقة على الانتداب البريطاني في فلسطين، واعتماد وعد "بلفور" لجعل الأراضي الفلسطينية دولة يهودية.
الرئيس ترامب المترنح تحت أثقال متاعب هائلة على عتبة الانتخابات، لم يكشف عن ورقته بعد في موضوع التوقيت، والذي قد يتأثر إلى حدّ بعيد بحساباته الانتخابية في وجه موجة داخلية عارمة تضغط باتجاه العزوف عن دعم الضمّ في يوليو/ تموز المقبل. لكن الرئيس قد يسبح ضد التيار، إذا تواصل هبوط وضعه والالتفاف حوله، كما كشف عنه مهرجان تولسا، السبت الماضي.