اختتم أمس الأربعاء المؤتمر الوطني السابع للشباب الذي تنظمه الرئاسة المصرية بصورة نصف سنوية، لترويج النظام وقراراته وسياساته من خلال منصة تلاقي مصطنعة سابقة الإعداد بين رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي وشباب البرنامج الرئاسي لإعداد الشباب للقيادة، والأكاديمية الوطنية لتدريب وتأهيل الشباب وكوادر الأحزاب الموالية للسلطة وعلى رأسها "مستقبل وطن".
وشهدت جلسة افتتاح المؤتمر مساء أوّل من أمس الثلاثاء، فقرة عرضت فيها بعض التدوينات المصوّرة الساخرة "كوميكس" المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، لانتقاد السياسات الاقتصادية للسيسي والرفع المتواصل لأسعار المحروقات والكهرباء والغاز والمياه، من دون الالتفات لمصالح محدودي الدخل وما يترتب على هذه القرارات من تضخّم على المستوى القومي، وانخفاض القدرة الشرائية للمصريين، وتلاشي الطبقة الوسطى، واتساع الهوة بين الأثرياء والفقراء، وارتفاع أسعار السلع والخدمات لمستويات قياسية.
وتفاعل السيسي بسخرية مفتعلة مع هذه الفقرة المعدة سلفاً وفق برنامج المؤتمر الذي يوضع بواسطة لجنة من الرئاسة والاستخبارات العامة، إذ أخذ يضحك متظاهراً باستحسان هذه "القفشات الكوميدية". ثم بدأ يتحدث موجّهاً "التحية" للمواطنين الذين ينشرون هذه الصور وفي الوقت نفسه "يتحملون الإجراءات الصعبة للإصلاح الاقتصادي"، على حد تعبيره، مطلقاً تصريحاً لم يسبق له أن أدلى به مفاده بأنه كان "على استعداد لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة إذا رفض الشعب المصري قرار تحرير سعر الجنيه المصري في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 والدخول في مفاوضات الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي".
وبالطبع، لم يحدد السيسي "صورة الرفض" التي يمكن أن تدفعه إلى اتخاذ مثل هذا القرار، في ظلّ تقييد الأجهزة الأمنية للحقوق والحريات، وملاحقة النشطاء السياسيين والمدونين والإعلاميين، والتصدي بعنف لكل التظاهرات العفوية التي خرجت ضدّ زيادة الأسعار. ويمثّل تصريحه الأخير استمراراً لسلسلة تصريحاته المجافية للواقع منذ 2014 بأنه "سيترك الحكم إذا قال له الشعب المصري إنه لا يريده"، بينما آلته الاستخباراتية والأمنية تمنع مجرد التعبير عن آراء إصلاحية في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، فضلاً عن منعها المطلق للتظاهر والاعتصام والتجمع والإضراب. فيما يعمل برلمانه وحكومته لضمان بقائه في السلطة لسنوات مقبلة لا يعلم مداها أحد، عبر تعديلات دستورية جائرة على روح الدستور أدخل أولها في إبريل/ نيسان الماضي، مما يحوّل كلامه المكرر عن استجابته لنبض الجماهير إلى مجرد حديث نظري للاستهلاك الدعائي.
وفي سياق التناقض بين ما يقوله السيسي أمام الشاشات وما يحدث على أرض الواقع، فإنه يعلم جيداً أنّ "الكوميكس" التي أثارت ابتهاجه في مؤتمر الشباب وأشاد بسببها بـ"صبر وتحمّل المصريين"، على حد تعبيره، تُستخدم سلاحاً لملاحقة الشباب والنشطاء، ويتم تسجيلها كأحراز في ملفات آلاف القضايا منذ صعوده إلى السلطة رسمياً في عام 2014. وقد تمّ تخصيص وحدات عمل كاملة في الأجهزة السيادية والأمنية والقضائية لمتابعة مروجي "الكوميكس" وغيرها من التدوينات الساخرة والمعارضة، وصولاً لإدراجها في عباءة اتهام قضائي جديد ظهر للمرة الأولى مع وصول السيسي للسلطة، هو "إساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي"، في تعبير أمين عن رؤية السيسي وأذرعه الاستخباراتية والأمنية وحتى الإعلامية لوسائل التواصل، كمصدر للشرور والقلق يهدد كيان الدولة المصرية ونظام الحكم فيها، بما يمثّل امتداداً للرواية التي يروجون لها جميعاً، ويؤمن بعضهم بها، عن كون وسائل التواصل سلاحاً تم استخدامه لصنع ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011 وهدم الدولة ومؤسساتها.
واستعانت السلطات الأمنية والقضائية في تجريم تداول هذه التدوينات والصور المعبّرة عن الآراء المعارضة، بالمادة 76 من قانون تنظيم الاتصالات الصادر عام 2003، على الرغم من أنها لم تكن تقصد بأي حال استخدام وسائل التواصل الاجتماعي. وتنص المادة على أن "يُعاقب بالحبس وبغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تتجاوز عشرين ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من استخدم أو ساعد على استخدام وسائل غير مشروعة لإجراء اتصالات، أو تعمّد إزعاج أو مضايقة غيره بإساءة استعمال أجهزة الاتصالات".
