8 سنوات على خلع مبارك: شركاء الميدان بمصيدة العسكر

11 فبراير 2019
فرحة الجماهير برحيل مبارك في 11 فبراير (جون مور/Getty)
+ الخط -
مرت 8 سنوات على النجاح الأول لثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، بخلع حسني مبارك من حكم مصر. لكن وكما كان هذا اليوم مفعماً دائماً بذكرى الأفراح غير المسبوقة التي عمت ميدان التحرير وجميع ميادين الثورة في المحافظات وعواصم دول عربية أخرى، فإن اليوم نفسه يحمل عنواناً آخر، هو ترك الثوار للميدان، وانخراط العديد من القوى السياسية التي تشاركت مع المواطنين في الثورة، بتفاهمات وخطط سياسية مبكرة لتشارك المجلس الأعلى للقوات المسلحة السلطة والتفاهم معه على مستقبل البلاد، وفقاً لشروطه وخططه التي أدت بالتدريج إلى إجهاض ثورة الشعب، ودفعت البلاد في نفق مظلم من الأحداث الدامية، ثم تولي أول رئيس منتخب السلطة محاطاً بأدوات الإفشال والمؤامرة، حتى عاد الأمر من جديد للجيش في انقلاب 3 يوليو/تموز 2013.

يختلف المراقبون والمؤرخون حول طبيعة ما حدث في 11 فبراير/شباط 2011، وما إذا كان ترْك مبارك للحكم بهذه الطريقة المريبة وإسناد الحكم للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وليس لنائبه عمر سليمان، أو الدعوة لانتخابات رئاسية فورية، نجاحا للثوار، أم نجاحا لمخطط رسمته قيادة الجيش ممثلة بشكل أساسي في وزير الدفاع آنذاك المشير حسين طنطاوي ومدير المخابرات الحربية في ذلك الوقت اللواء عبدالفتاح السيسي وعضو المجلس العسكري المختص بالشؤون القانونية والدستورية اللواء ممدوح شاهين والذي ما زال يتمتع بنفس منصبه وصلاحياته الواسعة حتى الآن.

فالثابت أن أكبر المتضررين مما حدث يوم 11 فبراير هو مدير المخابرات العامة الأسبق عمر سليمان، الذي كان قد تولى لتوه منصب نائب رئيس الجمهورية، عندما فضّل مبارك الاعتماد عليه وليس الاعتماد على طنطاوي أو شخصية تنتمي لقيادة الجيش لإدارة مرحلة كان مبارك يظن أنها انتقالية لتهدئة الشارع وتهيئة الأوضاع لانتخابات رئاسية تجرى في خريف ذلك العام. وأمل مبارك أن تنجح سياسة سليمان، الذي كان قد بدأ بالفعل جلساته ما بين سرية ومعلنة مع الأحزاب السياسية والرموز الشبابية، في التهدئة وإفساح الطريق ليرشح الحزب "الوطني" الحاكم من خلال مجلس الشعب، الذي كان سيبقى ولن ينحل، شخصية مناسبة لرئاسة الجمهورية، حتى إذا كان جمال نجل مبارك، خصوصاً أن الأخير كان قد ضحى عملياً بأمين تنظيم الحزب أحمد عز وعدد آخر من المسؤولين سيئي السمعة لتحسين صورة أسرة مبارك وقيادة الحزب.

وبحسب المصادر السياسية والحكومية التي عاصرت مفاوضات القاعات المغلقة بين القصور وديوان وزارة الدفاع، فإن طنطاوي والسيسي ومعهما رئيس الأركان سامي عنان، شعروا بالتهميش المتعمد وضرورة الانقضاض على السلطة عندما اختار مبارك سليمان نائباً له، واعتمد على نجليه في الإعداد لخطاباته العلنية الأخيرة. فمن جهة، أطلّت الخلافات القديمة بين طنطاوي وسليمان، ومن جهة أخرى، عبّرت اختيارات مبارك في تلك اللحظة عن "المربع" الذي يرى في طنطاوي كقائد عام أقرب للموظف منه إلى الشخصية التي يمكنه الاعتماد عليها. وفي الحقيقة كان هذا استمرارا لسياسة مبارك المتّبعة منذ أوائل التسعينيات، فوزير الدفاع في هرم قيادات السلطة كان يحتل مرتبة متأخرة بعد ثلة من الشخصيات المقربة لمبارك، بما في ذلك وزير الداخلية حبيب العادلي.


