تهجير حلب يؤجج الانقسام السياسي الفرنسي

19 ديسمبر 2016
تظاهرة دعماً لحلب في باريس (مصطفى سيفغي/الأناضول)
+ الخط -


تحوّلت قضية تهجير حلب إلى محك أظهر بقوة الانقسامات بين مكوّنات المشهد السياسي الفرنسي وحتى داخل الأحزاب نفسها. ففي صفوف اليمين، تمخّضت الانتخابات التمهيدية عن اختيار فرانسوا فيون مرشحاً للانتخابات الرئاسية، وهو الذي يشهر مساندته للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ويعتبر رئيس النظام السوري بشار الأسد محاوراً شرعياً. وهو الموقف الذي يتقاسمه مع مرشحة اليمين المتطرف رئيسة "الجبهة الوطنية" مارين لوبان، التي تعتبر سياسة بوتين الخارجية وتدخّله في سورية نموذجاً يجب الاحتذاء به. بينما يحرص الرئيس الاشتراكي فرانسوا هولاند ورئيس وزرائه برنار كازنوف على التنديد بالنظام السوري وحلفائه ويدعمان المعارضة السورية. ويذهب في هذا الاتجاه حزب "الخضر" وقسم كبير من اليسار الراديكالي باستثناء جان لوك ميلونشون، الذي يساند التدخّل الروسي في سورية منطلقاً من قراءة خاصة ومثيرة للجدل للصراع الروسي الأميركي.
وكان مرشح اليمين إلى الانتخابات الرئاسية والأوفر حظاً في استطلاعات الرأي فرانسوا فيون، خرج عن صمته بخصوص المجازر المرتكبة في حلب حين دعا إلى مبادرة أوروبية لإنهاء النزاع السوري عبر جمع كل الأطراف حول طاولة المفاوضات بمن فيهم من وصفهم بـ"مرتكبي الجرائم". واعتبر أن الحرب التي يعاني منها الشعب السوري هي دليل على "فشل الدبلوماسية الغربية وخصوصاً الأوروبية". وأضاف: "إذا أردنا اليوم وقف هذه المجزرة، فليس أمامنا سوى حلين: التدخّل العسكري الذي يمكن للأميركيين فقط قيادته وهو ليس الخيار الذي أفضّله نظراً لما حدث في العراق. والحل الآخر، هو مبادرة دبلوماسية أوروبية قوية لجمع كل القادرين على وقف هذا النزاع حول الطاولة بصورة شاملة، بمن فيهم أولئك الذين يرتكبون اليوم جرائم".
وكان فيون رفض قبل بضعة أسابيع التحدث عن "جرائم حرب" في حلب خلال حوار مع القناة الفرنسية الثانية، واعتبر أن "الحرب تفرض على المرء أن يختار العدو الأساسي"، في محاولة لتبرير تقاربه مع بوتين والأسد، مؤكداً أن العدو الأساسي في سورية هو "الإرهاب الإسلامي المتطرف"، نافياً في الوقت نفسه وجود معارضة معتدلة وغير جهادية في سورية.
غير أن فيون وفي محاولته جمع تيارات اليمين حوله، اختار النائب برونو لومير "ممثلاً للشؤون الأوروبية والدولية" في فريقه الانتخابي، على الرغم من أن الأخير له نظرة مغايرة تماماً للصراع السوري وكان قد دعا إلى تدخّل عسكري فرنسي على الأرض في سورية لمحاربة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) ولإرغام الأسد على التنحّي عن الحكم. وهذا ما قد يُنذر بانقسامات مقبلة في صفوف حزب "الجمهوريون"، خصوصاً أن التيار الذي يمثّله المرشح السابق ألان جوبيه يناهض التدخّل العسكري الروسي ويناهض أي مهادنة مع نظام الأسد الذي يعتبره مسؤولاً عن جرائم الحرب ضد شعبه.


