الانفلات الأمني في البصرة: استياء شعبي وعجز رسمي

05 مايو 2019
اتهامات للقوات العراقية بالتقصير في ضبط الأمن (فرانس برس)
+ الخط -
تُعدّ نسبة جرائم الاغتيال التي تقع بين الفينة والأخرى في محافظة البصرة جنوبي العراق، الأعلى بين مختلف محافظات الجنوب المستقرّ نسبياً، وإن كانت دوافعها تختلف عن أسباب جرائم مماثلة تحدث في مناطق أخرى، بحسب ما يؤكّد مسؤولون في الشرطة العراقية في المحافظة، لـ"العربي الجديد". وبينما تحضر دوافع طائفية أو جرمية أو خلافات عشائرية في بعض المحافظات، مثل واسط وبابل وكربلاء، فإنّ أبرز سببين للاغتيالات في البصرة هما سياسي أو اقتصادي.

وشهدت المحافظة، التي تعاني من الفقر والبطالة وتردّي الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء والتعليم والصحة، خلال الفترة الماضية، موجة من الاغتيالات طاولت ناشطين مدنيين ورجال أعمال وأعيانا وشخصيات نافذة. فخلال الأسابيع الثلاثة الماضية، سجّل اغتيال تاجر جملة في مجال الأجهزة الكهربائية يُدعى حسين عبد الحمزة الغالبي، وكذلك عضو في شبكة تهريب للنفط (الكاز) في قضاء المدينة بالبصرة، ويُدعى سعد نعمة الخزعلي.

واللافت أنّ أغلب مرتكبي هذه الجرائم ظلوا طلقاء، وهو ما أثار موجة من الاستياء بين الأهالي الذين يسود اعتقاد واسع بينهم بأنّ دوافع الاغتيالات إما سياسية أو بسبب صراع على الثروة والموارد في المحافظة الغنية المطلة على مياه الخليج العربي، والتي تعتبر واحدة من أغنى عشر مدن في العالم نفطياً، حيث تحتوي على 15 حقلاً، من بينها ثلاثة تعتبر الأكبر عالمياً.

وسبق أن تعهّدت الشرطة العراقية بضبط الأمن ووقف عمليات الاغتيال في البصرة، لكنّ ذلك لم يتحقق. وفي السياق، قال مسؤول رفيع في قيادة شرطة المحافظة، لـ"العربي الجديد"، إنّ "80 في المائة من جرائم الاغتيال التي حدثت في البصرة لم يتم التوصّل إلى مرتكبيها، وظلوا طلقاء. كما أنّ كثيراً من اللجان التحقيقية قيّدت الجرائم وأغلقت الملفات المتعلقة بها، لعدم الوصول إلى نتائج تُذكر، فيما اعتُبرت أخرى جرائم إرهابية، رغم العلم بأنها ليست كذلك".


ولفت المسؤول نفسه إلى أنّ "كثيراً من الجرائم تتورط فيها عصابات تهريب النفط والعملة والمخدرات، وأخرى مافيات الموانئ، وكلها مرتبطة بالفصائل المسلحة والأحزاب، وهو ما لا يمكن للشرطة تخطيه، إلا بدعم من بغداد"، موضحاً أنّ "شرطة البصرة تبقى محدودة الصلاحية عندما يتعلّق الأمر بتحقيقات تفضي إلى خيوط ترتبط بأحزاب أو فصائل مسلحة تتورط في عمليات مخالفة للقانون أو حتى تصفية جسدية". وقال المسؤول إنّ "العمل في شرطة البصرة بات بيئة طاردة، وبعض الضباط يطالبون بنقلهم إلى مناطق أخرى بعيداً عن المحافظة، كونهم يشعرون بأنهم لا يمكنهم العمل بمهنية ولا بأمانة".