ويبدو أن مبارك لم يكن يضع في حسبانه في تلك اللحظة احتمال نزول الجيش ضده، بدباباته التي كُتب عليها، أو سمح بأن تُكتب عليها، عبارات مناوئة لمبارك ونظامه. حتى أنه خلال فترة بقاء الثوار في الميدان، زار غرفة عمليات القوات المسلحة مرة واحدة فقط، ولم يلتق خلالها بالقائد العام بل برئيس الأركان. وما يؤكد أن الوضع في خلية الرئاسة حتى مساء يوم 10 فبراير 2011 كان يتجه فقط لبقاء مبارك مع توسيع صلاحيات سليمان وتهيئة المناخ السياسي لتغيرات ربما تكون بطيئة، لكنها ليست في اتجاه "العسكرة"، هو الخطاب التلفزيوني الذي ألقاه سليمان عشية خلع مبارك، وتعهّد فيه بفتح المجال العام واستمرار التفاوض مع القوى السياسية المعارضة.

وكما لو كان الجيش يرد على ذلك الخطاب الذي تلقفه الثوار باستهانة وتجاهل، استعداداً لأحداث جمعة الحسم، فقد سمحت قوات الشرطة العسكرية لأول مرة للمتظاهرين بالتوجّه نحو قصري الاتحادية والقبة عقب صلاة الجمعة. ودعا طنطاوي إلى اجتماع طارئ للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، من دون حضور القائد الأعلى مبارك، ليصدر القرار "الاستراتيجي" بإجبار مبارك على ترك الحكم، مقابل ضمانات تتعلق بسلامته وسلامة عائلته، تلك الضمانات التي اعتبر مبارك أن طنطاوي أخل بها عندما أقر إحالته هو ونجليه للمحاكمة في 3 قضايا حتى الآن.

قراءة أحداث ذلك اليوم من منظور الكواليس السياسية وليس فقط من منظور الميدان، تحرر الرواية التاريخية من تحميل الثوار النصيب الأكبر من مسؤولية العثرات اللاحقة في طريق الثورة، فما واجهوه من مؤامرات حاولت ارتداء عباءة نصرة الثورة، لم تكن بالأمر الهين، في ظل استخدام مكثف للإعلام بكل صوره في تكريس صورة "الجيش الذي حمى الثورة"، ونجاح المجلس العسكري في زرع الفتن والشقاق بين شركاء الميدان لتعطيل الأهداف، مستغلاً إمساكه بأدوات الدولة من سلاح ومال وقضاء ودعاية.

وربما يكون الهدف الأول الذي حققه المجلس العسكري بنجاح بعد خلع مبارك، هو إنهاء حالة التعايش والتنسيق بين شركاء الميدان، من تيارات دينية وعلمانية، يمينية ويسارية، محافظة وثورية. ففترة الثمانية عشر يوماً التي تكاتف فيها هؤلاء، لم تكن كافية ليفهم كل فصيل الآخر، ويستوعب اختلافاته وسماته ومزاياه وعيوبه وآماله وتطلعاته، فكان الإصرار على فض الميدان ونقل النقاشات السياسية إلى وسائل الإعلام في معركة مبكرة على التعديلات الدستورية، ثم إلى غرف مغلقة بدور القوات المسلحة بإدارة السيسي تحديداً، وتحت رعاية طنطاوي.

وأدى هذا المخطط إلى قطع حبال التواصل المباشر بروح الثورة بين القوى المختلفة، وتولّدت لدى كل منها مخاوف وشكوك لم تتبدد حتى اللحظة. وتفاقم الشقاق بانفراد المجلس العسكري بالاتفاق مع قوى محددة دون الأخرى في مراحل مختلفة، بدءاً من استفتاء تعديل الدستور في 19 مارس/آذار، ثم إجراء الانتخابات البرلمانية، ثم تشكيل حكومة كمال الجنزوري، ثم تفخيخ تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور وانتخابات الرئاسة وحل البرلمان وإصدار الإعلان الدستوري المكمل، ثم تسليم رئاسة الجمهورية لمحمد مرسي منقوصة السلطات والصلاحيات، ثم التنسيق مع القوى الليبرالية واليسارية في عهده بعد إصداره الإعلان الدستوري في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، ثم في حشد تظاهرات 30 يونيو/حزيران 2013 وما أعقبها من انقلاب 3 يوليو.
وتلقي الفتن التي زُرعت في كل تلك المراحل، بظلال سوداء على واقع المعارضة المصرية حالياً، في ظل تجدد الدعوات على مواقع التواصل الاجتماعي لتنسيق تنظيم جامع جديد عابر للانتماءات السياسية لمكافحة مساعي السيسي للبقاء في السلطة مدى الحياة وتغيير معالم الدولة المصرية، ما يعتبره منخرطون كثر في تلك الدعوات ممكناً، إذا تحلى الجميع بروح الثمانية عشر يوماً الأولى في عمر ثورة يناير، من دون الوقوع في مصيدة 11 فبراير مرة أخرى.