وفي أغسطس/آب 2015، أصدر السيسي قانون مكافحة الإرهاب متضمّناً ترسانة من المواد التي يمكن استخدامها لملاحقة مروّجي التدوينات والصور المعارضة أو الساخرة. وعلى رأس هذه المواد المادة 27 التي تنصّ على أن "يعاقب بالسجن المشدد مدة لا تقل عن خمس سنين، كل من أنشأ أو استخدم موقعاً على شبكات الاتصالات أو شبكة المعلومات الدولية أو غيرها من وسائل الاتصال الحديثة، بغرض الترويج للأفكار أو المعتقدات الداعية إلى ارتكاب أعمال إرهابية، أو لبثّ ما يهدف إلى تضليل السلطات الأمنية، أو التأثير على سير العدالة في شأن أي جريمة إرهابية، أو لتبادل الرسائل وإصدار التكليفات بين الجماعات الإرهابية أو المنتمين إليها، أو المعلومات المتعلقة بأعمال أو تحركات الإرهابيين أو الجماعات الإرهابية في الداخل والخارج".
وما زالت النيابة العامة المصرية تستخدم المادتين (76 و27) كسند لتوجيه الاتهام لمستخدمي مواقع التواصل الذين يتم رصدهم من قبل وحدة متابعة وسائل التواصل الاجتماعي في جهاز الأمن الوطني، والتي تمّ ضخ ملايين الجنيهات لتمكينها من متابعة عشرات الملايين من الحسابات باستخدام وسائل تكنولوجية حديثة. فضلاً عن استحداث طرق تضمن اطلاع الجهاز على كل الاتجاهات المعارضة والساخرة التي تنتشر في المجموعات المغلقة على موقع "فيسبوك" ومجموعات التواصل غير المؤمّنة بشكل كامل على تطبيق "واتس آب"، وذلك من خلال تجنيد مئات المستخدمين أو صناعة حسابات وهمية للرصد وبث الأفكار الموالية للسلطة، بحسب ما قال مصدر أمني مطلع لـ"العربي الجديد". وأكّد المصدر أنّ هذه المهمة أصبحت من أهم ما تمّ إسناده للأمن الوطني في السنوات الأخيرة، بالتوازي مع وجود وحدة مشابهة في جهاز الاستخبارات العامة، لكن تبقى الوحدة الخاصة بالأمن الوطني هي الأسرع تحريكاً للقضايا، مشيراً إلى "وجود تنسيق بين الوحدتين في ما يتعلق بالقضايا الكبيرة".
وترصد "العربي الجديد" بعض القضايا المتداولة والمحكوم فيها ارتباطاً بهذه النوعية من الاتهامات والتي لا تختلف في محتواها كثيراً عما أضحك السيسي:
أسباب واهية للاتهامات
تُعتبر القضية 674 لسنة 2019 من أبرز الدلائل على استمرار توجيه الاتهامات لهذه الأسباب الواهية. ففي هذه القضية التي جمع فيها الأمن الوطني ثلاث وقائع لا صلة بين أصحابها والذين كانوا رفضوا النزول من وسائل المواصلات التي كانوا يستقلونها، جبراً للمشاركة في استفتاء التعديلات الدستورية الذي أجري في إبريل الماضي، تمّ توجيه تهمة "إساءة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي" لكل من أحمد بدوي وعبير الصفتي بسبب ما أظهره تفتيش أجهزتهما من احتواء حسابيهما الشخصيين على "فيسبوك" تدوينات وصوراً ساخرة من سياسات النظام. وبناءً على هذا "الجرم" الذي اكتشفته الشرطة بعد القبض عليهما فعلياً، تمّ توجيه اتهام آخر لهما هو مشاركة جماعة إرهابية في تحقيق أهدافها، وتم حبسهما ولم يحالا للمحاكمة إلى الآن.
الاتهام نفسه هو محور القضية 741 لسنة 2019 المتهم فيها الشاب مصطفى ماهر، الذي تُعتبر تدويناته والصور التي يشاركها على صفحته هي أحراز الاتهام الموجه له بمشاركة جماعة إرهابية أسست على خلاف أحكام القانون، واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي لنشر أخبار كاذبة.
كما تمّ اتهام الشاب أمير شرف في القضية 488 لسنة 2019، وعشرة متهمين في القضية 1739 لسنة 2019، استناداً إلى محتويات صفحاتهم الشخصية بـ"إساءة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي" نظراً لمشاركتهم صوراً وتدوينات تنتقد التعديلات الدستورية وتسخر من قرارات السيسي المختلفة.
وفي القضية 582 لسنة 2017، وجهت التهمة نفسها بالإضافة لاتهام ترويج أخبار كاذبة، للناشطين محمد عبد الرحمن نوبي ومحمد علي شرابية، وتم حبسهما بضعة أسابيع قبل أن يتم إخلاء سبيلهما.
