نجح الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، في استدراج أبرز أحزاب المعارضة السياسية وأقطابها إلى لقاءات حوار ثنائية، على الرغم من مواقفها الراديكالية ضدّ السلطة، ورفضها انتخابات ديسمبر/كانون الأول الماضي، والتي حملت تبون إلى سدة الحكم. وينطوي هذا على تحوّل لافت وتطور للمواقف السياسية لهذه الأحزاب والمرجعيات المعارضة تجاه السلطة والرئيس نفسه، وبروز إمكانية إقامة حوار سياسي موسّع لصياغة تفاهمات المرحلة المقبلة، وإطلاق مسار ديمقراطي يستجيب للمطالب المركزية للحراك الشعبي.
ومنذ استقبال تبون، نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي، رئيس الحكومة الأسبق أحمد بن بيتور، الذي كان يُعَدّ من أبرز المعارضين الراديكاليين، ثمّ لقائه وزير الخارجية الأسبق أحمد طالب الإبراهيمي، الذي كان ضمن الرافضين لانتخابات ديسمبر الماضي وأكثر المتحمسين للحراك الشعبي عبر بيانات ومواقف كثيرة، كان واضحاً أنّ الرئيس الجزائري بصدد تحقيق اختراق جدي في جدار المعارضة السياسية. فبن بيتور الذي يُعرف عنه موقفه الرافض للحوار مع السلطة، كان يطالب بدلاً عن الحوار بـ"التفاوض" مع النظام بشأن ترتيبات رحيله وليس التفاهم على شراكة سياسية، وتمثّل ذلك بوضوح في أحد تصريحاته، حين قال: "عندما تجد لصاً في بيتك، هل تتحاور معه أم تعتقله وتخرجه من البيت؟ النظام هو ذلك اللص". لكن بن بيتور وافق لاحقاً على لقاء تبون في سياق حوار سياسي، من دون أن يشرح للرأي العام مبررات موقفه وما إذا كان الأمر يتعلّق بتحوّل في التقدير السياسي.
إضافة إلى بن بيتور والإبراهيمي، اللذين يعدان من المرجعيات السياسية للحراك الشعبي، فوجئ الرأي العام والحراك في الجزائر لاحقاً بموافقة رئيس حزب "جيل جديد"، جيلالي سفيان، على الحوار مع تبون ومقابلته، على الرغم من أنّ سفيان وحزبه، ظلا من بين أبرز القوى السياسية تشدداً في مواقفها ضدّ السلطة. وكان وصف في بياناته السابقة الانتخابات الرئاسية الأخيرة بـ"المسرحية التي ستتيح للنظام التجدد من الداخل"، كما كان يتحدّث بشكل مستمرّ عن ضرورة "مساعدة النظام على الرحيل".
وبرر سفيان، في تصريح لـ"العربي الجديد"، تطور موقفه، بالقول إنّ "المرحلة السياسية تفرض ذلك، ووجود سلطة جديدة تعبّر عن نواياها الحسنة يستدعي أن نتخذ موقفاً إيجابياً، لا سيما مع كل دعوة إلى الإصلاح السياسي، من دون التنازل عن المطالب المركزية للجزائريين بالديمقراطية والحريات. كما أنه يجب أن يسمع الرئيس هذه المطالب بصورة واضحة".
وإذا كان قبول رئيس حركة "مجتمع السلم" (إخوان الجزائر)، عبد الرزاق مقري، الحوار مع تبون، على الرغم من مواقف الحركة ورفضها المشاركة في الانتخابات الرئاسية واتهامها السلطة والجيش بإجهاض إطلاق مسار ديمقراطي، لم يشكّل مفاجأة للرأي العام والحراك، لكون الحركة كانت شريكة في الحكومة بين 1994 و2012، فإن أكبر مفاجأة كانت التحاق أحد أبرز الشخصيات الراديكالية في مواقفها داخل التيار الإسلامي، وهو عبد الله جاب الله، بركب الحوار مع الرئيس، على الرغم من اعتراض الحراك الشعبي على ذلك.
وعُرف جاب الله بمعارضته الشديدة للسلطة منذ تسعينيات القرن الماضي، ورفض منذ عقود أي حوار أو شراكة سياسية معها، وتحمّس للحراك وقاد الإطار السياسي الذي كان يجمع قوى المعارضة السياسية، وساهم في صياغة وثيقة مؤتمر المعارضة في يوليو/تموز 2019، واعترض بشدة على تنظيم الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ووصفها بـ"المسرحية السياسية"، وطالب بدلاً من ذلك بمرحلة انتقالية. لكن جاب الله وبعد لقائه تبون، قال في بيان نشره الأربعاء الماضي، إنّ "الحوار السيد هو الخيار المفضل والسبيل الناجع في مواجهة الاصطفاف الحاصل، والخروج الآمن من الأزمة الحالية، وتحقيق الإصلاحات اللازمة والشروط المختلفة التي تحمي إرادة الشعب وتصونها وتحفظ له حقه في السلطة والثروة وفي العدل والحرية".
