بدأ بومبيو مسيرته في إدارة ترامب مديراً لوكالة الاستخبارات المركزية (سي أي أيه)، حتى إبريل/ نيسان 2018، حين انتقل إلى وزارة الخارجية متربعاً على عرش الدبلوماسية الأميركية. منذ استلامه هذا المنصب، بدأ موسم رحيل العسكر عن إدارة ترامب: مستشار الأمن القومي السابق أتش آر مكماستر في إبريل 2018، وكل من كبير موظفي البيت الأبيض جون كيلي ووزير الدفاع جيمس ماتيس، في يناير/ كانون الثاني 2019. بدأ كل من بومبيو وبولتون العمل في إدارة ترامب في الشهر نفسه وكان الافتراض أنه سيكون هناك تحالف طبيعي بينهما، لكن سرعان ما بدأ الصدام بينهما، وفي النهاية خسر أسلوب بولتون في المواجهة أمام المناورات البيروقراطية الماهرة لبومبيو.
وزير الخارجية الأميركي هو المسؤول الذي لديه أكبر شبكة من العلاقات والنفوذ داخل إدارة ترامب. هو زميل سابق في الأكاديمية العسكرية الأميركية لوزير الدفاع مارك أسبر، وشارك في يونيو/ حزيران الماضي في اجتماعات القيادة المركزية الأميركية وقيادة العمليات الخاصة، فيما حضور هذه الاجتماعات من صلاحيات وزارة الدفاع. نفوذ بومبيو لا يزال متجذراً في الـ"سي أي أيه"، حيث مساعدته السابقة جينا هاسبل تدير حالياً هذه الوكالة الاستخباراتية، لكنها لا تزال تعتمد على بومبيو لتحسين علاقتها المعقدة مع الرئيس. كما نمت العلاقة أخيراً بين بومبيو ووزير الخزانة ستيف منوتشين، لأن كليهما رأى في بولتون خصماً سياسياً. هذا التحالف كان واضحاً حين ظهرا معاً في مؤتمر صحافي يوم إقالة بولتون، حيث دافع بومبيو عن قرار ترامب هذا، مشيراً إلى أن الرئيس يجب أن يعمل معه "أشخاص يثق بهم ويستفيد من جهودهم لتنفيذ السياسة الخارجية الأميركية"، فيما اعتبر منوتشين أن "وجهة نظر الرئيس من حرب العراق مختلفة جداً عن بولتون"، لافتاً إلى أنه وبومبيو "متحالفان تماماً في حملتنا لأقسى ضغط" على إيران.
كما ابتعد بومبيو عن القضايا التي كانت حكراً على صهر ترامب ومستشاره جاريد كوشنر، لا سيما في خطة الإملاءات الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية، المعروفة إعلامياً باسم "صفقة القرن"، التي اكتفى بومبيو بانتقادها في أحاديث وراء أبواب مغلقة تسربت إلى الإعلام، لكنه ظل بعيداً عن التعامل مع هذا الملف الذي كان تقليدياً من صلاحية وزارة الخارجية. كما تمكن مع الوقت من تحجيم دور المبعوث الخاص إلى إيران بريان هوك، الذي بنى علاقات قوية مع كوشنر، وأدى في فترة ما دوراً رئيسياً في تحديد السياسة الأميركية حيال طهران، قبل أن يتمكن بومبيو من استعادة صلاحياته في هذا الملف.
أبعد من ذلك، تمكن بومبيو من إقناع ترامب بتعيين صقور في الإدارة كان قد رفض سابقاً تعيينهم، مثل إليوت أبرامز في منصب المبعوث الخاص لفنزويلا. لكن حين تأزمت السياسة الأميركية في فنزويلا، وخسرت واشنطن الرهان في إسقاط رئاسة نيكولاس مادورو، سارع بومبيو إلى فرملة مقاربة أبرامز لتفادي إغضاب الرئيس. كما جلب بومبيو أسماء أخرى من الخبراء الصقور من "معهد واشنطن" المحافظ، مثل جيمس جيفري الذي يتابع ملفي سورية وتنظيم "داعش"، وديفيد شينكر الذي أصبح مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى.
لكن يبقى التحالف الأكثر أهمية بالنسبة لبومبيو علاقته مع نائب الرئيس مايك بنس، إذ يتشاركان الخلفية الإنجيلية والنظرة الدينية ذاتها للسياسة الخارجية، ويتحدثان معاً في النشاطات الرسمية في واشنطن وحول العالم. وحين سرب فريق بولتون، في 9 سبتمبر/ أيلول الحالي، أن بنس وبولتون في معسكر واحد لتقويض فكرة ترامب استضافة حركة "طالبان" في كامب ديفيد، أغضب هذا الأمر نائب الرئيس، وكان القشة الأخيرة لقرار ترامب إقالة بولتون.
العلاقة بين بومبيو وأوبراين
لم يكن أكبر اختبار لنفوذ بومبيو فقط دوره الضمني في إقالة بولتون، بل أيضاً الدور الذي أداه في اختيار خلفه روبرت أوبراين، لا سيما أن منصب مستشار الأمن القومي يُعتبر بوابة الدخول إلى الرئيس في قضايا السياسة الخارجية. وحين كان بريان هوك متصدر السباق ليكون مستشاراً للأمن القومي، خرجت مصادر من داخل الإدارة لتحذر، في تقارير إعلامية، من التشابه بين هوك وبولتون. كما تسرب تقرير المفتش العام لوزارة الخارجية الذي أوصى بإجراءات عقابية ضد هوك لمسؤوليته في صرف موظفين بدوافع سياسية. في النهاية، حصل بومبيو على مبتغاه واختار ترامب أوبراين، الذي يعرفه منذ سنوات، حتى قبل أن يستلم منصبه كمبعوث خاص لشؤون الرهائن في وزارة الخارجية.
