وبعد أسابيع من تقديم ترامب وإدارته عروضاً لحوار "من دون شروط مسبقة" مع طهران، يبدو أن الرئيس الأميركي يبحث عن مخرج من هذا المقترح، إذ قال في تغريدة على "تويتر" إن "الأخبار الزائفة تقول أنا مستعد للاجتماع مع إيران من دون شروط. هذا الأمر غير صحيح (كالعادة)".
استراتيجية الإدارة الأميركية حيال إيران تمرّ بأكبر امتحانٍ لها حتى الآن، فيما فريق ترامب للسياسة الخارجية غير مكتمل، في ظلّ إقالة مستشار الأمن القومي جون بولتون ومساعديه، وبعد أقل من شهرين على استلام وزير الدفاع مارك إسبر الذي يبدو غير جاهزٍ بعد للتعامل مع هذا التحدي، وفي ظلّ تحفظ القيادات العسكرية في البنتاغون على اتخاذ إجراءات عقابية قد تجرّ إلى حرب مع النظام الإيراني. من جهتها، وفي مواجهة سياسة "الضغوط القصوى" التي تمارسها ضدها الولايات المتحدة، تنشر إيران "الفوضى القصوى" لفرض معادلات جديدة في المنطقة، بعد خروج الإدارة الأميركية من الاتفاق النووي.
في حسابات الربح والخسارة المطروحة أمامه، لا يرى ترامب بكل بساطة أن اعتداء أرامكو يستحق جرّ واشنطن إلى حرب مع طهران نيابة عن الرياض، لا سيما أن الولايات المتحدة لم تعد تعتمد على نفط الشرق الأوسط الذي أضحت الأسواق الآسيوية المستفيد الأول منه. وبالتالي، قد لا يمانع ترامب في أن يتسبب تباطؤ ضخّ النفط السعودي، في ضرر للاقتصاد الصيني في ظلّ حربه التجارية مع بكين. واستباقاً لأي تداعيات سلبية على الاقتصاد الأميركي قبل أي شيء آخر، أمر ترامب الوكالات المختصة بالإسراع في الموافقة على استغلال الاحتياط النفطي الاستراتيجي الأميركي "إذا لزم الأمر" في أعقاب الهجمات على منشآت النفط في حقلي بقيق وخريص يوم السبت الماضي، فيما لم تعلن كل من منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك" وروسيا عن أي خطط لضخ المزيد من النفط، وذلك بطلبٍ من الرياض التي لا تريد خسارة حصّتها في أسواق النفط العالمية.
المحافظون في طهران يمعنون في اختبار ترامب منذ الربيع الماضي، عبر فرض الهيمنة على مضيق هرمز واستهداف ناقلات نفط بطريقة تثير التساؤلات عن هوية المهاجِم، ومن خلال استهداف الداخل السعودي عبر الحوثيين في اليمن. لكن استهداف أرامكو الأخير فرض معادلة جديدة، هي الانتقال من ضرب إمدادات النفط في الخليج إلى استهداف مركز عمليات معالجة النفط الخام السعودي، مع ما يعنيه من تداعيات على الاقتصاد العالمي. وأدركت طهران أن ترامب سيغض النظر عن هجماتها طالما لا يقع فيها ضحايا أميركيون، وحتى يمكنه التساهل مع سقوط طائرة من دون طيار فوق مضيق هرمز، كما حصل في شهر يونيو/حزيران الماضي. وبالتالي، فإن النظام الإيراني يحسب هجماته المتكررة ضمن هذه الخطوط الحمر الفضفاضة التي رسمها الرئيس الأميركي. كما تأتي هذه العملية على المنشآت النفطية السعودية في ظلّ الصراع المستمر بين المحافظين والإصلاحيين في طهران، لا سيما أن فرص الحوار بين واشنطن وطهران كانت قد ازدادت في أعقاب إقالة بولتون. ويصعّب هذا الاعتداء إمكانية عقد لقاء بين ترامب ونظيره الإيراني حسن روحاني، على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك خلال الشهر الحالي، فيما أعلن المرشد الإيراني علي خامنئي أمس أنه لن يجري أي لقاء مع الأميركيين في نيويورك وغيرها.
كما يظهر أن البيت الأبيض لا يمانع في جعل السعودية تدفع ثمن سياسة "الضغط القصوى" ضد إيران، وبالتالي يبدو ترامب من خلال تصريحاته التي أدلى بها تعليقاً على الاعتداءات وكأنه يرمي الكرة في الملعب السعودي لاتخاذ القرار إذا ما يجب الرد على النظام الإيراني أم لا. هذا لا يعني أن البيت الأبيض يحيل قرار الحرب والسلم إلى الرياض، لكنه يعكس أن الرئيس الأميركي يريد من الرياض أن تكون في الواجهة وليس العكس، فيما تبقى القيادة السعودية في موقع دفاعي تتوقع فيه من الأخير رفع سقف الخطاب وتحديد ملامحه في وجه طهران.
كما يأتي هذا الهجوم على "أرامكو" في أعقاب الضربات الإسرائيلية على وكلاء إيران في المنطقة، فيما يحتمل أن يكون الرد الإيراني جاء على من تعتبرهم "وكلاء أميركا في الخليج"، لكن تبقى كل من واشنطن وطهران غير مهتمتين بإشعال مواجهة مباشرة بينهما. لقد استنزف البيت الأبيض كل الخيارات الدبلوماسية والاقتصادية المتاحة لفرض تسوية على النظام الإيراني، وبالتالي ليس هناك ما يمكن فعله أكثر من توجيه ضربة عسكرية لإيران. لكن قرار المواجهة أم لا مع إيران يبحثه ترامب مع إدارته، فيما تواجه الولايات المتحدة تضخماً اقتصادياً يلوح في الأفق، ووسط حملة انتخابية للرئيس لا تحتمل مغامرة خارجية تنعكس سلباً على الأسواق الأميركية. في نهاية المطاف، سيتخذ ترامب القرار الذي يخدم مصلحته، لكن من الصعب تخيل كيف يمكن أن تبقى علاقته قوية بالقيادة السعودية بعد الاعتداء على "أرامكو".