فرنسا: الحزب الاشتراكي على شفير الانفجار الكبير

30 مارس 2017
فالس وجّه الطعنة الأخيرة للحزب الاشتراكي (خافيير لاين/Getty)
+ الخط -
على بعد أقل من أربعة أسابيع على موعد الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، يعيش الحزب الاشتراكي أحلك الأيام في تاريخه، ويجد نفسه على شفير انفجار وشيك. آخر إرهاصات هذا الانفجار خروج رئيس الوزراء السابق، مانويل فالس، عن الشرعية الحزبية، وإعلانه عزمه التصويت، ابتداء من الدورة الأولى، للمرشح الوسطي، إيمانويل ماكرون، بدل المرشح الاشتراكي الرسمي، بونوا هامون.


وتراجع فالس عن ميثاق الشرف الذي وقع عليه خلال الانتخابات التمهيدية داخل الاشتراكي، وتعهده بمساندة الفائز بالتمهيديات، أيّا كان، في سابقة جعلت خصومه يتهمونه بأقذع النعوت السياسية. فقد اعتبر هامون أن فالس "يلعب لعبة كريهة منذ بدء الحملة الانتخابية، ويطعن في الظهر"، في حين وصفه آرنو مونتبورغ بأنه "رجل بلا شرف، ارتكب جريمته عن سبق إصرار وترصد".

في المقابل، دافعت قيادات التيار الإصلاحي الحكومي عن قرار فالس، واعتبرت أنه ينم عن حكمة سياسية ترفع شعار "الوطن قبل الحزب"، وتهدف إلى إنقاذ البلاد من السقوط في "براثن" اليمين المتطرف، لكون هامون مرشحًا "ضعيفًا" يقود الاشتراكي إلى هزيمة محققة.


واتهم النائب الاشتراكي الإصلاحي، فيليب دوسي، هامون وأنصاره بانتهاج "سياسة الأرض المحروقة"، وقال: "إنهم يتهموننا الآن بالخيانة، ويعطوننا دروسًا في الأمانة والشرف، في حين أنهم لم يكفوا عن مهاجمة الحكومة الاشتراكية خلال السنوات الخمس الماضية، وفعلوا كل ما في وسعهم لإسقاطها"، وذلك في إشارة إلى تيار "الساخطون"، الذي كان يقوده هامون ومونتبورغ ومارتين أوبري، والذي كان ينتقد علنًا الحكومة الاشتراكية، ويتهمها بخيانة الناخبين، ويصوّت ضد قراراتها في البرلمان.


ولم يشكّل دعم فالس لماكرون، في الواقع، مفاجأة كبيرة للمتتبعين، الذين رصدوا منذ انطلاق الولاية الرئاسية الاشتراكية، عام 2012، تبلور تيارين متناقضين لا سبيل إلى مصالحتهما داخل الاشتراكي؛ الإصلاحي الحكومي بقيادة فالس، والتيار اليساري بزعامة هامون.


وبعد فوز هذا الأخير، بدا واضحًا أن الفجوة بين التيارين ذاهبة في اتجاه التناحر الوشيك. إذ تجاهل هامون، مباشرة بعد فوزه في التمهيديات، النظر إلى يمينه، وتحرك في اتجاه اليسار، وحاول استمالة المرشح الراديكالي جان لوك ميلانشون، ومرشح "الخُضر"، يانيك جادو، الذي تمكن في النهاية من استقطابه وإقناعه بالتخلي عن ترشيحه لفائدته.


وفي المقابل، وجد التيار الحكومي نفسه مهمشًا في حملة الحزب الاشتراكي الانتخابية، التي تنتقد بشدة أداء الحكومة الاشتراكية وحصيلة فالس، وترفع برنامجًا يساريًّا لا تستطيع تبنيه، ولو على مضض، في حين أن غالبية أفكار التيار الإصلاحي تجد أصداءها في برنامج ماكرون الليبرالي الوسطي، وهذا ما يجعل التقارب بين فالس وماكرون خطوة منطقية من الزاوية السياسية والأيديولوجية. وبات الطلاق بين التيارين واقعًا لا سبيل إلى تجاهله، رغم محاولات التوسط والترميم التي اضطلع بها الأمين العام للحزب، جان كريستوف كامباديليس، وباءت كلها بالفشل الذريع.

والواقع أن مبادرة فالس تأتي كآخر رصاصة في حرب طويلة لتقويض الحزب الاشتراكي ومرشحه الرسمي، بدأها منذ سنوات الاشتراكي السابق، ومرشح اليسار الراديكالي حاليًّا، جان لوك ميلانشون، الذي ما فتئ يمتص الرحيق الراديكالي داخل الاشتراكي، ويشن هجومًا قاسيًا على هولاند وفالس والتيار الإصلاحي.


وفي اللحظة الراهنة، تشير عدة استطلاعات للرأي بأن قسمًا مهمًّا من الناخبين الاشتراكيين يميلون للتصويت له أكثر مما يميلون للتصويت إلى هامون، رغم التقارب الكبير في أفكارهما اليسارية. أيضًا يتحمل ماكرون جزءًا كبيرًا من المسؤولية في إشعال الحريق في البيت الاشتراكي، منذ أن قرر الترشح للرئاسيات الصيف الماضي ونسف مشاريع الرئيس هولاند الرئاسية، وسحب البساط من تحت أقدام فالس.


وقام ماكرون بقراءة ذكية لمآل الحزب الاشتراكي ومأزقه، خلال عمله مستشارًا للرئيس، ولاحقًا وزيرًا للاقتصاد في الحكومة السابقة، قادته للعمل على استثمار التناقض القاتل بين التيارين اليساري والإصلاحي لصالحه، ومن هذه الزاوية ساهم تقدمه للترشح وتألقه خلال الحملة الانتخابية الجارية، في زرع المزيد من البلبلة في الاشتراكي وتسهيل تفتيته. وكان من اللافت، في هذا السياق، الترحيب الفاتر من طرف ماكرون بإعلان فالس دعمه له، والتأكيد، في ما يشبه التحقير، على أنه في حال فوزه في الرئاسيات فلن "يحكم أبدًا بالتحالف مع فالس وتياره"، وأنه "حريص على انتهاج سياسة تجديد الوجوه والممارسات السياسية".

ويرى مراقبون أن فالس، بتخليه عن هامون، يتّخذ قرارًا براغماتيًّا يحاول من خلاله الاحتفاظ بموطئ قدم في المشهد السياسي الفرنسي، ويحضّر لمستقبله في الخريطة السياسية الجديدة، التي ستبزغ بعد نتيجة الاقتراع الرئاسي في مايو/أيار المقبل. ذلك أن فالس، بعد هزيمته في الانتخابات التمهيدية أمام هامون، وجد نفسه في موقع المنبوذ من طرف الناخبين الاشتراكيين، وأيضًا في موقع المحروم من يافطة التقدمية الليبرالية التي يرفعها ماكرون بتألق ومصداقية أكثر.


ويرغب فالس، مدفوعًا بحسابات شخصية، في تأسيس فريق اشتراكي ديمقراطي داخل البرلمان، قادر على التفاوض مع ماكرون في حال فوزه بالرئاسة. غير أن هذا الهدف له ثمن باهظ، ويمر بالضرورة على جثة الاشتراكي التي يراهن كثيرون على تحللها بعد الاقتراع الرئاسي.