وأضاف جاب الله أنّ "صعوبة الأوضاع العامة للبلاد اقتصادياً واجتماعياً، والمستجدات على الساحتين الوطنية والدولية، خصوصاً ما يحدث في ليبيا، لا يسمحان بمزيد من الوقت في تعطيل البدء بتحقيق مطالب الشعب المشروعة التي عبّر عنها من خلال ثورته السلمية المباركة منذ 22 فبراير من العام الماضي". وأوضح أنه "وضع في حسبان (هذا اللقاء) ضرورة الدفاع عن مطالب الشعب والتنبيه إلى مخاطر الالتفاف حول هذه المطالب الشرعية"، ومطالبة الرئيس "بتوفير شروط زرع الثقة بين السلطة والشعب، وتحييد وعزل كل الفاسدين والمساهمين في الأزمة التي عرفتها البلاد، وإطلاق سراح جميع المعتقلين بسبب آرائهم، وفتح وسائل الإعلام، وعدم التضييق على شباب الحراك والناشطين السياسيين".
ويرى متابعون وناشطون سياسيون أنّ قبول بعض الشخصيات السياسية والمرجعيات البارزة بالنسبة للحراك، الحوار مع تبون، يمكن وصفه بالنجاح السياسي الهام للأخير، على طريق إزالته للألغام السياسية التي ورثها من نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.
وفي السياق، يعتقد الباحث في الشؤون السياسية، عامر سجال، أنّ "الرئيس تبون تصرف بحكمة وقام بالخطوة الصحيحة، وفي المقابل الشخصيات السياسية المعارضة حكّمت العقل وتجاوزت العقل الشعبي، وفضّلت الاستجابة للحوار مع رئيس بحكم الأمر الواقع، على الرغم من أنها تدرك أنّ الحراك والشارع لن يعجبه ذلك، وسيكون له موقف معترض على الحوار مع رئيس يرفع المتظاهرون في كل جمعة شعارات ضده ويصفونه برئيس العسكر".
والملاحظ أنّ تبون فضّل بدء لقاءاته السياسية مع أكثر الوجوه معارضة وراديكالية، وركز على استقبال شخصيات من داخل مربع المعارضة السياسية والمدنية وأخرى لها مواقف نقدية إزاء سياسات السلطة، في مقابل عدم استقباله حتى الآن أيّا من قادة وشخصيات الموالاة. وهي مسألة يفسّرها سجال بالقول إنّ "السلطة تركز على قوى المعارضة، باعتبارها الأكثر تأثيراً في الحراك الشعبي من جهة، ولإضعاف موقف كتلة معارضة ثانية ما زالت تتمسّك برفضها للحوار مع الرئيس والسلطة، وكذلك بمطلب مسار تأسيسي جديد يمهّد لرحيل النظام".
ويشير سجال في حديثه عن كتلة سياسية ثانية ما زالت ترفض إلى الآن الحوار مع تبون والاعتراف بواقع الأمر السياسي، إلى كتلة "البديل الديمقراطي" التي تضمّ عدداً من الأحزاب التقدمية كـ"جبهة القوى الاشتراكية" وحزب "العمال" و"التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية" وتنظيمات مدنية أخرى. وتعتبر هذه الكتلة أنه لا يمكن إقامة حوار سياسي سيّد إلا من خلال ندوة وطنية جامعة تشارك فيها كل القوى، وعلى أساس مناقشة أرضية انتقال ديمقراطي تأسيسي يؤدي إلى تفاهمات مجتمعية حول طبيعة نظام الحكم ووثيقة الدستور والمحددات العامة للمرحلة المقبلة. وتبدو هذه الكتلة أكثر انسجاماً في مواقفها مع مواقف الحراك الشعبي من جهة، وأكثر تماسكاً لجهة الموقف الموحد، وهو ما صعّب على السلطة اختراقها واستدراج أي من القوى المشكّلة لها إلى الحوار.
ويبدو أنّ تبون أقنع جزءاً من المعارضة بالحوار السياسي معه وأخفق مع إقناع كتلة ثانية، لكن الأهم في الواقع السياسي هو إقناع الحراك الشعبي بجدية الخطوات المتخذة على طريق الإصلاح السياسي والدستوري، عبر تنفيذ تدابير تهدئة قبل الوصول إلى مرحلة الحوار الشامل بشأن صياغة الدستور في غضون الشهرين المقبلين.