وكان مستشار محافظ البصرة، محمد الزيداوي، اعتبر أخيراً، أنّ "تواطؤ قادة الأجهزة الأمنية، لا سيما الاستخبارية منها، مع القتلة، أمر أدى إلى استمرار عمليات الاغتيال"، مستغرباً، خلال تصريح صحافي أوردته وسائل إعلام محلية، من "عدم إلقاء القبض على منفّذي الاغتيالات، كما يحدث في المحافظات الأخرى، حيث يتمّ ذلك في غضون ساعات أو أيام". ورأى الزيداوي أنّ "القوات الأمنية إمّا غير قادرة على إنهاء عمليات الاغتيال، أو تعلم بالجهات المنفذة لكنّها تلتزم الصمت إزاءها"، كاشفاً عن وجود "اتفاقات بين جهات عديدة على إخفاء عمليات الاغتيالات، والتكتم عليها وعلى فاعليها وتركهم طلقاء".

من جهته، علّق مسؤول في حكومة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي على الوضع الأمني في البصرة بالقول إنه "غير مُرضٍ"، لكنه أكّد، في اتصال مع "العربي الجديد" من بغداد، أنّ "القوات العراقية تبذل جهدها" في هذا الإطار. ولفت المسؤول، الذي فضّل عدم ذكر اسمه، إلى أنّ "القوات الموجودة في البصرة وحدها، تعادل القوات الموجودة في محافظتين جنوبيتين أخريين، مثل ميسان وذي قار"، معترفاً بأنّ "الأحزاب السياسية والفصائل المسلحة تتحمّل جزءاً من مسؤولية التردي الأمني، لتدخّلها في عمل قوات الأمن وفي ملفات اقتصادية ومادية كثيرة".

وأكّد المسؤول نفسه أنّ "الحكومة تعمل حالياً على توفير صيف مريح لسكان البصرة، قبل كل شيء، لتجنّب سيناريو تظاهرات الصيف الماضي، والتي أدت إلى مقتل وجرح عشرات المواطنين".

في ظلّ هذه الأجواء المتوترة في المحافظة، يؤكد مواطنون أنّ المليشيات المنفلتة ليست بعيدة عن تلك الجرائم. وفي السياق، قال علي سعدون المياحي، وهو أحد وجهاء البصرة، إنّ "الفصائل المسلحة هي من تقف وراء تلك العمليات، وبدوافع سياسية"، موضحاً، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "أغلب الاغتيالات طاولت مواطنين بسطاء، ليست لديهم أي ارتباطات سياسية، ما يعني أنّ اغتيالهم يهدف إلى زعزعة الأمن في المحافظة". وأشار المياحي إلى أنّ "تلك المليشيات لها تأثير قوي على الأجهزة العراقية والقادة الأمنيين، مما مكّنها من ممارسة ضغوط على هؤلاء لتسويغ عمليات الاغتيال والتكتم عليها".

ودعا المياحي إلى "إحالة القادة الأمنيين إلى التحقيق، للوقوف على تلك الجرائم ومحاسبة الجهات المشتركة فيها"، محذّراً من أنّ "استمرار الصمت سيدفع المحافظة نحو مصير مجهول".

وإلى جانب الاغتيالات، تزيد الصراعات العشائرية التي تشهدها البصرة، منذ عقود طويلة، لخلافات على الماء أو الأرض أو حتى ثارات متوارثة من جيل إلى آخر، الوضع تردياً. وفي هذا الإطار، قال عضو التيار المدني في المحافظة محمد الفتلاوي، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "الصراعات العشائرية تتفاعل في أي مكان فيه القانون ضعيف، حيث إن الشرطي يخاف من الملثم في الشارع، ورئيس الدائرة يقف خوفاً لرئيس الحزب". وتابع الفتلاوي "للأسف المدينة بحاجة إلى علاج حقيقي، أمني واجتماعي وسياسي. فسوء الخدمات في محافظات الأنبار أو الموصل أو ديالى أمر معروف، خصوصاً أنّ الإرهاب تركها أطلالا وعاث فيها الفساد، لكن أن تكون البصرة غير مستقرة، فما هو مبرر ذلك؟ أو ماذا سنجيب عندما يقولون لنا إن المحافظة آمنة وبعيدة عن الفوضى والإرهاب، فلماذا لا تمتلك مستشفى نظيفا أو مدرسة حديثة أو حتى ماء صالحا للشرب". ورأى أنّ "الفساد المالي ونفوذ الأحزاب والمليشيات يشتركان في ما وصلت إليه مدينة السندباد".