أما بالنسبة لليمين المتطرف فالأمور واضحة تماماً، ذلك أن مارين لوبان تدعم بقوة التدخّل العسكري الروسي في سورية وسبق لها أن أعلنت دعمها للأسد في مواجهة ما تسميه "الخطر الإرهابي الإسلامي". وحتى الآن تلتزم لوبان الصمت بخصوص تهجير حلب، لكن نائبها فلوريان فيليبو قال الجمعة الماضية إن "التحسر على مآل حلب لا يفضي لأي شيء، لأن حلب كانت آهلة بالمتشددين الإسلاميين رغم أن هناك مآسي وقعت للمدنيين". والواقع أن حزب "الجبهة الوطنية" اتخذ موقفاً مسانداً لنظام الأسد منذ بداية الثورة عام 2011 واعتبر أن هذا النظام هو "الحامي الوحيد للأقليات المسيحية، ومن دونه سوف تتعرض هذه الأقليات للذبح والتهجير"، كما صرحت بذلك ماريون ماريشال لوبان عام 2013. كما أن الحزب كان من أول المصفقين للتدخّل الروسي في سورية الذي اعتبره فور وقوعه "المبادرة الدولية الوحيدة القادرة على ضمان عدم سقوط سورية في يد المتطرفين الإسلاميين".
أما بالنسبة للاشتراكيين، فهناك شبه إجماع على تبنّي الموقف الرسمي لهولاند المعادي للتدخّل الروسي والمناهض لنظام الأسد. وكان هولاند صعّد الخميس الماضي في بروكسل من لهجته ضد روسيا، حين أكد أن فرض عقوبات من الاتحاد الأوروبي ضد روسيا على خلفية الصراع السوري "جزء من الخيارات التي قد تطرح". وأشار هولاند إلى أنه "لم يكن حتى يتصور" أن روسيا قد تعارض "القرار الإنساني" حول حلب الذي كانت فرنسا تعتزم طرحه في مجلس الأمن الدولي. وأوضح أن مشروع القرار الفرنسي يهدف "إلى إنقاذ السكان حتى ولو أن المعارك توقفت تقريباً"، بالإضافة إلى "إيصال الغذاء إلى السكان الذين يُقدر عددهم بما بين 50 و100 ألف شخص" في حلب و"رعاية الأطفال والشيوخ". وفي ما يتعلق بالأسد، فحين سئل هولاند عن السعي إلى تنحيته قال بوضوح "نعم، هو ديكتاتور أراد ذبح شعبه".
ويُجمع المرشحون الأساسيون إلى الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الاشتراكي وعلى رأسهم رئيس الوزراء المستقيل مانويل فالس على انتقاد تقارب الخصم اليميني فرانسوا فيون مع بوتين. واعتبر فالس الأربعاء الماضي في تغريدة على حسابه في موقع "تويتر" أن "على فرنسا أن تتحدث إلى روسيا بصرامة في ما يخص الأوضاع في حلب. ما يحدث في حلب فظاعة بلا حدود وجرح في جبين الإنسانية". أما مرشح التيار اليساري داخل الاشتراكي بنوا هامون فقد وجّه في مستهل آخر تجمّع جماهيري له "تحية إجلال إلى إخواننا وإخوتنا في الإنسانية الذين يموتون في حلب". وتحدث عن "جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في حلب". كما أعلن رفضه "التمييز بين الفظاعات التي يرتكبها الأسد أو داعش". وفي المقابل انتقد هامون منافسه فالس في قضية اللاجئين واعتبر أن على فرنسا "أن تفتح أبوابها للهاربين من جحيم الحرب والاضطهاد في سورية"، داعياً إلى خلق "تأشيرة إنسانية" تفتح الأبواب في وجوههم من دون استثناء. هذا الأمر دعا له أيضاً المرشح فانسان بيون الذي صرح لإذاعة "فرانس آنتير" الخميس الماضي: "علينا أن نستقبل بلا تردد اللاجئين السوريين". أما المرشح الآخر للانتخابات التمهيدية الاشتراكية آرنو مونتبورغ فقد دان هو الآخر "المصير المأساوي للمدنيين في حلب"، وشدد على ضرورة أن " تقوم فرنسا بتحركات كثيفة مع دول العالم الأخرى للضغط على روسيا وإيران للخروج من الفشل الذريع للدبلوماسية الدولية الذي تمثله حلب".
أما بالنسبة لـ"الخضر" المدافعين عن البيئة، فهم يتقاسمون الموقف نفسه مع الاشتراكيين بخصوص تهجير حلب والتدخّل الروسي في سورية. ونشر مرشحهم للانتخابات الرئاسية يانيك جادو مقالاً في صحيفة "لوموند"، دعا فيه إلى تشديد العقوبات الاقتصادية ضد روسيا، معتبراً أنها "نظام أوليغارشي يجب استهدافه من الناحية المالية". كما دعا إلى مقاطعة كأس العالم لكرة القدم التي ستُنظم عام 2018. أيضاً قامت الوزيرة السابقة عن "الخضر" سيسيل ديفلو، برفقة هيرفيه ماريتون، عن حزب الجمهوريين اليميني، وباتريك منيسي عن الحزب الاشتراكي، بمحاولة لزيارة حلب الأسبوع الماضي بهدف توجيه نداء لإيصال مساعدة إنسانية في أسرع وقت وضمان إنقاذ المدنيين، لكن السلطات التركية منعتهم من عبور الحدود السورية في اتجاه حلب.
أما الحزب الشيوعي الفرنسي فقد اتخذ موقفاً حذراً مع نشره بياناً الأربعاء الماضي دعا فيه إلى وقف لإطلاق النار في حلب لتأمين حياة المدنيين، معتبراً أن "جميع أطراف النزاع وحلفاءهم في سورية مسؤولون عن جرائم الحرب في حلب". ودعا البيان إلى مرحلة انتقالية في سورية ومصالحة وطنية، متفادياً أي إدانة لنظام الأسد.
ويبقى الصوت النشاز والمثير للجدل في اليسار الفرنسي هو المرشح الراديكالي للانتخابات الرئاسية جان لوك ميلونشون، الذي كان قد أعلن دعمه للتدخّل العسكري الروسي في سورية، معتبراً أنه "يقوم بمهمة جدية ويستطيع حل المشاكل في سورية". وبسبب الانتقادات الشديدة التي تعرض لها بسبب رفضه التحدث عن "جرائم حرب في سورية" ونعته بـ"صديق أولئك الذين يقصفون حلب من الجو والبر"، نشر ميلونشون شريط فيديو الخميس الماضي أكد فيه أنه يتأسف "للصور المرعبة التي تأتي من حلب والغارات المدمرة التي تتعرض لها". واعتبر أن الحرب في سورية والعراق "هي صراع حول النفط والغاز في المنطقة تحت ذريعة الدين"، في محاولة لتبرير دعمه للتدخّل الروسي، مكرراً مناهضته لما يسميه بـ"المحور الإمبريالي الأميركي المدعوم من طرف أنظمة الخليج".