على غرار مجزرة عشيرة الشعيطات السورية التي نفذها تنظيم "داعش" في أغسطس/آب 2014، والتي أسفرت عن مقتل مئات الرجال من أبناء العشيرة والتمثيل بجثث الضحايا، تبرز كذلك عشائر عدة في شمال العراق وغربه، كضحايا بالجملة لمجازر طاولت أبناءها على يد "داعش"، بسبب رفضهم مبايعة التنظيم وزعيمه في ذلك الحين أبو بكر البغدادي، أو الاعتراف بولايته وحكمه والانصياع لما عُرف آنذاك بـ"وثيقة المدينة"، التي اعتمدها "داعش" كدستور لحكمه.
ومن أبرز تلك العشائر البونمر، ومعقلها الرئيس بمحافظة الأنبار غربي البلاد، إذ تتصدّر القائمة كإحدى العشائر المنكوبة بفعل هجمات "داعش"، وقد بلغ عدد ضحايا الرجال منها أكثر من 1300 بينهم مراهقون، في مجازر متقاربة نفّذت بحق العشيرة بين عامي 2014 و2015، بعد رفض وجهاء وأعيان فيها مبايعة التنظيم أو التعامل معه. وبذلك، أصدر الأخير حكماً بتكفيرها، وبالتالي إنزال عقوبة القتل والإجرام بحقّ أبنائها.
وتقطن العشيرة التي تعدّ من بطون قبيلة الدليم العربية القحطانية الممتدة على أجزاء واسعة من العراق وسورية، في منطقة الزوية ضمن قضاء هيت بالأنبار (180 كيلومتراً غربي بغداد)، واشتهرت بمواقفها المقاومة للقوات الأميركية بعد غزو العراق عام 2003، كما تصدرت المواجهة مع تنظيم "القاعدة" بين عامي 2006 و2009 في هيت وضواحيها ومناطق أعالي الفرات.
وعقب احتلال تنظيم "داعش" مساحات واسعة من شمال العراق وغربه منتصف عام 2014، فرض ما عُرف بـ"وثيقة المدينة" على كل مدينة احتلها وبسط نفوذه فيها، وتتضمن مبايعة السكان للتنظيم والالتزام بقوانين دوّنها في تلك الوثيقة التي طبعت ووزعت على السكان. إلا أنّ عشيرة البونمر كانت قد اتخذت قرارها برفض الوثيقة وكذلك رفض الاعتراف بولاية "داعش" وحكمه ومبايعة زعيمه أو التعاون معه، وهو ما أدخلها بمواجهة مع التنظيم الذي كان آنذاك يتفوّق عدداً وتسليحاً، لينفذ مجازر عدة وبأوقات متفاوتة بحق أبناء العشيرة، كانت الأولى عبر إعدام 70 من رجالها وسط شارع عام في 2014، فيما قام بوضع آخرين في أقفاص حديدية ومن ثمّ تمّ إنزالهم في نهر الفرات، في طريقة إعدام كان يرغب من خلالها ترهيب باقي البطون العربية الموجودة بالأنبار والرافضة له.
في السياق، يقول الشيخ نعيم الكعود، أحد شيوخ العشيرة، ورئيس اللجنة الأمنية في مجلس محافظة الأنبار، لـ"العربي الجديد"، إنها "ليست مجزرة واحدة، بل مجازر وقعت بحق العشيرة ومجموع ضحاياها يتجاوز 1300؛ قسم منهم تمّ حرقهم أحياء، وآخرون وضعوا في أقفاص أنزلوها داخل الفرات، وآخرون تمّ نحرهم، وقسم أعدم رمياً بالرصاص، عدا عن فرض حصار مطبق على العشيرة، إذ كانوا يمنعون دخول المواد الغذائية وكل أشكال المعونة لمنطقة الزوية في هيت".
ويضيف الكعود: "نفذت مجازر أخرى مثل مجزرة البئر، راح فيها العشرات، ومجزرة بحيرة الثرثار ومجزرة الزوية، حيث تمّ دفن الضحايا أحياء من قبل التنظيم. وهناك مجازر سرّبت صور لها مثل مجزرة فلكة هيت". ويشير كذلك إلى أنّ هناك "من أخذهم داعش ولا نعرف مصيرهم إلى الآن، وهناك ضحايا اختطفوا على طريق بحيرة الرزازة، ويقال إنهم موجودون ومسجونون عند المليشيات".
