تظاهرات الجنوب العراقي: استعجال حكومي للاحتواء يصطدم بأزمة ثقة

17 يوليو 2018
من التظاهرات في مدينة البصرة (حيدر أبو رزق/الأناضول)
+ الخط -
بدخول التظاهرات في مدن جنوب العراق أسبوعها الثاني مسجّلة أوسع وأطول احتجاجات منذ عام 2003، تُكثّف حكومة حيدر العبادي مساعيها لاحتواء الأوضاع ومنع تدهورها، عبر حزمة إجراءات لتسكين "ألم" الجنوب. إلا أن هذه الإجراءات تقابلها أزمة ثقة مع الحكومة والأحزاب، في ظل ارتفاع أعداد ضحايا التظاهرات إلى 11 قتيلاً وما يقارب 500 جريح، ما يجعل الشكوك كبيرة بمعالجة المطالب، خصوصاً مع حديث السلطات عن وجود مندسين ومخربين داخل الحراك الاحتجاجي. ويشارك الآلاف من أبناء البصرة وذي قار والقادسية والمثنى وبابل والنجف وكربلاء وميسان وواسط بالتظاهرات وبنسب متفاوتة لجهة أعدادهم والمناطق التي خرجوا فيها بتلك المحافظات، فيما لفت أمس الاثنين، حراك لناشطين مدنيين ومنظمات حقوقية وإنسانية لتنظيم تظاهرة في ساحة التحرير وسط العاصمة بغداد تحت عنوان تأييد احتجاجات الجنوب. وعلى الرغم من اختلاف شعارات ومطالب المتظاهرين من منطقة إلى أخرى، إلا أن هناك عوامل مشتركة بدت عفوية أيضاً بينهم، من أبرزها التنديد بالأحزاب الدينية، مع إحراق 17 مقراً للأحزاب في الجنوب حتى الآن، إلى جانب مقرات لمليشيات مقربة من إيران، إضافة إلى رفع شعارات تعتز بالهوية العراقية، فيما تتفاوت المطالب الخدمية بين توفير وظائف وفرص عمل وكهرباء وماء صالحة للشرب، وإصلاح واقع المستشفيات والمدارس، وإقالة مسؤولين محليين في محافظاتهم ومناطقهم.

واتسعت رقعة التظاهرات أمس الاثنين، لتشمل لأول مرة مدينة الحلة مركز محافظة بابل جنوبي بغداد، فيما تجددت موجة الاحتجاجات في البصرة، وتحديداً في القبلة والمعقل والزبير وخور الزبير وأبو الخصيب والمدينة وشط العرب، وفي الناصرية بمحافظة ذي قار، وفي النجف مركز محافظة النجف، وكذلك المشخاب، وفي ميسان وتحديداً مدينة المجر الكبير والعمارة، وفي مدينة السماوة بمحافظة المثنى وبلدات أخرى مجاورة لها، وفي كربلاء في مركز المدينة، إضافة إلى قضاء الهندية، وفي القادسية تركزت في مناطق الديوانية والدغارة.
ودخلت عشائر مستقلة جغرافياً على خط الاحتجاجات، إذ قطعت عشيرة خفاجة طريق بغداد - ذي قار لساعات، قبل أن تفتحه للمواطنين والقوافل التجارية. كما قطع أفراد من عشيرة بني تميم طريق العمارة ـ البصرة أيضاً، فيما توافد المئات من أبناء القرى إلى مراكز المدن للمشاركة في التظاهرات.

ووفقاً لمصادر أمنية عراقية، فقد بلغ عدد الذين تم اعتقالهم أكثر من 800 عراقي من جنوب البلاد، جرى القبض عليهم داخل منازلهم أو في مواقع التظاهرات، وقسم آخر جرحى اعتُقلوا من مستشفيات الجمهورية والنجف والمثنى من قبل قوات "سوات" والشرطة الاتحادية التي أعلن مسؤول فيها أنهم رصدوا متظاهرين من غرب العراق، متهماً إياهم بالتورط في أعمال العنف، وهو ما نفته حكومة البصرة المحلية. بينما أعلن المتحدث باسم الداخلية العراقية اللواء سعد معن، عن حصيلة جديدة للضحايا، بلغت 487 جريحاً، من دون أن يذكر عدد القتلى، غير أن تقارير طبية عراقية أكدت سقوط 11 قتيلاً بعد وفاة شاب في مستشفى النجف متأثراً بطلق ناري أصيب به خلال تظاهرات في منطقة الرقبة.

حزمة إجراءات للاحتواء
في هذه الأجواء، أصدر رئيس الوزراء حيدر العبادي، بياناً أمر فيه بترقية ضباط في الجيش والداخلية، ضمن جدول الترفيعات السنوية، الذي بدا أنه جاء مبكراً هذا العام. وأعلن مركز الإعلام الأمني المرتبط بمكتب العبادي والذي يتولى عملياً إصدار البيانات الأمنية والعسكرية، أن العبادي أمر بترقية ضباط في وزارتي الدفاع والداخلية. ورأى مراقبون أن القرار له علاقة باحتجاجات جنوب العراق، واعتماد الحكومة بشكل كلي على الجيش والشرطة في إخماد التظاهرات هناك، خصوصاً أن الإعلان عن الترقية الجديدة للضباط جاء مبكراً هذه المرة على خلاف السنوات السابقة إذ عادة ما تكون مع نهاية كل عام.


