لو أنّ الحدث معكوس، والمقتول بسلاح فلسطيني، لما كان غريباً أن ترى مستزلمي السياسة العرب وهم يهرعون فرادى وجماعات، ليس للتنديد والشجب والسب منذ اللحظة الأولى، بل وإلى الجنازات أيضاً، وهم الذين منحوا صديقهم بنيامين نتنياهو، رخصة إرهاب دولة منذ أن حوّل النظام العربي، بلا خجل، بوصلته نحو "حق الدفاع عن النفس"، وفقط للمحتل، فيما الفلسطينيون وغيرهم من العرب فليُقتلوا بصمت ومن دون أن يُسمع احتجاج.
قد يشعر بعض الذين نسأل عن مواقفهم بضجر عبّروا عنه صراحة، وإن عبر صبية السياسة والإعلام، أنّ لا شأن لهم بقضية فلسطين ودماء شعبها ومكانة مقدساتها. وعلى الرغم من ذلك، سيظلّ السؤال عربياً واضحاً، وضوح بوصلة الشارع العربي، من المحيط إلى الخليج، حول من وأين هو العدو؟ وللتذكير فقط، يمكن للأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، أن يقلّب خلال وقت ضجره في دفاتر المؤسسة التي يترأسها، وفي حنينه لأحضان بشار الأسد، للبحث عن أسباب تأسيس هذه المؤسسة، فإن لم تكن فلسطين سبباً فليخبرنا.
وبمناسبة الحديث عن أبو الغيط، يبدو أنّ للرجل حنيناً لرؤية "أرجل أهل غزة تُكسر" حين ينتصر السكوت عن القصف والدمار وسيل الدماء، ليذكّرنا بأنه مثلما حرص على السيادة السورية، مثلاً، في شمال البلد حين قام الأتراك بعمل عسكري فيه، فهو حريص على تلك السيادة في المزة التي يعرف أين تقع، والتي قصفها الاحتلال تزامناً مع الاغتيال في غزة. وهو فعل شبه يومي بالمناسبة، لكن لا يبدو أن جيلنا ولا التالي سيدرك تغيراً أو تزحزحاً عن الفارق الناخر لعظام "كرامة الأنظمة" عن قيمتين مختلفتين لدماء "الأخيار" و"الأغيار".
من يحق له أن يشعر ليس بضجر بل بقرف يساوي حجم هذه الأنظمة ومؤسساتها، هو العربي البسيط، الذي غنّى في ميادين الحرية المتجددة لفلسطين البوصلة، مكرراً إياها مرات ومرات. وهو يلتفت من حوله، فلا يجد سوى أكوام كرامة مهانة وقيمة مهدورة وأحبال صوتية تشتغل متى أريد للظاهرة أن تكون بحجم العار والخديعة من خلف ميكروفونات الخطاب الرسمي الممجوج الذي ينتظر أن تجف الدماء ليعيد أسطوانة التكاذب عن "حق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة"، فيما أرضه تُنهب وأبناؤه يُقتلون ويعتقلون، كما عند الأنظمة العربية، في زنازينهم وزنازين الاحتلال، مع تحريض وعنصرية وتشفي مقلّدي التصهين بما لا يختلف عن فاشية وعنصرية الصهاينة.
هنيئاً للأنظمة مداجن تفريخ العار، فغزة ستبقى كما فلسطين، شاهدة على حال لن يكون سوى كما كان لغيرهم؛ حصد للأوهام على الرغم من كل الأثمان وشلال الدماء عربوناً لبعض كرامة افتقدتها حتى وجوه من ظننا بالأمس أنهم يقصدون بالعدو الاحتلال، وإذ بهم يحوّلون شكواهم على الشعب المحاصر.