ويتابع الكعود: "كنا نتصور أنّ الحكومة تضع الأولوية لتضميد جراح العشيرة عبر مساعدتها بتعويضات أو إعمار مناطقها، لكن اتضح أنه لم يكن لديها أي تقييم وأي تقدير، وأنا أعذر هؤلاء الناس لأنهم أصحاب سلطة موجودون لغرض نفع أنفسهم وليس لخدمة البلد". وختم بالقول إنّ "الدولة مطالبة اليوم بأن تساعد الذين وقفوا بوجه داعش، غير أنّ ما نراه هو العكس".
من جانبه، يصف الشيخ عماد النمراوي، أحد أعيان عشيرة البونمر، ما تعرّض له أبناء عمه وأقرباؤه من العشيرة بأنه "لم يحصل لأي عشيرة أخرى في العراق". ويضيف لـ"العربي الجديد"، أنه "بعد سقوط قضاء هيت بيد عصابات داعش، حاصر التنظيم منطقة الزوية، حيث مقرّ العشيرة، من كل الاتجاهات، واستمر القصف أياما طويلة، قبل أن تبدأ عملية ارتكاب المجازر. لذا، فإنّ أرقام الضحايا أكثر من المعلن، وبزيارة للمنطقة سيكتشف الباحث أنّ هناك مأساة إنسانية وقعت على حافة الفرات قليل من الناس كتب عنها أو تحدّث بها". ويتابع "رفضنا بيعة الدم ووثيقة الإرهاب ونفخر بذلك اليوم".
ويطلق في الأنبار على فترة أخذ "داعش" بالقوة البيعة من السكان، وخصوصاً العشائر، بأنها "بيعة الدم"، ويتفاخر السكان اليوم بمن رفضها ويستذكرون من ذهب ضحية هذا الموقف.
الداخل إلى حارات منطقة الزوية، سواء بشقها الريفي أو ذاك الذي تحول لأحياء سكنية معبدة الشوارع، سيجد أنّ الأرامل والأيتام في كل مكان، وبالكاد يوجد لون غير الأسود فيها. وتقول أم عبد الله (67 عاماً) التي فقدت زوجها وأبناءها الثلاثة بإحدى مجازر "داعش": "أنتظر الموت كما ينتظر أحدهم القطار في المحطة، فلا معنى لوجودي". وتضيف في حديث مع "العربي الجديد": "ليتهم قتلوني معهم، وأكثر ما يحزّ في النفس أن تلك الأماني كلها تتوقف عند مهمة تربية الأيتام (أحفادها)". وعلى الرغم من ألمها إلا أنها تختم بالقول: "ذهب التنظيم واحترقت وثيقته الدموية وبقي العراق وهذا الأهم". ويتولى أكثر من رجل ميسور الحال من أبناء العشيرة كفالة أسر صارت بلا معيل بعد مجازر التنظيم بحقها.
وحول جرائم "داعش" بحقّ المنظومة القبلية والعشائرية في العراق، يقول عضو البرلمان عن محافظة الأنبار، عادل المحلاوي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنها كانت "الأكثر فظاعة". ويضيف "الأنبار وصلاح الدين ونينوى حصلت فيها مجازر بشعة على يد داعش، ووُجّهت نحو المنظومة العشائرية تحديداً، فصارت لدينا مجازر البو محل، والزوية، والعامرية وحديثة والقائم. لكن اللجان التحقيقية التي تشكلت حول المجازر التي حصلت، لا تزال تراوح مكانها، ولغاية اليوم هناك عائلات لديها مغيبون وأخرى فقدت اثنين وثلاثة من أبنائها. وهناك عائلة فقدت تسعه أشخاص، وبقي منها النساء فقط، وهؤلاء لديهنّ أطفال، فيما الحكومة لم تتقدم خطوة باتجاه معالجة تلك المآسي".
بدوره، يؤكّد عضو اللجنة القانونية في البرلمان، يحيى المحمدي، أنّ "أيا من لجان التحقيق في هذه الاعتداءات، لم تسفر أو تثمر أعمالها عن إجراءات حكومية لإنصاف المعتدى عليهم". ويضيف لـ"العربي الجديد"، أنّ "هناك عشائر وقع عليها ظلم كبير خلال مرحلة احتلال داعش السوداء لمدن العراق، وفي المقابل الحكومة الماضية والحكومة الحالية لم تقدم أي شيء". ويوضح المحمدي أنّ "كل اللجان التي شكلت ومن ضمنها اللجنة المشكلة للبحث عن مفقودي مدينة الصقلاوية بالأنبار، لم تصل إلى نتائج ملموسة وواقعية، فقط كانت لجان تقصّي حقائق، لكن بدون نتائج"، مؤكداً أنّ "الحكومة هي المسؤولة، وتتحمّل بشكل مباشر نتائج الوضع الإنساني السيئ بسبب تلك المجازر".