وعلى الرغم أن أوبراين يمثل وجهة النظر التقليدية لصقور الجمهوريين، لكن اختياره كان، ليس لمواقفه السياسية، بل لسلوكه الذي يجعله مستشاراً للأمن القومي مطيعاً أكثر من بولتون. على الأرجح سيعيد أوبراين تفعيل مسار التعاون الدوري بين الإدارات والوكالات في اتخاذ قرارات السياسة الخارجية الأميركية، وهو مسار تجاهله بولتون. حتى لو كان تعيين أوبراين يعتبر "انتصاراً" لوزير الخارجية الأميركي، فإنه قد يجد نفسه مرة أخرى مضطراً لخوض معارك إدارية، لا سيما أن ترامب رئيس يغذي الخلافات بين مستشاريه ويفضل تعدد الآراء بينهم.
بومبيو ليس هنري كيسنجر
أكبر دليل على صعود نفوذ بومبيو كان الطرح المتداول بإعطائه منصب مستشار الأمن القومي، بالإضافة إلى وزارة الخارجية، أي على خطى هنري كيسنجر عامي 1973 و1975 خلال رئاسة ريتشارد نيكسون. كما كانت هناك تقارير إعلامية أميركية ضخمت نفوذ بومبيو، وقارنته بنفوذ نائب الرئيس الأميركي الأسبق ديك تشيني. لكن هذه المقارنة غير دقيقة، لأن توسيع تشيني للصلاحيات الرئاسية لخوض حربي أفغانستان والعراق أبعد ما يكون عن ممارسات ونفوذ وزير الخارجية الأميركي الحالي.
وبطبيعة الحال مايك بومبيو ليس هنري كيسنجر، ودونالد ترامب ليس ريتشارد نيكسون. بومبيو ليست لديه استراتيجيته الخاصة في النظرة إلى العالم، وترامب ليس رئيساً ينقل صلاحياته إلى مستشاريه. لكن حتى الساعة على الأقل، يبقى بومبيو أكثر المسؤولين نفوذاً في دائرة ترامب في قضايا الأمن القومي. بومبيو يعمل مع بنس لتحويل التركيز الأميركي من غرب إلى وسط أوروبا، ما يزعج روسيا، كما ينسق مع منوتشين لإبقاء سياسة "أقصى ضغط" على النظام الإيراني حتى يقبل بإعادة التفاوض على الاتفاق النووي، مهما كانت المخاطر الإقليمية نتيجة ذلك. وتقتصر نجاحات بومبيو على إحباط مساعي الرئيس بإجراء اتفاق متسرع مع كوريا الشمالية، وربطه الانسحاب الأميركي من أفغانستان باتفاق مع حركة "طالبان"، وجعل الانسحاب الأميركي من سورية مشروطاً بإجماع أميركي - تركي يبدو بعيد المنال. وتكمن إخفاقاته في عدم تمكنه حتى الآن من بلورة مشروعه لإقامة تحالف بحري دولي ضد طهران، فيما سياساته حيال فنزويلا وإيران تدور في حلقة مفرغة، من دون استراتيجية واضحة، طالما ترامب لا يرغب بأي مواجهة عسكرية في الحالتين.
وعلى عكس كيسنجر، الذي لم يكن لديه أي اهتمام بالسياسة الداخلية، لدى بومبيو طموحات سياسية لا يخفيها. وقد نسج وزير الخارجية علاقة قوية مع الرئيس جعلته يعبر بسهولة عاصفة تسريب فيديو له يصف فيه ترامب بأنه "سلطوي" مثل سلفه باراك أوباما. وسعي بومبيو لإرضاء ترامب لا يقتصر فقط على توسيع نفوذه داخل الإدارة، بل أيضاً خدمة لطموحاته السياسية، كي يترشح عن مقعد ولاية كنساس في مجلس الشيوخ، أو للرئاسة بعد رحيل ترامب عن البيت الأبيض، كما لمّح بومبيو نفسه في يوليو/ تموز الماضي. أمام بومبيو وقت حتى يونيو/ حزيران المقبل ليقرر ما إذا كان يريد الترشح عن معقد كنساس في مجلس الشيوخ، وهذا القرار يعتمد إلى حد كبير على تقييم بومبيو في ذلك الوقت لإمكانية حصول ترامب على ولاية ثانية أم لا.
في هذه الأثناء، تنمو مكانة بومبيو بين الجمهوريين، لا سيما أن منصبه يبعده عن متاهات السياسة المحلية، كما أصبح المتحدث الرئيسي على الشاشات الأميركية نيابة عن إدارة ترامب في قضايا السياسة الخارجية. لكن زيادة الكلام عن نفوذ بومبيو قد تؤدي في مرحلة ما إلى نفور ترامب، القادر على الانتقال بسرعة من التمادي بالإطراء على مستشاريه إلى المسارعة بتوبيخهم كما حصل مع ماتيس. في نهاية المطاف، يبقى نفوذ بومبيو محدوداً في ظل طموحاته السياسية وفي ظل رئيس بطباع ترامب. ويبقى إرث بومبيو أنه بقي حتى الآن في إدارة ترامب، وأنه منع الرئيس من تنفيذ سياساته الخارجية التلقائية.