وخلال الفترة من 2016 إلى 2017، استعان الأمن الوطني بالتدوينات والصور المنشورة على الصفحات الشخصية لتوجيه اتهامات إضافية بإساءة استخدام مواقع التواصل إلى المتهمين بالتحريض على التظاهر ضدّ التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير باتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية.
وفي عام 2015، حُوكمت الشابة فاطمة جاب الله في القضية 4 لسنة 2015 إداري شبرا الخيمة أول، بتهمة إساءة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، منفردة، من دون أي وقائع إضافية، واكتفى الأمن الوطني بالاستناد لنشرها تدوينات وصوراً تسخر من قرارات السيسي، وصدر ضدها حكم من محكمة الجنح بالحبس شهراً وكفالة 200 جنيه.
وفي العام نفسه، صدر حكم ضدّ شابة في المنصورة بالحبس سنة مع إيقاف التنفيذ، أيدته محكمة الجنح المستأنفة والنقض في ما بعد، لإدانتها بـ"استخدام موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك المتاح للجميع الاطلاع عليه، بغرض الترويج لأفكار مناهضة تحضّ على كراهية النظام القائم على حكم البلاد والازدراء به، ومن شأنها تكدير السلم والأمن العام، والدعوة لصالح تلك الأفكار بأوساط مخالطيها". وكانت أحراز الاتهام هي مجموعة من الصور الساخرة والتدوينات غير المحرضة على العنف بأي صورة، وانعكست في هشاشة الاتهام بالحكم المخفف الذي صدر ضدها.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2014، تم توجيه الاتهام نفسه بالإضافة لتهمة إهانة رئيس الجمهورية إلى الشاب عمرو نوهان الذي حُوكم عسكرياً باعتباره كان ما زال يقضي خدمته العسكرية وصدر حكم بسجنه 3 سنوات.
تخويف يطاول أجهزة الدولة
لم يتوقّف هذا الإرهاب الفكري ضدّ حرية التعبير واستخدام السخرية عند حدّ ملاحقة الشباب المعارضين للنظام، بل امتد ليطاول سلطات الدولة والأجهزة الحكومية. إذ باشر التفتيش القضائي بوزارة العدل التحقيق مع 60 من القضاة وأعضاء النيابة بين عامي 2015 و2016 لنشرهم تدوينات و"كوميكس" تسخر من ارتفاع الأسعار وتعويم الجنيه وضريبة القيمة المضافة وغيرها من المواضيع. علماً بأن عدد القضاة المذكور نشرته صحيفة "اليوم السابع" الموالية للسلطة والمملوكة لجهاز الاستخبارات، بينما نشرت صحيفة "الشروق" الخاصة آنذاك أنباء عن التحقيق مع 35 قاضياً في الفترة نفسها لاعتراضهم على غلاء المعيشة وبعض التوجهات الاقتصادية، ثمّ تمّ حفظ التحقيقات مع بعضهم بوساطة من مجلس الإدارة السابق لنادي القضاة.
إلى ذلك، قالت مصادر قضائية، لـ"العربي الجديد"، إنّه تمّ التحقيق مع حوالي 40 عضواً في مجلس الدولة والنيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة في السنوات الثلاث الماضية، بسبب إعادة نشرهم لصور ساخرة من بعض القرارات الحكومية وتوجهات نظام السيسي، وصدرت أحكام تأديبية سرية بوقف الترقية والنقل على بعضهم.
وتمارس الرقابة على صفحات القضاة الشخصية، وحدات متابعة جديدة مكوّنة من شباب القضاة وبعض الموظفين التابعين لإدارات التفتيش في الهيئات المختلفة، وعلى شاكلتها أنشأت وحدات مشابهة في الهيئات الحكومية المختلفة، ربما أشهرها الوحدة التابعة للهيئة الوطنية للإعلام والوحدة التابعة للمجلس الأعلى للإعلام، والمختصتان بمتابعة صفحات التواصل الخاصة بالصحافيين والإعلاميين والعاملين الفنيين والإداريين باتحاد الإذاعة والتلفزيون والصحف القومية والخاصة.
ومن أبرز الوقائع التي بنيت على عمل الوحدة الخاصة بالهيئة الوطنية؛ إصدار حكم تأديبي بفصل علي أبو هميلة مدير التسجيلات الخارجية في قناة النيل للدراما (موظف بدرجة مدير عام) على خلفية مشاركته تدوينات و"كوميكس" تنتقد تنازل السيسي عن جزيرتي تيران وصنافير، فاتهمته النيابة الإدارية بسلك مسلك لا يتفق مع الاحترام الواجب للوظيفة، ومخالفة القواعد والتعليمات وأحكام القانون، والخروج على مقتضى الواجب الوظيفي، وذلك بكتابة ونشر عبارات مهينة وغير لائقة في حق رئيس الجمهورية.