إيرلندا - بريطانيا.. المصلحة أقوى من التاريخ

12 ابريل 2014
الرئيس الإيرلندي وزوجته في زيارتهما اللندنية (GETTY)
+ الخط -

يبدو أن كلاً من أيرلندا وبريطانيا اقتنعتا، أخيراً، بأن ما فرّقته إيرلندا الشمالية في ليالي بلفاست الدموية، وملاعب كرة القدم، واحتفالات "سان باتريك"، والأحد الدامي (1972)، وصعوبات توقيع اتفاق "الجمعة العظيمة" (1998)، يجب وضعه في أدراج التاريخ، للبحث معاً عن الاقتصاد.

حطّت طائرة الرئيس الايرلندي، مايكل هيغينز، في مطار هيثرو اللندني، قبل أيام، في زيارة تُعتبر، بريطانيّاً، الأكثر إثارة للجدل في العام 2014، وذلك بعد 3 أعوام على زيارة تاريخية هي الأخرى للملكة اليزابيث الثانية الى الجزيرة الخضراء. يرغب الرجل في طيّ صفحة الماضي مع البريطانيين، المتمركزين على الضفة الأخرى من البحر الإيرلندي، وقناة "سان جورج". البريطانيون، أعداء القرون السالفة، باتوا شركاء المرحلة المقبلة لإيرلندا، ودبلن لا تجد بديلاً عنهم لإنقاذ البلاد من الترهّل الاقتصادي الذي تعيشه، على خلفية تداعيات الأزمة المالية العالمية 2008، وتأثيراتها المتناسخة.

لا يعني هذا أن بريطانيا بألف خير، لكن الحاجة المتبادلة حتّمت على البلدين اعتماد سياسة أكثر واقعية. فإيرلندا، مثلاً، كانت تعتمد على جموع المهاجرين المغتربين في الولايات المتحدة (حوالى 40 مليون أميركي يتحدّرون من أصول إيرلندية)، لتمويل الاقتصاد المستند أساساً إلى الخدمات (69 في المئة من الاقتصاد)، والصناعة (29 في المئة)، في صورة شبيهة بحالات عربية عديدة. لكن الإيرلنديين ـ الأميركيين، باتوا مقيّدين أكثر بعد تنظيم واشنطن لسياسة الأموال، وقوننتها، ومنع إخراجها بكميات كبيرة الى خارج البلاد، وهو أمر يُضاف إلى الحالة الاقتصادية التي لا تُحسد الولايات المتحدة عليها اليوم، لتنخفض التحويلات المالية الى إيرلندا.

أما في السوق الأوروبي، فالوضع صعب على دبلن؛ فعدا عن كونها الثانية في الدخل الفردي الأقوى (تسبقها لوكسمبورغ فقط) من بين 18 دولة أوروبية، غير أن السوق، الذي يتضمّن بلداناً كاليونان واسبانيا والبرتغال وقبرص، يبدو غير مستقرّ. بالتالي، واعتماداً على كون إيرلندا تعتمد بالأساس على بريطانيا من الناحية التجارية (32 في المئة من الاستيراد، و21 في المئة من التصدير)، يبدو سهلاً، اقتصادياً، تشريع الأبواب أمام رجال الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. وتبدو الحاجة الإيرلندية الى بريطانيا أكبر، كون شريك بريطانيا الأول، تصديراً واستيراداً، ليس سوى ألمانيا، بينما تأتي إيرلندا في المرتبة الخامسة، بالنسبة الى لندن، وتصديراً فقط وبنسبة 6 في المئة.

على أن الاتفاقيات التجارية التي يُتوقَّع أن تتلاحق في الفترة المقبلة، ستكون على حساب اتفاق "الجمعة العظيمة" (الموقّع عام 1998 بين بريطانيا وإيرلندا والأحزاب الإيرلندية الشمالية)، على اعتبار أن البند الثالث من الاتفاقية ينصّ على أنه "لن يتغيّر أي موقف سياسي لإيرلندا الشمالية إلا بموافقة سكانها، من خلال الاستفتاءات التي تقام بأمر من وزير الخارجية البريطاني، وتكون المدة بين الاستفتاء والآخر سبع سنوات، على الأقل". ولم يحصل أي استفتاء بعد، على الرغم من أن إيرلندا الشمالية شهدت هجمات "تذكيريّة" لبعض المتطرّفين دينياً في السنتين الماضيتين، لكن العامل الاقتصادي من شأنه إبعاد أي استفتاء إلى أمد غير منظور، وخصوصاً أن لا جيش جمهورياً إيرلندياً في الأفق، قد يعرقل المسار السياسي.

الجيش الجمهوري الإيرلندي، الذي نشط في إيرلندا الشمالية في الربع الأخير من القرن العشرين، بات تقريباً من الماضي، بعد التأكد من أن ظروف استقلال إيرلندا عن بريطانيا في 1916، أصبحت مختلفة جداً بالنسبة الى إيرلندا الشمالية. انتهى زمن العسكر، والصراع الكاثوليكي ـ البروتستانتي ليس في وارد العودة الى الواجهة في زمن التحديات المالية، وإيرلندا الشمالية قد تبقى في إطار "اتفاق الجمعة العظيمة"، من دون تعديل وفي غياب كل استفتاء يسمح بإعادة النظر في تركيبة الحكم في بلفاست، وتحقيق الاستقلال الكامل عن بريطانيا أو الانضمام الى إيرلندا أو المحافظة على الكيان الحالي كما هو.

بين "الأحد الدامي" (1972)، والزيارة التاريخية للرئيس الإيرلندي قبل أيام، بعضٌ من ظلال مايكل كولينز وايمون دي فاليرا، بطلَي استقلال 1916، والمتواجهان على حلبة الحرب الأهلية الإيرلندية (1922 ـ 1923). إيرلندا تتغيّر، بجمهوريتها وفي شمالها. أما بريطانيا "العظمى"، فلم تكن تحلم بأكثر من هذا، في ظلّ جنوح اسكوتلندا الى الاستقلال النهائي، بعد قرون من الارتباط العضوي. وحتى يعلم العالم أن لندن ودبلن تسلكان درب الوفاق التامّ، تكفي مراقبة احتفالات "سان باتريك" المقبلة، ومباراة كرة القدم الودّية التي ستحتضنها دبلن، بين إيرلندا الخضراء وأسود انكلترا في يونيو/ حزيران 2015.

دلالات