ارتفع منسوب التوتر في تونس إلى أقصى درجاته، بفعل الملفات الخلافية، التي فُتحت مرة واحدة في كل الاتجاهات. ومع سلسلة الاحتجاجات التي تتوسع رقعتها يوماً بعد يوم، شهد البرلمان حالة من الاضطراب وتبادل التهم بين النواب، بسبب مناقشات تتعلق بالمحروقات، وفُتح ملف التسريب الإعلامي لقناة "نسمة" ومعركتها مع هيئة السمعي البصري في لجنة برلمانية، وفي أخرى خصومات هيئة الحقيقة والكرامة التي اتهمها أعضاء سابقون فيها بالفساد. وبلغ التوتر ملاعب كرة القدم بسبب خصومات بين رئيس الاتحاد التونسي لكرة القدم وعدد من الأندية في أصيل بنقردان الجنوبية. وتحوّل الصراع الرياضي إلى سياسي بامتياز، وصل إلى حد تدخل رئيس جمعية بنقردان، في برنامج تلفزيوني مباشر، ليهدد بعودة الاحتجاجات إلى المدينة وبحرب شوارع، في محاولة للإطاحة برئيس الاتحاد. وفي المقابل أصدر الاتحاد الجهوي للشغل بياناً لمناصرة جمعية صفاقس، التي دخلت بدورها في صراع مع رئيس الاتحاد الكروي.
وبرغم عدم جدية هذه التهديدات، فإنها تعكس أولاً الوضع المتوتر السائد في تونس على جميع المستويات، وحالة الانقسام الموجودة داخل المجتمع، والتي تظهر بشكل جلي وقت الأزمات. إلى ذلك، توسعت الاحتجاجات إلى مناطق جديدة. وبعد تطاوين والكاف والقيروان وسيدي بوزيد وزغوان، وصلت الاحتجاجات إلى قابس مدنين وقفصة، بانتظار سليانة نهاية الأسبوع الحالي، كما أكد أحد قيادات الجبهة الشعبية. ونظم عمال الحضائر، الثلاثاء الماضي، وقفة احتجاجية في ساحة القصبة في العاصمة تونس، قرب مقر الحكومة، للمطالبة بتسوية وضعهم منذ سنة 2011. وتصاعدت حرب البيانات بين الأحزاب، وخرجت المعارضة التونسية، بكل مكوناتها، لتجهز على ما تبقى من أنفاس لدى الحكومة، وصلت إلى حد دعوتها للرحيل وطرح إمكانية مبادرات سياسية جديدة.
وكان الشق المعارض لحافظ قائد السبسي، الذي يحمل تسمية "الهيئة التسييرية لحركة نداء تونس"، قد اعتبر أن الاحتجاجات الشعبية في المناطق هي ممارسة ديمقراطية شرعية، وتعبير مشروع عن الحق في التنمية، وأنها على مستوى من الوعي والنضج لا يسمح بأي انقضاض عليها. واعتبر معارضو السبسي أن هناك "أزمة حكم لا فائدة من المزيد من التغطية عليها، وأن ذلك يتطلب مبادرة وطنية جديدة متحررة من الخلفيات والحسابات الضيقة، ومبنية فقط على تجميع كل القوى، من دون إقصاء، حول إنقاذ الانتقال الديمقراطي من التعطيل، نتيجة تنصيب أشخاص رديئين في المواقع الوطنية الأمامية". إلى ذلك، اعتبر زعيم الجبهة الشعبية، حمة الهمامي، أن منظومة الحكم وائتلافها الحزبي أثبتت فشلها وعدم قدرتها على حل المشاكل التي تتخبط فيها البلاد. وقال، في ندوة صحافية، إن هناك من يتحدث اليوم عن انتخابات مبكرة، وفي كل الحالات لا بد من حل سياسي حقيقي، لأن التغيير في الحكومة لا يمكن أن يحل المشكلة، ولذلك فإن الجبهة الشعبية تناقش ضرورة إيجاد مخرج حقيقي للبلاد يستوجب وضع منظومة حكم جديدة. وكشف عضو مجلس أمناء الجبهة الشعبية، نزار عمامي، لـ"العربي الجديد"، أن نقاشات داخل الجبهة حول تقييم أداء الائتلاف الحاكم حالياً، على مستوى الرئاسة ورئاسة الحكومة والبرلمان، أفضت إلى اعتبار "أن منظومة الحكم الحالية لم تتوصل إلى إيجاد الحلول اللازمة للخروج بالبلاد من الأزمة التي تعيشها، بل تفاقمت المشاكل وتصاعدت حدة الاحتجاجات الاجتماعية في المناطق، وهو ما يعني أن هناك حلين فقط للخروج من هذا الوضع، أولهما تغيير منظومة الحكم، والثاني انتفاضة اجتماعية على غرار تلك التي حصلت في 2011".
