عاشت العاصمة المصرية القاهرة ساعات من الرعب، في أعقاب حادث التفجير الهائل الذي شهده محيط معهد الأورام، بكورنيش النيل (البحر الصغير) بين منطقتي المنيل وقصر العيني، قبل منتصف ليل الأحد الإثنين، وأسفر عن مقتل أكثر من 20 مصرياً، بينهم طفل، وإصابة أكثر من 47 آخرين، فضلاً عن حدوث أضرار بالغة في مبنى المعهد وأدواته ووسائله العلاجية وتهشيم واجهته بالكامل وتصدّع المباني المحيطة به، ما دفع جامعة القاهرة (الجهة التي يتبع لها المعهد) بالتعاون مع وزارة الصحة، إلى إخلاء عشرات من مرضى السرطان ونقلهم إلى مستشفيات حكومية أخرى لاستكمال علاجهم.
وبعد صمت استمر ساعات إزاء هذه الفوضى والارتباك الذي زرع الرعب في نفوس المصريين من جراء حادث غير مسبوق، أصاب قلب العاصمة وواحداً من أكثر شوارعها الرئيسية ازدحاماً على مدار الساعة، ومستشفى حكومياً معروفاً بأنه قبلة مرضى السرطان، أصدرت وزارة الداخلية بياناً مقتضباً عزت فيه سبب الحادث إلى اصطدام سيارة كانت تسير عكس الاتجاه بثلاث سيارات أخرى. لكن هذا التوصيف الذي دحضته بسهولة روايات شهود العيان والمصادر الأمنية التي تواصلت معها "العربي الجديد" من مباحث الأمن العام والحماية المدنية، لم تتأخر الداخلية نفسها في التراجع عنه، بعدما أعلنت بعد مضيّ أكثر من 12 ساعة على التفجير، أن عملاً إرهابياً وراء انفجار معهد الأورام. وأشارت في بيانها الجديد إلى أن إجراءات الفحص والتحري وجمع المعلومات للأجهزة المعنية، انتهت إلى تحديد السيارة المتسببة في الحادث، وتحديد خط سيرها، لافتاً إلى أنها إحدى السيارات المُبلغ بسرقتها من محافظة المنوفية منذ بضعة أشهر، وكان بداخلها كمية من المتفجرات أدت إلى انفجارها عند وقوع التصادم، حيث كان من المقرر نقلها إلى أحد الأماكن لاستخدامها في عملية إرهابية. وأشارت إلى "توصل التحريات إلى ضلوع حركة حسم التابعة لجماعة الإخوان المسلمين في تجهيز السيارة، وأنه جار جمع المعلومات لتحديد العناصر المتورطة"، لكن "حسم" نفت صلتها بالحادث مساء أمس.
وعقب البيان الجديد من الداخلية، شدد الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، على أن الدولة المصرية بكل مؤسساتها "عازمة على مواجهة الإرهاب الغاشم، واقتلاعه من جذوره، متسلحة بقوة وإرادة شعبها العظيم"، في إشارة إلى أن عملاً إرهابياً وراء انفجار معهد الأورام.
ومما عزز الشكوك في عدم مصداقية الرواية الأولى لوزارة الداخلية، إقدام الشرطة على تنظيف موقع الحادث وردم الحفرة الأرضية التي خلّفها الحادث، والتي لا يمكن أن تخلّفها إلا قوة تفجيرية كبيرة تحملها سيارة مفخخة، مما يجمع دلائل منطقية وتقنية عديدة على أن الحادث إرهابي تخريبي وليس عرضياً.
وقبل صدور بيان الداخلية الجديد، قال مصدر في الحماية المدنية لـ"العربي الجديد" إن كل الدلائل تشير إلى أن سيارة على الأقل كانت مفخخة في مكان الحادث، وأنه لا يمكن أن تتفحم السيارات بهذه السرعة في أسوأ أحوال انفجارات السيارات ذاتياً أو بالتصادم، مشيراً إلى أن السيارات التي دمّرها الحادث تماماً، إحداها كورية الصنع والثانية أوروبية والثالثة حافلة صغيرة (ميكروباص) والرابعة قديمة ومحلية الصنع، كما تحطمت جزئياً 8 سيارات أخرى، ونُقلت جثث الضحايا إلى مستشفى معهد ناصر.
وأضاف أنه عند وقوع الحادث تصوّر أن يكون عرضياً وناجماً عن انفجار أنابيب داخل معهد الأورام، لكن بالانتقال السريع إلى مكان الحادث تبين على الفور للمتخصصين "أن سيارة مفخخة على الأقل هي سبب ما حدث"، وأن جميع وصلات الغاز والكهرباء داخل المعهد سليمة، موضحاً في الوقت نفسه أن الأقدار تدخلت لمنع كارثة كانت يمكن أن تودي بأرواح آلاف البشر، لأن المستودع الرئيسي للأوكسجين الخاص بمعهد الأورام كان بعيداً عن مكان الانفجار بأقل من 5 أمتار، ولولا أنه محاط بقدر عال من التأمين لكان قد تعرّض للانفجار هو الآخر. وأوضح المصدر أنه فور رفع هذه المعلومات لمكتب وزير الداخلية صدرت تعليمات لضباط الحماية المدنية بعدم التحدث مع وسائل الإعلام، وتوجيه الصحافيين لاستقاء المعلومات من المركز الإعلامي الرسمي للوزارة، والاكتفاء بالبيان الذي خرج لاحقاً متبنياً سيناريو التصادم.