في غضون ذلك، كشف موظف رفيع في مكتب العبادي، أن الأخير "يستعد لإطلاق حزمة إصلاحات جديدة، من بينها سحب يد مسؤولين بارزين في الدولة بوزارات الكهرباء والبلديات والري، إضافة إلى مسؤولين محليين في محافظات جنوب ووسط العراق ترددت أسماؤهم في شعارات المتظاهرين". وأضاف المصدر نفسه لـ"العربي الجديد"، أن الإصلاحات ستشمل تحويل عدد منهم إلى محكمة النزاهة والقضاء الإداري، كما ستشمل إطلاق تخصيصات لمحافظات الجنوب والوسط، وإلزام شركات النفط والغاز الأجنبية بأن تكون العمالة العراقية لديها لا تقل عن نصف كادرها، وكذلك شركات الاستثمار الأخرى، عدا عن فتح مكاتب في المحافظات لتسلّم طلبات التعيين والإعانة وتوفير وقود مجاني للمولدات الأهلية في المناطق السكنية ليتسنّى تجهيز المواطنين بالكهرباء على طول اليوم. ولفت إلى أن رئيس الوزراء يتباحث مع زعماء كتل شيعية مختلفة حول تلك القرارات، كون غالبية المسؤولين المحليين الذين ستطاولهم حزمة الإصلاحات ينتمون لكتل سياسية شيعية.

من جهته، قال الشيخ حامد حسين المنصوري، وهو أحد زعماء بني منصور في البصرة ويُعد من الناشطين في التظاهرات الحالية، إن "المشكلة هي أزمة ثقة مع الحكومة الحالية وكل الأحزاب". وأضاف المنصوري في حديث لـ"العربي الجديد": "كل الوعود لن تُنفذ ونحن نعلم ذلك، وإن نفذت فشيء يسير منها، فالعملية السياسية مدعومة من دول إقليمية وأجنبية على الرغم مما فيها"، متابعاً: "بات الناس يشعرون أنهم في ورطة حقيقية مع هذه الحكومة، واليأس أصبح واضحاً، ومعدلات الانتحار ارتفعت، كذلك الفقر والبطالة والأمية والأمراض والتخلّف، فكل شيء ارتفع إلا الإنسان العراقي الذي لا يهتم أحد به، والدليل فتح النار على المتظاهرين على الرغم من أنهم لا يملكون سوى قناني المياه"، كاشفاً عن أنّ اثنين ممن قُتلوا في التظاهرات هما "من ذوي شهداء الحشد الشعبي".

وحول مطالب المتظاهرين، قال المنصوري: "لا توجد مطالب واحدة، فكل منطقة خرجت تشكو همها في الشارع. هناك من خرج بسبب البطالة والفقر، وآخر يريد كهرباء، وثالث يعترض على الفساد، وآخر يريد مستشفيات لائقة، ورابع كره شعور أن يستمر الكذب عليه من قبل الأحزاب، ولكن الكل موحّد في مطالبه وهو أننا لا نريد إرجاع العراق كما قال العبادي للمربع الأول، ولا نريد تغيير أو قلب نظام الحكم، ولسنا بعثيين كما قال أعضاء في حزب الدعوة، ولا رعاعاً كما وصفنا أحد أعضاء البرلمان، وكل ما نريده هو إنهاء المهزلة الحالية ومنح الناس حقوقهم من كهرباء وماء وخدمات ووظائف مثلنا مثل أي دولة بالعالم". وأشار إلى أن "هناك لجاناً خُلقت من رحم التظاهرات اعتُبرت منسقة، وهي متعددة في كل منطقة من مناطق الجنوب، وندرك أن إخواننا في الغرب والشمال غير قادرين على المطالبة بحقوقهم حالياً لذا نحن نطالب بدلاً عنهم". وختم بالقول "هناك وفود من بغداد تستعد للمجيء إلى البصرة والنجف وذي قار ومدن أخرى، وعليها مقابلة الناس في الشارع والسماع منهم أولاً".