ويطرح فصيل اليسار العمالي في الجبهة الشعبية بقوة مسألة إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وفق ما صرح به عمامي. وقال إن الائتلاف الحاكم حالياً كون حكومتين متعاقبتين، من دون احتساب التعديلات فيهما، لم تستطيعا الوفاء بتعهدات هذا الائتلاف بل زادت الأوضاع تدهوراً، ما جعل فكرة الدفع نحو إجراء انتخابات رئاسية مبكرة تطرح من قبل حزبه على بقية فصائل الجبهة، وتكون موضوع دراسة منذ ما يقارب الثلاثة أشهر، على حد تعبيره. ولم يبد عمامي تخوفه من أن تعيد الانتخابات المبكرة إنتاج ذات التركيبة الحالية في الساحة السياسية. وقال، لـ"العربي الجديد"، إن الجبهة "تعول على وعي التونسيين بأن هذه المنظومة عاجزة عن التغيير، واكتفت بتنفيذ إملاءات صندوق النقد الدولي والمنظمات المانحة، وعمقت الدين التونسي، ولم تقم بأي مراجعات تنموية، وتجاهلت صوت الجهات وحقها في التنمية". وعلق آماله على أن "يكون التونسيون، بعد قرابة سبع سنوات من الثورة، قد خلصوا إلى أن الحكومات الليبرالية المتعاقبة لن تقدم لهم أي إضافة بقدر ما ستواصل إفقارهم وحماية لوبيات الفساد والارتهان لدوائر القرار المالي الأجنبية، وهو ما يدعو لوجوب إعطاء الفرصة لأطراف أخرى على الساحة، لها طرح مغاير يخدم مصلحة التونسيين".
ووسط هذا الكم الهائل من الأخبار السيئة التي تساقطت على قصر الحكومة في القصبة، يبدو أن هناك بعض الأخبار الجيّدة في المقابل، لكنها وصلت من خارج تونس، وأولها من قطر، إذ أعلنت وزيرة المالية، لمياء الزريبي، أن تونس حصلت، الثلاثاء الماضي، على تمويلات قطرية بقيمة مليار دولار، ستخصص لدعم ميزانية الدولة. وقالت الزريبي، في تصريح لوكالة الأنباء التونسية، إن الأمر يتعلق بإعادة تمويل بقيمة 500 مليون دولار كانت ستخصص لتسديد قرض قطري سابق حل أجل تسديده من جهة، وتحويل الوديعة القطرية، المقدر قيمتها بـ500 مليون دولار لدى البنك المركزي، والتي يحل أجل سدادها قريباً، لفائدة ميزانية الدولة، من جهة أخرى. وأشارت إلى أن هذه التمويلات، كان قد أعلن عنها أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في مؤتمر الاستثمار "تونس 2020"، إضافة إلى تمويلات أخرى بقيمة 250 مليون دولار ستخصص لتمويل بعض المشاريع العامة. وجاء الخبر الثاني من نيويورك، إذ أكدت الزريبي أيضاً أن قرار صندوق النقد الدولي بالموافقة على صرف الجزء الثاني من قرض سيتيح لتونس الحصول على تمويلات بقيمة 1.15 مليار دولار من مقرضين دوليين. وتوصلت بعثة الصندوق لدى تونس، منذ أيام، إلى اتفاق مبدئي لصرف شريحة ثانية بقيمة 320 مليون دولار مؤجلة من إجمالي قرض قيمته 2.8 مليار دولار. وأكدت الزريبي أن الاتفاق مع صندوق النقد الدولي سيمكن تونس من الحصول على تمويلات لصالح الميزانية بقيمة 500 مليون دولار من البنك الدولي، و500 مليون دولار من الاتحاد الأوروبي، و150 مليون دولار من البنك الأفريقي للتنمية.
غير أن هذه الاخبار السعيدة، التي ستمنح جرعة أوكسجين هامة للاقتصاد المريض، لن يكون تحويلها إلى إجراءات ملموسة ممكناً إلا بعد فترة زمنية معينة، في حين أن رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، لا يملك حالياً هذا الوقت ويحتاج إلى إجراءات عاجلة وفورية تسكت الأصوات المتعالية، وتسحب البساط من تحت المعارضة التي تنتظر سقوط الحكومة. وسيكون على الشاهد أن يخرج كل الأسلحة المتاحة له ليواجه هذه الأزمة، لأنه إن نجح في تجاوزها فسيسدد ضربة قوية إلى معارضيه، لأن الأشهر المقبلة ستكون إلى صالحه بكل المقاييس، إذ ستنكب العائلات التونسية على امتحانات أبنائها (في تونس تنصرف العائلات بكل تركيزها على الامتحانات خلال هذه الفترة وتتراجع بقية الاهتمامات) في انتظار موسمين، سياحي وفلاحي، واعديْن، وعودة المهاجرين التونسيين بما تحمله من دعم من العملة الصعبة، وموسم صيفي ينصرف فيه الأهالي عن السياسة، إلى أجواء العطل والمهرجانات. لكن ما هي الأسلحة المتاحة التي ستمكن الشاهد من مواجهة امتحانه الأصعب منذ توليه الحكومة، خصوصاً أمام برود سياسي من داعميه لم يتجاوز البيانات حتى الآن، ولم يتحول إلى مؤازرة شعبية فعلية في الميادين؟ يبدو أن الشاهد قرر عدم الانتظار إلى أن تستفحل الأزمة، وقرر التعويل على نفسه والذهاب إلى المحتجين في زيارات ميدانية تقوده إلى عدد من المناطق، وهو أمر ينم عن شجاعة سياسية حقيقية، لكنه لا يملك بديلاً عنها، لأنه يراهن على مستقبله السياسي، من دون أن يخفي في الوقت ذاته مخاوف من أن تنقلب هذه الزيارات إلى احتجاجات، خصوصاً أن المعارضة تجمع كل قواها لإحباطها.