من جهته؛ قال مصدر شرطي آخر في الأمن العام، إن معاينة مسرح الحادث ومتابعة مقاطع الفيديو الخاصة بكاميرات المراقبة المثبتة في مباني المنطقة، بما فيها معهد الأورام ذاته، تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الحادث تخريبي، اشتركت فيه سيارتان على الأقل، وأن الانفجار تم تلقائياً بضبط زمني مسبق للعبوة الناسفة أو بادئ التفجير الذي كانت إحدى السيارتين تحتوي عليه، كما تدل المؤشرات الأولى للتحقيق على أن التفجير حدث في مكان غير المكان المقصود أو الهدف النهائي للسيارة المفخخة.
وأضاف المصدر أن بيان الداخلية لم يشر إلى أن السيارة التي تصادمت مع الأخريات مفخخة أم لا، تحسباً لتغيير الرواية لاحقاً وتبنّي الرواية الحقيقية التي تشير إليها الأدلة المختلفة، لكن البيان صدق في أن السيارة، التي تظهر المقاطع والأدلة أنها مفخخة كانت تسير عكس الاتجاه فعلاً، أو حاولت الدخول في مكان غير مخصص لها عكس اتجاه السير، وأن ميكروباص اعترض طريقها بصورة عرضية ليعطل سيرها نحو هدفها النهائي غير المعروف لحد الآن، ثم انفجرت السيارة على الفور وتلقى الميكروباص معظم الطاقة التفجيرية ومعه بضع سيارات أخرى، فمنع ذلك تضرر مستودع الأوكسجين القريب أو المبنى بشكل مباشر.
وذكر المصدر أن اللغز الذي تحاول المباحث والأمن الوطني والمخابرات العامة، حلّه، يتمثل في الوجهة النهائية التي كانت السيارة المفخخة تسعى للوصول إليها وفشلت، وتم التفجير بواسطة المؤقت الزمني سابق التجهيز قبل الوصول، وأن هناك احتمالات عدة تفكر فيها الشرطة، منها أن السيارة كانت متجهة نحو شارع قصر العيني حيث تقع العديد من المنشآت الحكومية المهمة، كمجلس الوزراء والبرلمان ووزارات الصحة والإسكان والتموين والتعليم العالي، فضلاً عن السفارتين الأميركية والبريطانية، ومنها أن السيارة كانت متجهة نحو حي المنيل المكتظ بالسكان لإيقاع أكبر عدد ممكن من الضحايا المدنيين، ومنها، وهو الاحتمال الأكثر خطورة، على حد قول المصدر، أن السيارة كانت تستهدف بالفعل مستودع الأوكسجين الذي انفجرت أمامه، لأن استهداف منشأة طبية بهذه الصورة يعكس رفع الجماعات القائمة على العنف ضد الدولة سقف أهدافها إلى أعلى مدى ممكن، وعدم مراعاة اعتبارات وجود المدنيين أو المرضى، وتعريض آلاف المواطنين لخطر الموت المحقق، فضلاً عن تدمير البنية التحتية للدولة.
وأكد المصدر أن على رأس الأسباب التي دعت الشرطة هذه المرة إلى عدم الإسراع بإعلان التفاصيل كاملة، أن مصر تلقت منذ أقل من شهر تحذيرات فعلية من دول مختلفة، على رأسها بريطانيا، باحتمال وقوع عمليات إرهابية، وقد كان هذا فحوى القرار المفاجئ الذي اتخذته شركة الخطوط الجوية البريطانية بوقف رحلات الطيران إلى القاهرة أسبوعاً. كما أن هناك اعتباراً آخر يتمثل في خطورة التسليم بعودة السيارات المفخخة وحرب المفخخات مع المجموعات الإرهابية، بعدما استطاعت الدولة حصر معظم المواجهات على مدار السنوات الثلاث الأخيرة في شمال شرقي سيناء، حيث انخفضت بصورة ملحوظة حوادث التفجير داخل العاصمة. ويبدو أن هذه الاعتبارات هي التي دفعت المخابرات العامة، المتحكمة حالياً في وسائل الإعلام المصرية الرسمية والخاصة، إلى إصدار تعليمات بـ"التعاطي فقط مع البيانات الرسمية وعدم نشر تصريحات من مصادر مجهلة أو شهود عيان، انتظاراً لما ستسفر عنه التحقيقات وإرادة النشر من عدمه من قبل الجهات العليا، لا سيما أن الحادث يأتي في وقت تثير فيه دول غربية عديدة شكوكاً حول نجاح الرئيس عبد الفتاح السيسي في مواجهة الإرهاب في شمال شرقي سيناء والحفاظ على الأمن في وادي النيل.
وتواصلت "العربي الجديد" مع عدد من شهود العيان الذين كانوا يمرّون بالواقعة أو قريبين منها، وأشار شابان كانا على بعد أمتار من حادث التفجير أن السيارة التي انفجرت كانت من ماركة "كيا" كورية الصنع، وأن شخصاً في العقد الثالث من عمره تركها واستقل سيارة أخرى قبل لحظات من الانفجار. وذكر شاب آخر أن بعض السيارات كانت متوقفة بالفعل في المكان ويصعب تحديد السيارة التي بدأت الانفجار، لكن قبلها بلحظات حدثت مشادة بين سائقي عدد من السيارات بسبب رغبة أحدهم في التوقف أمام أحد أبواب المعهد في الاتجاه المخالف، وهذه الرواية تتفق إلى حد كبير مع رواية مصدر الحماية المدنية.