الحكومة العراقية: التظاهرات مخترقة
مقابل ذلك، قال المتحدث الرسمي باسم الحكومة العراقية، سعد الحديثي، لـ"العربي الجديد"، إن "مافيات وعصابات داخل المتظاهرين تريد حرف مسار المطالب المشروعة للعراقيين في الجنوب". وأوضح أن "الحكومة العراقية تعمل الآن وفق مسارين، الأول هو الاستجابة السريعة والجدية لمطالب المتظاهرين، عبر أمور إجرائية، متمثّلة بقرارات صدرت عن مجلس الوزراء واللجنة الوزارية المكلفة بملف التظاهرات، وبإشراف مباشر من رئيس الوزراء حيدر العبادي"، مشيراً إلى أنه بعد أن زار العبادي البصرة والتقى بالحكومة المحلية فيها ومديري الدوائر الخدمية وكذلك وجهاء وشيوخ العشائر، واستمع إلى مطالبهم، "تم إطلاق التخصيصات المالية بصورة فورية لتنشيط وتفعيل الواقع الخدمي في المحافظة، فضلاً عن توفير الاحتياجات الأساسية، وهذا يؤكد جدية الحكومة بالاستجابة والتفاعل بإيجابية مع التظاهرات، فالحكومة عازمة على تنفيذ مطالب المتظاهرين المشروعة". أما المسار الثاني، بحسب الحديثي، "فهو تأمين حق التظاهر السلمي، لأنه حق مكفول للعراقيين، بشرط عدم الاعتداء على أفراد الأمن، ومنع أعمال الشغب والعنف والتخريب والتعدي على الممتلكات العامة والخاصة، وأي مسعى خلاف ذلك، فالقوات الأمنية لديها توجيهات مشددة للتعامل مع المخربين بحزم".

وعن أسباب عدم توفير وظائف وأموال لأهل البصرة والجنوب قبل انطلاق التظاهرات، قال الحديثي "حدث تغيير في الواقع الاقتصادي العراقي خلال الشهرين الماضيين، وبدأ النفط ينمو على مستوى الأسعار عالمياً، وهذا أعطى مساحة لحركة الحكومة ومجلس الوزراء، فالحكومة لم تكن تستطيع توفير الدرجات الوظيفية قبل هذا التاريخ بسبب الضائقة المالية التي مرّت بها البلاد، بسبب الحرب على داعش"، موضحاً أن "هذه الوظائف ليست مرتبطة بصورة مباشرة بالتوظيف في الحكومة، إنما هناك عقود على مستوى الشركات العاملة في مجال استثمار النفط والطاقة، بإطلاق 10 آلاف درجة وظيفية تندرج ضمن وظائف وعقود".

وتحدث الحديثي عن أن "المعلومات الاستخباراتية التي حصلت عليها الحكومة العراقية، تقول إن هناك مجموعات تعمل بصورة منظّمة لاستثمار أجواء التظاهر، وإشعال فتيل الفتنة بين المتظاهرين من جهة، وبين المتظاهرين والمؤسسات الأمنية من جهة أخرى، لإحداث أعمال تخريبية"، متابعاً: "لدينا معلومات عن وجود مافيات وعصابات فساد تضررت مصالحها خلال السنتين الماضيتين، بسبب إجراءات الحكومة في التصدي لنشاطها وشلّ حركتها، وبذلك فهذه المافيات فقدت موارد تمويلها، وهي الآن تحاول أن تستثمر أجواء التظاهرات لخلق الفوضى وإعادة تنظيم نفسها والحصول على موارد جديدة". وحذر "المتظاهرين من هؤلاء المندسين والمخربين ذوي الغايات غير النزيهة"، مشدداً على أن "الحكومة العراقية مسؤولة عن توفير الأمن لكل المنشآت الحكومية والمؤسسات العامة والدوائر الحكومية والممتلكات الخاصة للمواطنين، والمشاريع الاستثمارية في العراق، ومقار الأحزاب".

وحول كيفية تعامل الحكومة مع ملف الضحايا من قتلى وجرحى التظاهرات، قال الحديثي: "نحن نميّز بين المتظاهرين السلميين الذين خرجوا بمطالب مشروعة، وبين المافيات والعصابات التي اصطدمت بالقوات الأمنية، فهناك عدد كبير من أفراد الأمن سقطوا جرحى، وهذا يدل على حدوث اعتداءات من قِبل بعض المتظاهرين". وأكد على الحق "بالتظاهر السلمي، كما أن أي تجاوز حصل من قبل أفراد المؤسسات الأمنية، سيتم اتخاذ الإجراء اللازم تجاهه من خلال لجان التحقيق التي تشكّلها الحكومة العراقية".
وحول قطع الإنترنت، أصر الحديثي على اعتبار ذلك خللاً وليس عملاً متعمداً من الحكومة، موضحاً أن "ما حصل من قطع في شبكة الإنترنت هو خلل فني، ويجري العمل على إصلاحه بشكل سريع، وقد عادت الخدمة بشكل بطيء، وسيتم تنشيطها خلال الأيام المقبلة"، مشدداً على أن "الخطوات التي تقوم بها الحكومة العراقية هي لمعالجة هذا الخلل، من خلال الفرق التقنية العاملة عبر إصلاح العطب الذي حصل نتيجة عمل تخريبي وإعادة الخدمة بشكل كامل"، خاتماً بالقول: "لم تتدخل الحكومة العراقية وما حدث هو خلل فني، وتم التعامل معه بصورة مباشرة من قبل وزارة الاتصالات".


(شارك في التغطية، من النجف: علي الحسيني، ومن ذي قار: عباس القريشي)